أ.د.طه جابر العلواني
آل الحكيم أسرة عربيَّة شيعيَّة، لها في نفسي مكانة خاصَّة، فقد كنت بتأثير شيخي الزهاوي -يرحمه الله- أحاول الابتعاد عن الطائفيَّة والتعصب المذهبي، وأدرب نفسي وأربيها على ذلك حتى أشعر أنَّني شفيت من ذلك تمامًا. وكان شيخي الزهاوي -يرحمه الله- إذا ذَكَر أيُّ أحد بين يديه الشيعةَ أو أيَّةَ طائفة من المسلمين بسوء ينتفض غضبًا، ويؤنب ذلك الشخص، ويقول بلهجته اللطيفة: “أفندي، هؤلاء إخواننا يشهدون مثلنا شهادة الحق، يستقبلون القبلة نفسها، ويتمسكون بالكتاب الكريم الذي نؤمن به جميعًا ونتمسك به، فلا يجوز لأحد بحال من الأحوال أن يتحدث عن الطوائف والمذاهب الأخرى بسوء”.
أمَّا عنّي؛ فقد كنت ألاحظ نفسي وأراقبها، فإذا أحسست بأي شعور سلبي قد يؤدي إلى موقف طائفي رفضته وقاومته، إلى أن برئت تمامًا من أيَّة نزعة طائفيَّة، وكل مَنْ يعرفني من سائر المذاهب الإسلاميَّة والفرق يعرف ذلك عني.
وحين ابتلي العراق في الستينيَّات بما عُرف بالمد الأحمر، اجتمعتْ -بفضل الله- كلمة السنَّة والشيعة معًا على مقاومة ذلك المد، والذي كان يهدد باكتساح العراق. وقد تعرض كل من علماء السنَّة وعلماء الشيعة للإهانة من الشيوعيين ، وكان في مقدمة أئمة الشيعة السيد/محسن الطباطبائي الحكيم، وهو -آنذاك- المرجع الأعلى للشيعة في العالم كلّه، وقد ثرنا لإهانته من قبل الشيوعيين، وقاومنا، وقدمنا تضحيَّات كثيرة، وكان -يرحمه الله- يحفظ ذلك الجميل، ويعتز به. وحين أسسنا الحزب الإسلاميّ العراقيّ في الستينيَّات -وهو غير الحزب القائم حاليًا- كنت عضوًا للجنة المركزيَّة للحزب -آنذاك- لمدة لم تطل، وزرنا السيد الحكيم، وطلبنا منه أن يكون الأب للحزب، وأن يأذن لنا بأن نقول بأنَّه هو الرئيس الأعلى للحزب. وبأدب المراجع المعهود قال يرحمه الله: “أنا لا أستطيع -وأنا المرجع الأعلى للشيعة- أن يُقال عني أنِّني انضممت لحزب، لكنَّني أعدكم أن أؤيدكم بكل قواي، وأن أعتبركم أبنائي، وأقوم بما أستطيع لنصرتكم ومؤازرتكم، فامضوا على بركة الله، وأنا معكم”، وقد وفَّى الرجل -يرحمه الله- بما قال.
وكان بين آية الله الحكيم وشيخي الزهاوي علاقة متينة، فالسيد الحكيم قلَّ أن يُذكر شيخنا الزهاوي بين يديه ولا يدعو له، ويقول بأنَّ الله قد نصر الإسلام بهذا الرجل، ونصرنا به في مواقف عديدة، وأنَّه لأفقه مَنْ أعرف في هذا الزمن، ولو أنَّ فقه أبي حنيفة ضاع لأملاه الزهاوي عن ظهر قلب. وكان شيخنا الزهاوي -يرحمه الله- يذكره ويذكر الخالصي وآخرين بالخير الكثير، وكان السيد عبد الزهرة الصغير صديقًا حميمًا لنا، وكثيرًا ما نقيم أنشطة مشتركة في تلك الفترة التي نستطيع أن نقول إنَّها ربطت بين الشيعة والسنَّة في العراق بأوثق رباط، كما فعلت قبل ذلك ثورة العشرين[1]، وبناء على تلك المواقف، فقد وَرِثْت صداقة الابن الأكبر للمرجع الحكيم السيد مهدي؛ وكان جارًا لي في منطقة الكرادة الشرقيَّة، وكنَّا نتزاور كثيرًا ونتشاور في مختلف الأمور. أمَّا السيد محمد باقر الحكيم فقد كان شابًا صغير السن يعيش مع والده، ويقوم بما يشبه أعمال السكرتارية له، وكان الذين يزورون والده يعرفون السيد محمد باقر الحكيم بهذه الصفة، وقد لقيته بعد ذلك وتوثقت بيننا أواصر صداقة، لكنَّها لم تكن بمستوى صداقتنا؛ سيد مهدي -يرحمه الله- وأنا. وقد شاركت في حفل تأبينه الذي أقيم بعد استشهاده في واشنطن، وحين دعتني محطة المنار؛ التي كانت تصور فيلمًا وثائقيًّا عنه اعتذرت عن المشاركة؛ لأنَّ الظروف قد تغيرت.
إنّ الطائفيَّة السياسيَّة التي اجتاحت العراق لم تُبقِ ولم تذر، وكان الناس كما في قوله تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مُّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ …﴾ (الأعراف:169) فاعتذرت -آسفًا- عن المشاركة في ذلك الفيلم الوثائقي؛ لأنَّنا نمر في العراق خاصَّة -وقد انتقلت الشرارة إلى البحرين وهي على أشدها ما تزال تحاول أن تفتك بسوريا ولبنان والخليج- بتمزق طائفي، فلم أرد أن آخذ من أمجاد تلك الفترة المباركة شيئًا يتحول إلى مكاسب سياسيَّة لِخَلَفٍ لم يستطيعوا الترفّع والتعالي عن مستنقعات الطائفيَّة السياسيَّة؛ فوقعت تلك الأحداث المؤسفة، وذبح آلاف على الاسم والهُوِيَّة من قبل الطرفين، وهُدِّمت مساجد وحسينيَّات، ونسفت مواقع عبادة تعود لكل من الطائفتين، ولم تتوقف الطائفيَّة السياسيَّة التي استفادت من أسماء سلف صالح لتصب الزيت الطائفيّ لرفعة خلف تناسوا ما كان عليه الآباء والأجداد.
لما سبق وددت أن أقول هذا؛ لتعلم المنار ويعلم إخواني وأبنائي من أسرة الحكيم أنَّ المتغيرات التي حدثت حالت بيني وبين واجب كنت أتمنى القيام به، لولا ذلك التغيير، وأسأل الله -سبحانه وتعالى- الرحمة للشهداء الذين أعطوا نفوسهم، وجادوا بها، وللذين قتلوا وهم لا يعلمون لِمَ قتلوا، وعلى أي شيء قتلوا، وإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.
[1] قام الشعب العراقي بثورة عام 1920م والتي سميت بثورة العشرين وشملت معظم المدن العراقية لمقاومة النفوذ البريطاني وسياسة تهنيد العراق تمهيدا لضمه للتاج البريطاني أو ما يسمى دول الكمنويلث، وكذلك بسبب سوء معاملة الإنجليز للعراقيين، وانتشار الروح الوطنية والوعي القومي بينهم.