Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

النَّظم القرآنيَّ

أ.د.طه جابر العلواني

إنّ النَظْم يُولِّد معاني متجددة بتجدده وإيقاعاته، مما يُحدث تأثيرًا في المتلقي ويقوي صلته بالفكرة التي ينقلها النص المنظوم، وكلما قويت الصلة بين المتلقي وبين الخطاب/ النص- زادت سعادة المتلقي بما يتجدد لديه من معاني، وبالأفكار الكامنه في النص -إن كان في النص إمكانات الانطواء على مكنونات من المعاني- بكثافة ألفاظ وعلامات نظميَّة يدركها الممارسون لتدبُّر ذلك النظم.

لقد اتفقت كلمة البلاغيّين وأهل اللغة أنَّه ليس للفظة المنفردة في ذاتها ولا في جرسها ودلالتها المفردة ميزة أو فضل، فالكلمة قول مفرد وليست كلامًا، ولا يحكم عليها بأي حكم قبل دخولها في سياق لغوي ما؛ ولذلك كانت المعاني -لا الألفاظ- هي المقصودة في بناء النظم والتأليف. وقد نُقل عن عمر -رضي الله عنه- قوله: “كنت قد زورت في نفسي كلامًا، فسبقني إليه أبو بكر”؛ أراد بذلك أنَّه هيَّأ في نفسه كلامًا، وقبل أن ينطق به ويبرزه في الخارج نطق أبو بكر بمثله. ويقول د. عبد القادر حسين: “…لذلك كان نظم القرآن أعدل الآراء في وجوه الإعجاز وبيان سببه، وهذا الرأي هو الذي مال إليه الحُذّاق من أهل الصنعة، وأخذ به الجمهور من العلماء”([1])، ويقول الجرجاني: “إنَّ مَدارَ أمرِ النّظم على مَعاني النّحو وعلى الوجُوهِ والفُروق التي من شأنها أن تكونَ فيه”، ثم يقرر: “إنَّ الفروقَ والوجوهَ كثيرةٌ ليسَ لها غايةٌ تقفُ عندها ونهايةٌ لا تجدُ لها ازديادًا بعدها.

ثم اعلمْ أنْ ليستِ المزيّةُ بواجبةٍ لها في أنْفُسِها ومن حيثُ هي على الإِطلاق، ولكن تُعرضُ بسببِ المعاني والأغراض التي يُوضَعُ لها الكلام، ثم بحسبِ موقعِ بعضِها من بعضٍ واستعمالِ بعضِها معَ بعض”([2]).

ويقول أبو سليمان الخطابي: “وإنَّما يقوم الكلام بهذه الأشياء: لفظ حامل، ومعنى به قائم، ورباط لهما ناظم. وإذا تأمّلت القرآن وجدت هذه الأمور منه في غاية الشرف والفضيلة، حتى لا ترى شيئًا من الألفاظ أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه، ولا ترى نظمًا أحسن تأليفًا وأشد تلاؤمًا وتشاكلًا من نظمه. وأمَّا المعاني فلا خفاء على ذي عقل أنَّها هي التي تشهد لها العقول بالتقدم في أبوابها، والترقي إلى أعلى درجات الفضل من نعوتها، وصفاتها.

وقد توجد هذه الفضائل على التفريق في أنواع الكلام، فأمَّا أن توجد مجموعة في نوع واحد منه فلم توجد إلا في كلام العليم القدير، الذي أحاط بكل شيء علمًا وأحصى كل شيء عددا”([3]).

ومن الممكن بناء نظريَّة للنظم تعتمد على النظم القرآنيّ بمواصفاته ومواضعاته، فالذين زعموا في الماضي أنَّ تحدّي القرآن وإعجازه إنَّما اعتمد به على «الصرفة»؛ أي: صرف الله الناس عن أن يأتوا بمثله، قالوا بأنَّ العرب كانوا قادرين على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لولا أنَّ الله صرفهم عن ذلك، وهذا منتهى الخبل والخطل، والأثن في الرأي؛ إذ إنَّ أبسط أوجه التحديات أن يعطي المتحدي الفرص الكاملة للمتحدى لكي يستجيب لذلك التحدي، وهم زعموا في -دعوة مذهب الصرفة- أنَّ الله قد كتَّف البشر ومنعهم وتحدّاهم، وأي معنى للتحدي إذا قبلنا هذا الرأي الفقير؟!

وجاء المعاصرون ليردّدوا مثل ما ردّد أولئك باللغات المعاصرة، فقالوا: إنَّ دور اللغة المتفوقة قد ذهب، ولم تعد اللغة مما يمكن التحدي به؛ ولذلك فإنَّ خاصيَّة الإعجاز قد انتهت بانتهاء دور التحديات اللغويَّة، والإعجاز البلاغي، وهؤلاء جهلة بتطور الدراسات اللسانيَّة، واللغويَّة، فمَنْ من الناس يستطيع أن يقلل من مستوى لغة شكسبير الإنجليزيَّة ويجعلها في مستوى لغة بعض الصحفيين أو الإذاعيين ومن إليهم؟! اللهم إلا من حيث المفردات والألفاظ، وقد علمت أنَّ التحدي القرآنيّ إنَّما قام على النظم والأسلوب، وما يقدمه النظم من معان متجددة لا يمكن الحصول عليها من مفردات جامدة أو جمل مؤلفة يجمع فيها أصحابها الكلمة إلى الكلمة دون ملاحظة للنظم والأسلوب، ومستويات الفصاحة والبلاغة، والتلاؤم والتناسب، والسياقات وما إليها.

لأجل ما سبق نقول بأنّ تفوّق القرآن بنظمه وأسلوبه وإعجازه وتحديه ما يزال قائمًالم ينتهِ ولن ينتهي، وما يزال نظمه مصدرًا للمعاني المتدفقة المتجددة الصادرة عمن جاءنا بهذا الكتاب مفصَّلًا على علمه الذي أحاط بكل شيء، وأحصى كل شيء عددًا.

[1] مع القرآن في إعجاز وبلاغته، د. عبد القادر حسين :ص 114.

[2] دلائل الإعجاز، تأليف: أبو بكر عبدالقاهر بن عبدالرحمن بن محمد الجرجاني، تحقيق: محمد التنجي (دار الكتاب العربي، بيروت، 1995) ص82.

[3] راجع رسالته بيان إعجاز القرآن ضمن ثلاث رسائل طبعة مجتمعة في إعجاز القرآن.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *