Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

البعد الواحد

أ.د.طه جابر العلواني

ثمَّة ظاهرة برزت في حياة أمتنا منذ وقت بعيد، وهي ظاهرة محيّرة في أمَّة جعل الله التوازن والاعتدال سمة لها في كل جانب من جوانب شريعتها ومنهاجها ووسائل بناء شخصيّتها عقليًّا ونفسيًّا. لقد جعل الله هذه الأمَّة أمَّة وسطًا، ولوسطيتها استحقت الشهادة على الناس: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ (البقرة:143)، واستحقت الخيريَّة بينهم: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ (آل عمران:110)، والمطّلع على دقائق الإسلام منذ أن قال جلَّ شأنه: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾ (فاطر:32)  يشهد التنوع والتوازن في كل شيء جاء القرآن المجيد وهدي الرسول -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- به. فما بال هذه الأمَّة تميل الآن عن التوازن والاعتدال إلى التطرّف والغلوّ والوقوف عند بعد واحد؟ أهو تجاهل لما جاء القرآن به ورسول الله صلّى الله عليه وآله وسلَّم؟ أم هو نسيان أم تناسٍ لما كان عليه رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلَّم- في سائر ساعات حياته، أم ماذا؟

إنَّني أقول هذا وبين يدي ثلاث رسائل لأشخاص من جنسيَّات مختلفة، وكلّهم ينتمون إلى الإسلام، يخبرني كل منهم أنَّه المهدي المنتظر، وأنَّه لن يلبث إلا قليلًا حتى يعلن مهديّته ويدعو الناس إلى اتّباعه، ويطلب مني أن أهيئ نفسي إلى الالتحاق به «مساعدًا للمهدي»! ولا أدري ما الذي استهوى هؤلاء الثلاثة فيَّ ليرشحني كل منهم إلى ذلك المقام الرفيع ؟! هذا جانب، وفي المهدي والمهديَّة دراسات كثيرة، وقد حفل تاريخنا بأسماء كثيرة لأولئك الذين ادّعوا المهديَّة. وقد تهون هذه الدعوة بجانب الدعوة التي أطلقها بعضهم؛ وهي دعوة الاتحاد والحلول -والعياذ بالله- في الباري سبحانه وتعالى، بحيث نادى أحد هؤلاء المهابيل بقوله: “سبحاني أنا الله” أعاذنا الله -جلّ شأنه- وأعاذكم أيها القراء من العته والجنون، والجنون فنون كما تعلمون، نسأله -جلّ شأنه- أن يجنبنا فنونه كلّها!

وقد فجعت قبل أيام بخبر جاءني عن واحد من أولئك الذين يطلقون على أنفسهم أنَّهم قرآنيّون؛ وهم نوع عجيب من الناس، فقد أفتى أحدهم من قبل بأنَّ كل أنواع السجود التي يعرفها الأنبياء والمرسلون وتعلمها الناس منهم خطأ، وذلك لأنَّ السجود الصحيح في نظر هذا الجهبذ أو الفطحل أن يكون على الأذقان -أي على الفك الأسفل- وأنَّ هذا هو السجود الصحيح، وأنَّ جميع الأمم التي تعلمت السجود من الأنبياء على الجبهة أمم ضالة منحرفة!

ولقد رأينا قومًا يدَّعون الانتساب إلى السنَّة وتعظيم الحديث سقطوا في مكان سحيق، حين زعموا أنَّ السنَّة لا تحتاج القرآن وتستطيع أن تكتفي بنفسها، وأنَّ القرآن يحتاج السنَّة بأكثر مما تحتاجه هي؛ ولذلك فقد قدَّموا الأخبار على كتاب الله بحجج واهية لا تثبت إلا في عقول أصحاب البعد الواحد الذين لم يعرفوا أصول هذه الرسالة.

نرجع إلى القرآنيين، فقد كنت أُؤمل وأرجو أن يُنير القرآن المجيد لهؤلاء طريقهم؛ فيعودوا إلى هداية القرآن المجيد وتوازنه وحكمته وما أودع الله فيه من نور وبصائر، لكنّني فوجئت بأنَّ أحدهم قد تجرّأ على مقام الرسالة والنبوة، وزعم أنَّه رسول مثل محمد بن عبد الله -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- إذ إنَّ محمدًا -صلوات الله وسلامه عليه- لم يأتِ الناس إلا بهذا القرآن الذي يحفظه أخونا عن ظهر قلب ويختمه في كل أسبوع، وأنَّه الآن -أي صاحبنا هذا- يقوم بتعليم الناس هذا القرآن، وبيان المراد به مثلما كان يفعل رسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- وبالتالي لم تعد هناك حاجة إلى سيدنا رسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلّم- ما دام الأخ موجودًا، ويستدل بقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ (الجمعة:2)، ويؤكد على قوله تعالى: ﴿وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (الجمعة:3)، فهؤلاء الذين لم يلحقوا في عصر رسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- يعتبر صاحبنا نفسه رسولًا إليهم، أو يحمل نسخة ثانية من الرسالة إليهم، فهو يتلو ويزكّي ويعلّم الكتاب والحكمة لهؤلاء الآخرين من مواطنيه الذين لم يموتوا بعد كما انقرض الجيل الأول جيل التلقي، ويرى أنَّ ذلك فضل الله يؤتيه مَنْ يشاء والله ذو الفضل العظيم. ثم أعلن صاحبنا هذا إنكاره للسنَّة كلّها؛ دون تفريق بين صحيح وضعيف وحسن وموضوع وسواه، وأعلن أنَّ الأخذ بالسنَّة «توثين» لها؛ أي جعلها وثنًا يتخذ من دون القرآن الكريم. إنَّ هذه الظاهرة حيّرتني وثقلت عندي، والقرآن الكريم يجيب عنها بشكل غير مباشر: ﴿… إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ …﴾ (غافر:5)، فهؤلاء قوم متكبرون، يمسّهم طائف من الشيطان فيحول كبرهم دون تخلصهم من آثاره، فيستولي الشيطان على عقولهم تلك ويستبد بها، ويُشَرِّق ويُغَرِّب؛ فيأتوننا بالعجائب والغرائب، فهم أحيانًا يستكبرون على الله -جلَّ شأنه- فيصرفهم عن آياته: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ﴾ (الأعراف:146)، وأحيانًا يتكبرون على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلَّم، وأحيانًا وأحيانًا وأحيانًا …، فأتمنى أن نجد لهذه الظواهر علاجًا يحمي عامَّتنا من السقوط في شراك وشباك هؤلاء، خاصَّة وقد أصبحت هناك فضائيَّات تدعو إلى ما يحمل هؤلاء وتجسده بمختلف الأشكال، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *