أ.د.طه جابر العلواني
مررت في دراسة موضوع المقاصد بمرحلتين. المرحلة الأولى هي دراسة المقاصد التقليديَّة منذ الغزالي وإمام الحرمين مرورًا بالشاطبي وابن عاشور وعلَّال الفاسي؛ حيث انبثقت هذه المقاصد عن فكرة البحث عن حِكَم التشريع؛ لإثبات أنَّ كل هذه التشريعات لها حِكَم ومقاصد وغايات ومصالح، وهو أمر حسن وجيِّد، وقد اشتمل ذلك على الدفاع عن الشريعة في ظروف مختلفة، ونفع الله به وأفاد.
وجاءت مرحلة ثانية؛ والتي أرى أنَّ علينا أن نركز فيها على مقاصد القرآن العليا الحاكمة، التي يمكن أن تكون توليديَّة؛ أي قادرة على توليد أحكام للمستجدات في عصرنا هذا وفي غيره. وفي جهودي المتواضعة وجدت أنَّ هذه المقاصد خمسة؛ هي:
التوحيد: وهو حق الله على العباد.
التزكية: وهي ما يؤهل الإنسان إلى الفلاح والنجاح للوفاء بعهد الله تعالى، والقيام بمهمة الاستخلاف، وحفظ وأداء الأمانة التي حملها الإنسان، والفوز والنجاح باختبار الابتلاء، والإيمان بالجزاء الأخروي.
والعمران: وهو حق المسخَّرات التي سخَّرها الله لنا حين جعل الأرض مهادًا، والسماء سقفًا مرفوعًا، وسخَّر لنا الشمس والقمر والنجوم مسخَّرات بأمره، فهذا الكون يستحق منَّا العمران؛ فنعمّره بالحق والعدل، ونقيم فيه حضارة لا تنفصل عنها القيم، تبني ولا تهدم، تحمي ولا تهدد، تقتصد ولا تبدد.
4-الأمّة.
5_الدعوة.
لأجل ما سبق فإنَّني أتمنى أن يتّجه الشباب في رسائل الدكتوراة والبحوث المتعمِّقة إلى بحث هذه المقاصد، وكيفيَّة التصديق بها على الموروث؛ لتنقيته وتطهيره، وإعادة ربطه بالكتاب الكريم، وفي الوقت نفسه تكون قادرة على التوليد.
أمَّا مقاصد الشريعة كما تحدث عنها إمام الحرمين والغزالي ثم ابن عبد السلام وابن عربي والشاطبي مرورًا بالشيوخ المعاصرين فقد قُدِم فيها الكثير، ولم تُفَعَّل لأنَّها تفتقر إلى آلية التفعيل التي لا يمكن أن تأتي إلا من القرآن الكريم ومنهج النبي -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- في اتباعه.
فإن أُخِذ مقصد التوحيد فينبغي أن يكون التركيز على كيف يَبني التوحيد المنظور التوحيديّ القرآنيّ في كل نظم الحياة ومناهجها، وبذلك تُبنى الرؤية الكليَّة القرآنيَّة التي تستوعب الرؤية الكونيَّة وتتجاوزها.
وإن أُخِذ مقصد التزكية فالباب أمامنا مفتوح جدًّا من خلال الانحرافات الحضاريَّة التي جعلت بعض الجوانب الحضاريَّة مدمِّرة للحياة الإنسانيَّة والبيئة والطبيعة، وما إلى ذلك، وكيف لا يتم الخلاص من ذلك وأيَّة آفات أخرى وأمراض نشهدها -مما يعتبره بعضٌ أعراضًا جانبيَّة للحضارات لا بد منها- فإنَّها أمور لن تسعد الإنسان، ولن ترضي الله عنه، ولن تسلكه في عداد المصلحين الذين لا يعيثون في الأرض فسادًا، وفي الوقت نفسه لا يريدون علوًا في الأرض.
وإن أُخِذ العمران فأمامنا المجال الواسع الذي نبيِّن فيه مقاصد القرآن في العمران فيما يتعلق بإحياء الأرض، وتنمية البيئة، والاستفادة من جميع المسخَّرات، والإحسان في توزيع المقدَّرات، والسعي نحو السلام، والنظر إلى كل ما يعود على الأرض بإلإعمار، وعلى الحياة بالخير والاستقامة على أنَّه عبادة من العبادات.