Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

من الجوانب الخفيَّة في حياة الأمير نايف

النصيحة والزعماء

أ.د: طه جابر العلواني

بسم الله الرحمن الرحيم

هناك وجه آخر ربما لم يره الناس للأمير نايف بن عبد العزيز، ألا وهو: وجه قبول النصيحة، والأخذ بها، وتشجيع مسديها إذا علم نايف أنَّ الإخلاص والنصح للأمَّة هما الدافع الحقيقيّ وراء تلك النصيحة، فقد عرف الناس في نايف أنَّه وزير الداخليَّة، المسؤول عن المحافظة على أمن المملكة، والذي يقود القوى المختلفة المسؤولة عن ذلك.

أمَّا الجوانب الأخرى من حياة الرجل فتمثِّل الماوراء في شخصيَّته ألا وهو الاستماع إلى النصح، وتقدير قائليه، وتشجيعهم على ذلك. وقد عرفت خلال حياتي وتحت ظروف مختلفة عددًا من المسؤولين في العراق وفي العالم العربيّ؛ ففي العراق عرفت عبد السلام عارف، وعبد الكريم قاسم، وآخرين، وعرفت من رجالات العالم الإسلاميّ أنور إبراهيم، ومحاضر محمد، ومعرفة يسيرة برجب طيب أردجان، وعبد الله كولن؛ وفي المملكة العربيَّة السعوديَّة عرفت الراحل الملك فيصل، والأمير نايف، والأمير أحمد، وبعض الشخصيَّات السعوديَّة الأخرى، وعرفت بعض القيادات الإيرانيَّة قبل الثورة الإسلاميَّة وبعدها. وقد سجلت أهم المواقف التي كانت لي مع بعض هؤلاء مما شعرت أنَّ في تسجيله فائدة لأجيالنا اللاحقة، وأنَّ فيها دروسًا وعبرًا يمكن الاستفادة بها، ولعلَّها تظهر في وقت ليس ببعيد. بعض هؤلاء كتبت لهم نصائح ورسائل مكتوبة أعتبرها اليوم –ولا فخر- من عيون أدب النصيحة المعاصرة، الذي يجدر بأهل العلم والفكر الاستفادة بها كنموذج، وقد يستطيع بعض دارسي العلوم السياسيَّة دراستها وتحليلها وتقييمها في ضوء الظروف التي كتبت بها.

 وبمناسبة وفاة سمو الأمير نايف ولي العهد السعوديّ ووزير الداخليَّة، أخرجت من ملفاتي تلك النصيحة التي أرسلتها إليه، قبل ما يقرب من ست وثلاثين سنة، أرسلتها بعد أن أطلعت أخاه سمو الأمير أحمد عليها، وطلبت من سموه أن يسلمها باليد إلى أخيه نايف، وطلبت منه أن يعيدها إليَّ إن أمكن بعد اطلاع سمو الأمير نايف عليها، وألاّ تحفظ في المكاتب، لأنَّني لا أريدها أن تتسرب إلى آخرين؛ فيكيدوا لي كيدًا، أو يأتونكم بما قد يفسد الاستفادة من هذه النصيحة وأمثالها، فوعد خيرًا، وسلّمتها له، واستطعت أن استنسخ نسخة لي أبقيتها عندي وهي التي أقدمها الآن.

وبعد أيام قلائل لم تتجاوز أسبوعًا أو عشرة أيام اتصل بي مكتب الأمير نايف، ودعوني لزيارة الأمير في مكتبة في وقت حددوه. وذهبت في الموعد فنهض الرجل من وراء مكتبه، وتقدم إلى باب الغرفة واستقبلني هاشًّا باشًّا، استقبالًا طمأنني إلى أنَّ اللقاء ودّي، فذكر الرجل أنَّه قد قرأ المذكرة كلّها بعناية، واستوعب ما فيها، واللهجة المخلصة التي تشيع فيها، وأنَّه ودّ أن يشكرني أولًا ويطمئنني إلى أنَّ ما ذكرته كلّه هو موضع تقدير ودراسة، وأنَّني سوف أسمع كثيرًا من الإجراءات المطمئنة، الكفيلة بإزالة مخاوفي وقلقي على المملكة ومستقبلها. وناقشنا بعض الفقرات التي أراد أن يستوضحني عنها، ثم قال مبتسمًا ابتسامة رجل يحاول أن يقرأ ما وراء السطور كما يقال، فقال -يرحمه الله: هل هذه المذكرة قمت بإعدادها بناء على معلومات وصلتك أم هي مجرد تحليلات. فقلت له: يا صاحب السمو أنت تعلم أنَّني عملتُ في هذا البلد أولًا مستشارًا قانونيًّا في الحقوق الخاصَّة، وهي تابعة لوزارتكم، وكان الدوام طويلًا، وأجواء الحر لا تسمح للإنسان أن يقوم بالكثير، كما إنّني رجل غريب، وحين انتقلت إلى الجامعة وبدأت أحتك بالطلبة والأساتذة فإنَّني لا آخذ من هؤلاء معلومات، بل تتكون لديّ من مخالطتي لهم ومناقشاتي معهم انطباعات تولِّد عندي أفكارًا.

وكوني حديث عهد بالخروج الإجباريّ من العراق بعد التغيير الذي حدث فيه، والظروف التي مررت بها، كل ذلك يجعلني ذا حاسّة تستشعر الخطر، وتستطيع أن تكون من الأحرف المتقاطعة التي تمثل الانطباعات والملاحظات العامَّة والعابرة كلمات وجمل، وهذا هو الذي بين أيديكم؛ ثم نهضت ونهض الرجل وشكرني مرة أخرى وقال: إذا لاحظت شيئًا فلا تبخل علينا بالتنبيه إليه، شكرته وأكبرت فيه ذلك الأسلوب المهذب العالي في قبول النصيحة والتشجيع عليها.

ورغم كل التغيُّرات الشديدة التي حدثت في المملكة وفي المنطقة كلّها خلال الخمس وثلاثين عامًا نجد في هذه المذكرة كثيرًا من المؤشرات التي تجعلها ملائمة حتى في هذه الظروف التي نحن فيها؛ لذلك وددت نشرها في هذه المناسبة الأليمة ليرى الناس جانبًا آخر من جوانب شخصيَّة نايف، وفاءً له، ونصحًا لمن قد يستفيد من هذا النصح، في أي ركن من أركان العالم الإسلاميّ. وهذا هو نصها كما هي دون أي تغيير للاستفادة من يرغب في ذلك.

تغمَّد الله الفقيد بواسع رحمته، وتقبل منا ما قدَّمناه، ورزقنا وإياكم الإخلاص في القول والعمل، ولعلّنا قد قدّمنا نموذجًا يمكن للدعاة وقادة الرأي والساعين إلى الإصلاح أن يستفيدوا به، وهذا نص المذكرة:

نص رسالتي إلى صاحب السمو الملكي الأمير نايف

بسم الله الرحمن الرحيم

خاص وسري للغاية

صاحب السموّ الملكيّ الأمير نايف بن عبد العزيز وزير الداخليَّة –حفظه الله ورعاه.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: وبعد

يا صاحب السموّ: هذه مجموعة من الملاحظات العامّة أود أن أضعها تحت أنظار سموّكم –آملًا أن تحظى من وقتكم بما يسمح بالاطلاع عليها وتأمّلها.

وأود أن أصارح سموّكم: أنّني قد ترددت بادئ الأمر ولأسباب عدة في رفع خطابي هذا إليكم –خاصّة وأنّه أوّل خطاب مني إلى سموّكم ولكنّي أطمع أن تجدوا لي سموّكم في الأسباب التالية شيئــًا من العذر وهي:

1-    الإحساس بالواجب نحو سموّكم الكريم، ونحو هذا الجزء العزيز الغالي من وطننا العربيّ الإسلاميّ بعد أن استضفتموني وسمحتم لي بالعمل في بلادكم، وتشرفت بالقرب من الحرمين.

2-    الرغبة الصادقة في المساهمة مع المخلصين –ولو بأبسط الأمور- في تجنيب هذه المملكة الغالية مثل ما حل في بلدان أخرى: كالعراق –الذي آلت قيادته إلى عقيد فاشل، ونائب عريف -هما أحمد البكر وصدّام، توجههما عصابة من الوافدين الأجانب إلى العراق وهم من المعروفين بارتباطاتهم المشبوهة.

3-    نصيحة من الأخ الصديق الشيخ عبد العزيز السالم –الذي اعتدت أن أهرع إليه كلّما داهمني من المشاعر ما يدعو إلى القلق أو الخوف والتشاؤم- لأفضي له بما لدّي فأسمع منه في الغالب- إلى ما يثلج الصدر، ويطمئن القلب من الإيضاحات ولكنّه هذه المرّة نصحني بأن أضع أمام سموّكم ما لديّ.

يا صاحب السموّ:

        يروي المؤرخون القدامى: أنّ رجلًا سأل بعض حكماء الأمويّين عن أسباب زوال دولتهم، وذهاب حكمهم؟ فقال له: “يا هذا، قد قلت فاسمع، وإذا سمعت فافهم!! إنّا قد شغلنا بلذّتنا عن تفقّد ما كان تفقّده يلزمنا، ووثقنا بوزرائنا فآثروا مرافقهم على منافعنا، وظلمت رعيّتنا ففسدت نيّاتهم لنا، ويئسوا من إنصافنا فتمنّوا الراحة منّا، إلى أن قال: “وكان أوّل زوال ملكنا استتار الأخبار عنّا”.

من التاريخ القريب:

ولقد حاولنا –مرّة- دراسة أهم الأسباب والعوامل التي أدّت إلى انهيار النظام الملكيّ في العراق –وخاصّة الأسباب الذاتيّة- فوجدنا أن من الممكن حصرها في أمرين أساسيّين هما:

1-    فقدان الحكم للقاعدة الشعبيّة العريضة –المتغلغل- في جميع القطاعات، المرتبطة ارتباطًا عضويًا بالنظام، بحيث تقوم بدعم الحكم وإسناده في جميع المجالات، وتقاوم خصومه ومعارضيه بنفس أساليبهم، لا بواسطة السلطة وأجهزتها المباشرة.

2-    فقدان العناصر الناصحة المخلصة –التي تساعد السلطة على الرؤية الصحيحة الواضحة للأمور، ونضع أمام الحاكم كل شأن من الشؤون وكأنّه يشاهده ويراه، مع الرأي الناضج، والنصيحة المخلصة، والمشورة الصادقة. وبقطع النظر عن كون ذلك مزعجًا له أو مريحًا وإحاطة الحاكمين أنفسهم بدلًا من هؤلاء بعناصر تنظر إلى الحاكم على أنّه وسيلة لتحقيق الشهوات، والحصول على المكاسب.

ولننتقل –الآن- للحديث عن المملكة –صانها الله تعالى- من كل مكروه.

1-    إن المرحلة التي تعيشها المملكة –حاليًا- هي بلا أدنى ريب مرحلة من أخطر مراحل حياتها؛ فتدفّق الثروة على البلاد أوجد أوضاعًا جديدة، وحوّلها إلى موضع لمطامع هائلة تجعلها معرّضة لأن تكون –لا سمح الله- بؤرة من أخطر بؤر الصراع بين مختلف التيّارات والأفكار والمذاهب والنزعات.

 ولا شك أن تغيير النظام فيها قد أصبح هدفًا لقوى كثيرة داخل المنطقة وخارجها.

وتغيير شكل ومحتوى العلاقات القائمة بين أبناء البلاد والسلطة وطبيعة النظام الذي يحكمها -هو الآخر هدف من الأهداف التي يخطط طالبوها لتحقيقها دون هوادة.

2-    وهذا الوضع يفرض على النظام أن يتنبّه لهذه المخاطر، ويحدّد –يمنتهى الدقّة- القوى ذات المصلحة في التغيير، والقوى الأخرى التي تعتبر التغيير هدفًا حضاريّــــًا تسعى إلى تحقيقه ولو لم تكن لها مصلحة ظاهرة فيه.

3-    كما تفرض المرحلة على النظام: أن يحدّد هوّيته بوضوح وكذلك أهدافه وغاياته -الّتي تحدّد له طبيعة سياساته المختلفة وتجعل من استمراره وبقائه غاية متجدّدة لدى أتباعه ومؤيّديه.

4-    وعليه -بعد ذلك وعلى ضوئه- أن يتعرّف إلى عناصره وأنصاره وأصدقائه،  بحيث تكون لهم صفات مميّزة ومعروفة لدى النظام، لا يكون منها -على أيّ حال- الولاء الشخصيّ وأساليب التملّق المعروفة.

5-    فإذا تم ذلك ووضع النظام مواصفات أنصاره ومؤيديه على ضوء هويّته وأهدافه وغاياته: فعليه بعد ذلك أن يضع مواصفات خصومه وأعدائه على ضوء هويّته وأهدافه وغاياته وعلى حسب خطورتهم على هويّته وأهدافه.

6-    وهذا يسهّل على النظام أن يعامل كل فريق بالمعاملة المناسبة له، ويضع كل شخص في الموضع الملائم، وإلّا فقد يجر النظام إلى عمليّة الخلط بين العدوّ والصديق، مما يكون له أسوأ الانعكاسات على مواقف الناس من النظام.

والمفروض في ظل هذه المتغيّرات الحادّة أن تكون هذه المراجعة دائمة ومستمرة، وفي الوقت –نفسه- مستندة إلى القواعد الثابتة التي أشرنا إليها، وهي: الهويّة والأهداف والغايات.

7-    وبناء على ذلك -أرجو أن تسمحوا لي يا سموّ الأمير بأن أضع بين أيديكم تصوّري العام لأنصاركم وأعدائكم في الداخل -وقد لا يضيف ما أقول إلى معلوماتكم شيئًا- ولكنني وددت في وضع هذا التصوّر أمامكم القيام بالواجب، وإبراء الذمّة، وليطمئن قلبي.

قاعدة الحكم:

أعتقد أنّ الحكم في المملكة يستند إلى دعامتين أساسيّتين هما:

أ‌       علماء الدين، ورجال الدعوة الإسلاميّة، وطلاب العلوم الشرعيّة، والمتأثرون بهم من الناس.

ب‌     العشائر على اختلاف بـينها في درجات الولاء.

أما الأوّلون فهم ينظرون إلى الحكم نظرة الحليف إلى حليفه القويّ، فهم لا ينسون أن هذه الدولة قد قامت -في أدوارها الثلاث على تحالف آل سعود وأئمّة الدعوة السلفيّة.

وبموجب هذا التحالف يرون أنّه لا يمكنهم الاستغناء عن النظام، ولا عن الأسرة السعوديّة الحاكمة فيه، كما لا يمكن للنظام أن يستغني عنهم؛ لأنّه -لو فعل- فإنّه يستغني عن دعائمه وقوائمه ومبرّرات وجوده الأدبيّ والمعنويّ.

وأما العشائر فالملتزمون منهم بالإسلام يقال عنهم ما يقال عن طلبة العلوم الدينيّة والمتأثّرين بهم.

وأمّا غير الملتزمين -منهم– فهم كرعاة الغنم يرتادون لأنفسهم ولغنمهم المرتع الخصب، فهم مع الحاكم ما دام قويّــًا، ومهيّئون للانحراف عن الولاء له عندما تظهر عليه علامات الضعف والإعياء، أو يجدون مرتعًا أخصب.

 ولقد عرف قادة هذه المملكة -منذ عهد جلالة الملك عبد العزيز –يرحمه الله- طريقة للتعامل مع هذين الفريقين جعلتهما على الدوام إلى جانب الحكم.

وحين أراد والدكم –يرحمه الله- تطوير نظام حكمه، ووضعه على طريق العصر -دون انحراف عن الإسلام- وجد بعض المقاومة من بعض العلماء وطلّاب العلوم الشرعيّة، ولكنّه سرعان ما احتوى تلك المعارضة، وحوّلها إلى صَفِّه، وساعده على ذلك انتماؤه الكامل إليهم بشكل لم يمكّن أحدًا منهم أن يطعن في التزامه بدينه، وسموّكم أعرف مني بالأمثلة الكثيرة على ذلك.

وسار سيرته في ذلك الملك سعود ثم الملك فيصل –طيّب الله ثراهما- فاستطاع فيصل في عهده أن يعمل الكثير ممّا لم يحظ بموافقة الكثيرين من علماء الدين وطلّاب العلوم الشرعيّة، ولكنّه استطاع -بكل حكمة وحنكة- أن يتخطى الصدام معهم، وبقي محتفظًا بهم إلى جانب الحكم يُمدُّونَه بالدعم والتأييد، وسموّكم أعرف بأمثلة ذلك أيضًا.

8-    تحاول قوى كثيرة أن تضع الدولة –اليوم- بين أمرين:

أ‌       هناك ضغط عالميّ ومحليّ هائل يريد تغيير كل شيء، ويوحي بكل وسيلة: بأنّ هذا التغيير ضرورة من الضرورات، ولازم من لوازم التحضّر والعصرنة -بقطع النظر عن طبيعة ذلك التغيُّر وحجمه وأساليبه وردود الفعل التي سيخلّفها.

وأصحاب هذا الضغط يشكلون تيّارًا يهاجم –بكل خبث ودهاء وبجميع الأساليب- كل ما تقوم عليه الدولة، ويظهره بأنَّه لا يتناسب ومظاهر الدولة العصريّة. وقد وجد هذا التيّار الآذان الصاغية لدى الكثيرين!!

واسمحوا لي سموّكم أن أبادر إلى التأكيد: بأن هذه الدعوة تستهدف أول ما تستهدف قمّة النظام، فليس غرض حملة هذه الدعوة إدخال البلاد والدولة العصر عن طريق الأخذ بأسباب الحياة العصريّة -كما قد يتوهم بعضٌ، وإنّما هدفهم تحويل النظام –نفسه- إلى نظام من النظم العصريّة ذات الأشكال المعروفة: الجمهوريّة، أو واحدة من الديمقراطيّات الشعبيّة ونحوها.

ب‌     والتيّار الثاني -هو تيّار قاعدة الحكم من علماء الدين وطلّاب العلوم الشرعيّة ومن حولهم –وهو تيّار فيه الكثير من الجامدين الذين لا يفرّقون بين ما هو من قبيل العادات والتقاليد، وبين ما هو من قبيل الدين. كما إنّ فيه كثيرًا من أولئك الذين ينظرون إلى كل ما هو جديد نظرة الخوف والحذر والاستنكار دون دراسة وتدقيق. والدولة إن أخذت بوجهة نظر الأوّلين اصطدمت بقاعدتها الدينيّة وخسرت ولاءَها، ودخلت معها في صراع لن يكون في صالح أيٍّ من الفريقين على أيّة حال، وسيؤدي إلى إضعاف الدولة.

وإذا أخذت بوجهة نظر الفريق الثاني فذلك يعني أنّها ستتوقف عن تطوير نفسها وتتخلى عن معظم برامج التحديث إرضاءً لهؤلاء، وحذرًا من اتهاماتهم ومعارضتهم.

ج-    ولكن الحل –هو: في أن تعمل الدولة على تفريغ محتوى دعوة الفريق وتُوَفّر جهودها لإيجاد القوة الثالثة لتحوّلها إلى قاعدة شعبيّة عريضة لها.

أولًا: أما تفريغ محتوى دعوة الفريق العلمانيّ المستغرب –فتتم عن طريق الأخذ بكل ما تحتاجه البلاد من أسباب ووسائل الحضارة المادية، ووسائل الخدمات كما هو حاصل- بدرجة كبيرة، ولكن لا يزال هناك الكثير مما ينبغي أن يُفعل لتفريغ دعوة هؤلاء من محتواها، ولعلي أتناول ذلك –إن تمكنت- في دراسة مقبلة –إن شاء الله.

ثانيًا: وأمَّا تفريغ تَطَرُّف بعض العناصر الدينيّة –فيمكن أن يتم عن طريق الالتزام بالقواعد الإسلامية الثابتة، وعدم الخروج عن الخطوط العريضة للفكرة الإسلاميَّة؛ وأمّا المسائل الاجتهادية فالدولة غير ملزمة بالالتزام باجتهاد هذا أو ذاك من العلماء مادامت ملتزمة بالقواعد الثابتة، غير خارجة عن الخطوط العريضة، وليس فيها ثغرة يمكن للمتطرفين النفاذ منها.

ثالثًا: وأمّا القوّة الثالثة التي ينبغي أن تبادر الدولة إلى تهيئة جميع الظروف والأسباب لقيامها من غير أن تتولى مباشرة إنشائها فهي قوة ينبغي أن تتألف من العناصر المعتدلة الواقعيَّة في البلاد، فلا تصر على التشبث بكل ما هو قديم، وتتهم الدولة بالمروق عندما تأخذ بأي سبب من أسباب الحضارة. كما لا تحاول علمنة الدولة، وتغريب البلاد، وإفقادها شخصيَّتها الإسلاميَّة.

تلك هي السمة الأساسيّة للقوة التي ينبغي أن تهيّأ لها الظروف لتنشأ كقاعدة للدولة تتغلغل في جميع الطبقات والفئات.

9-    القوات المسلّحة:

قد يقول قائل: يمكن أن يستغنى عن هذه القواعد الشعبيَّة ودعمها للسلطة بالجيش والقوات المسلحة. وهذه فكرة قاتلة في البلاد الصغيرة والناشئة وبلدان العالم الثالث بصورة عامَّة روَّجت لها الجهات الصناعيّة الكبرى في العالم؛ لتحقيق جملة أغراض منها:

(1)- إيجاد أسواق دائمة لصناعات الأسلحة.

(2)- إيجاد مجالات للتأثير الفكريّ على أخطر القطاعات في تلك البلدان عن طريق التدريب والدورات ونحوها.

(3)- إعداد هيئة منظمة منضبطة يُستفاد منها لتخريج بدائل عن الحكم كلّما وجدت القوى العالمية ذات المصالح حاجة للتغيير خاصّة في بلدان مثل بلداننا يصعب إيجاد أحزاب سياسيّة قويّة تؤدي هذا الدور.

(4)- إيجاد طبقة هي أقوى الطبقات في البلاد متأثرة بروح الحضارة الأجنبيّة من خلال تدريبها وتكوينها العقلي والنفسي؛ ولأنَّها مسلحة فهي قادرة على أن تفرض ما تريد بطريق القوة.

 إلى غير ذلك من أهداف لا تخفى؛ ولذلك فإنَّ هذا القطاع مهما بولغ في أساليب الاحتياط ليس بالقطاع الذي يمكن الركون التام إليه في مثل هذه الظروف شديدة التعقيد.

10- السند الخارجي والمكانة الدوليّة:

بعض الحاكمين يرى –أحيانًا- بأن نجاحه في مجالات السياسة الخارجيّة كفيل بمعالجة ثغرات سياسته الداخليّة، وذلك وَهَم. فنوري السعيد حين عقد حلف بغداد، وسائر اتفاقيّات الدفاع المشترك -إنَّما عقدها تحت تأثير هذا الوهم- الذي لم يتبخّر إلّا على أصوات دبابات قادة (انقلاب تموز 58) الذين سارعت الجهات الحليفة والمتعاهدة مع نظام نوري السعيد إلى الاعتراف بهم، بحيث تَضَمَّنَ نَصُّ الاعتراف البريطاني: ” … تعترف حكومة صاحبة الجلالة بالحكومة العراقيّة الجديدة -التي يرأسها الزعيم الركن عبد الكريم قاسم”.

وذابت كل آمال نوري ورجال النظام؛ لأن الحلفاء الخارجيين وهم الأقوى دائمًا إذا وجدوا ضعفًا في نظام حليف في العالم الثالث فإنَّهم يسارعون للإطاحة به؛ لئلا يسبقهم إلى ذلك غيرهم.

 وأمَّا الحصول على سمعة سياسيّة في الخارج فإنّ له بريقًا، وهو كفيل بإبراز اسم الحاكم وكثير من صفاته، ولكن لا يمكن أن تغطي انتصارات السياسة الخارجيّة على مشاكل الداخل، وأقرب الأدلة على ذلك هو عبد الناصر فقد فرَّغ جُل همّه لسياسته الخارجيّة، وحقق الكثير من المكاسب، وتحول في مدة خياليّة إلى شخصيّة عالميّة، ولكن ذلك كلّه ما أغنى عنه شيئًا في السياسة الداخلية.

11-  كيف نوفق بين هدف التطوير والأهداف الأخرى؟

إنّ التطوّر هدف مشروع لا ينبغي أن يُتَهاون فيه، ولكن لابد من السيطرة عليه والتدرُّج فيه، وتبيُّن ما يجب تغييره وما يجب الإبقاء عليه.

 إن في البلاد –اليوم- أعددًا كبيرة من أولئك الذين أفرزتهم جامعات ومعاهد الغرب، وجُلُّ هؤلاء تغلب عليهم نزعة العلمنة كوسيلة للتفسُّخ والسيطرة، لا كوسيلة تطوير، فهم يرفضون بقاء المجتمع السعوديّ -على ما هو عليه غير مميِّزين بين ما هو إيجابيّ وما هو سلبيّ، وهذا التيّار يعتبر بؤرة صالحة لاحتضان وتنمية جميع الاتجاهات والميول اليساريّة والحزبيّة والعلمانيّة، وفئات التغريب والتغيير. وهو تيّار مُسْتَحسِن لكل ما في البيئات الغربيّة مستقبح –في الغالب لكل ما في البلاد. ولذلك فإنّ تقييم معظم هؤلاء للنظام -عندما يكونون –صُرَحَاء-: “بأنّه نظام قبليّ رجعيّ متخلّف تخطاه الزمن، وتقوده وتستأثر به أسرة”!!.

وحين يدخل المرء في نقاش مع بعض هؤلاء فيقول –مثلا: إنَّ هذا النظام قد وفّر لكم التعليم بأعلى درجاته، وأعطاكم من الفرص ما لم يحصل عليه ونظراؤكم في البلدان الأخرى، وفتح أبواب البلاد للتطور -فإنّه لا يلبث أن يقول: بأنّ هذا جزء من الواجب، وينصرف إلى تعداد النواقص والثغرات والسلبيّات غاضًّا النظر عن كل إيجابيّات السلطة. وذلك ناجم عن تأثرهم بطبيعة الديمقراطيات الغربيّة في البلدان التي تعلّموا فيها.

وهذا التيّار موجّه لحمل راية التغيير المطلق، وهو يعمل على الاستفادة من النظام لإحداث كثير من التغييرات التي تسمح طبيعة النظام بإحداثها، والتي يحاول باستمرار أن يبرهن على أنّها في صالح النظام، وبالتالي فهو يستفيد من النظام في إضعاف العناصر المحافظة في البلاد والتمهيد لعزلها بواسطة النظام نفسه لتحقيق جملة من المكاسب منها:

1-    إضعاف خصومهم من التقليديّين والمحافظين والمعتدلين.

2-    إضعاف النظام نفسه والتمهيد لإسقاطه بعد الانفراد بالتأثير عليه.

3-    تهيئة البيئة لتقبّل ما سيحدثه فيما بعد.

4-    إشغال السلطة بنفسها وبقواعدها لكي يعطي لنفسه فرصة النموّ في جو من الحريّة التامة بعيدًا عن ملاحظة السلطة.

5-    تنبيه القوى الخارجيّة إلى أن النظام مهدّد، وأن مصالحها في خطر في ظلّه، وعليها أن تبحث عن البدائل، من بين صفوفه، فإذا تم له ذلك، وبلغ الضعف بالنظام غايته، وفقد ركائزه وأنصاره: انقضّ عليه بواسطة بعض العناصر العسكرية المهيّأة سابقًا تدعمها بعض الفئات الحزبيّة أو النقابيّة من بين الأحزاب والطلاب والعمال.

يا صاحب السموّ:

12-  إن التيّار الإسلاميّ في بلادكم بكل فصائله المتطرفة منها أو المعتدلة أو الوسط إنما هو جزء أساسي في قاعدة حكمكم منذ بدأه الوالد المؤسس، ولا ينكر أنَّ في ذلك التيّار من السلبيات الكثير ولكنكم تستطيعون أن تزيلوها وتعملوا على تدعيمه وتقويته وتنظيم تلاحمه معكم، فإذا لم تفعلوا فإن الحكم سيكون منكشفًا وسيجد نفسه بلا قاعدة أو في صراع مع قواعده بدلًا من أعدائه.

إن السلبيات الملاحظة على هذا التيار لا تعالج بالسجن والمطاردة والمنع من الخطابة ونحوها من الأساليب للأسباب التالية:

1)-   لأن هذا الأسلوب سيعجّل بطرح سؤال كبير وهام عن هُويَّة الدولة وسيقال: كيف تكون الدولة إسلاميّة وتطارد إسلاميّين في الوقت ذاته يتبنون نظريتها نفسها؟ وذلك بقطع النظر عن هُويَّتهم وأعدادهم ونوعياتهم، وسيجد أولئك الذين يتهمون الدولة بالمراءاة وعدم الإخلاص فيما تقوله عن تبنيها للإسلام، سيجد هؤلاء أوسع مجال لترديد هذا الزعم ونحوه، لتصبح هُويَّة الدولة موضع تساؤل في الداخل وفي الخارج. وذلك أمر لا يستهان به.

2)-   إنَّ عمليَّات الاضطهاد تبدو سهلة وليست بذات خطر عند البدء بها، ولكن السلطة بمجرد أن تبدأ بها تبدأ الفجوات تتسع بينها وبين شعبها، وتصبح السيطرة عليها موضع شك، وستدخل الحكم والمعارضين له في دوامة من الفعل ورد الفعل لا تتوقف، وسيجد أعداء النظام مصلحة في إذكاء الصراع وتصعيده.

3)-   إن السقوط في مستنقع الاضطهاد من شأنه أن يقضي على الفريق  المعتدل حيث تضيع أصوات المعتدلين في السلطة وفي المعارضة. فالمعتدلون إذا وقفوا بجانب الدولة اتهموا بالمروق والخروج والنفاق والحرص على المنافع الشخصيَّة مما يفقدهم تأثيرهم ومكانتهم بين الناس، وإذا ظهر للسلطة منهم نوع من التعاطف أو العطف على المعارضين والاعتراض على عمليات الاضطهاد فقد تتهمهم بعض الأجهزة القليلة الذكاء بالتعاون مع المتطرفين وهكذا يقضى على الوسط المعتدل وتخلو الساحة للتطرف والمتطرفين، وتبدأ العورات والسلبيات والتصرفات الخاطئة تتضاعف من جميع الجهات.

4)-   لعل من بعض الأمثلة ما جرى بين الرئيس عبد الناصر والإخوان المسلمين، فقد عرف الرئيس الراحل قبل انقلاب يوليو بأنه واحد من المتعاطفين مع الإخوان بل أكد كثيرون أنه أقسم وبايع، وحين أراد من أراد إدخاله في صراع معهم لإضعاف الفريقين وإخلاء الطريق لليسار افتعل حادث “المنشيَّة” وبعض الأمور الأخرى ولما عولج حادث “المنشيَّة” برد فعل عنيف ولم يعمل الجانبان على احتوائه انتهى الأمر بالمفاصلة بينهما. وخسر الطرفان فيما أراد.

يا صاحب السموّ:

5)-   منذ فترة غير قصيرة وأنا ألاحظ بكثير من الإشفاق والخوف الهوّة تتسع بين نظامكم وبين مختلف القطاعات الإسلاميَّة في بلدكم، ولاحظت الهمس يكثر والشكوى المتبادلة تتصاعد. وكنت في بعض الأحيان أناقش مخاوفي مع شقيقكم وصديقي سمو الأمير أحمد كلما أتيحت لي فرصة لقاء به، وقد كنت أود قبل أن يُتخذ أيّ إجراء من النظام ضد أيّ واحد من هذا القطاع وبقطع النظر عمّا قام به أن تطرحوا على أنفسكم الأسئلة التالية:

لماذا بلغ هذا الحد سواء أكان خطيبًا أو إمامًا أو مفتيًا؟ هل معارضته المعلنة تعبير عن نقد لسياسة معينة أو هو رفض للنظام وسياساته كلّها؟ ما هي السياسات التي يهاجمها العلماء والخطباء في المملكة؟ وهل هذه السياسات تستحق أن تتشبث الدولة بها حتى لو فقدت سمعتها وأضرت بهُويَّتها وقللت من شعبيتها وفتحت الباب نحو انفصال قاعدتها عنها؟

أود أو أؤكد من خلال ملاحظاتي في كل من أتصلُ به أو يتصل بي أنَّ عدم الرضا في الصفوف الإسلاميَّة عن منهج السلطة يتعلق ببعض السياسات خاصّة التعليميّة والإعلاميّة، وهذا الرفض أو عدم الرضا شيء عام لا يخص هذا الخطيب أو ذاك ولا هذه المجموعة أو تلك. إنَّ السياستين الإعلاميَّة والتعليميَّة في المملكة متجهتان لإحداث مزيد من التصادم مع قواعدكم الإسلاميَّة، وقد تؤدي إلى نقل الصراع بينكم وبين قواعدكم من مجموعة إلى أخرى ومن مركز لآخر، فهي تستفز المتطرف أولًا ثم تتمادى وتزيد لتستفز الأقل تطرفًا وتجعله طرفًا في المعركة وتستمر إلى أن تنقلها إلى المعتدل لتخرجه عن اعتداله أو لتؤدي به إلى العزلة والسلبيَّة.

إنَّ بلادكم بلادٌ مسلمة فيها مقدسات الإسلام، وقد وضعكم الله حيث وضعكم بتحالف بين آبائكم وقادة الدعوة السلفيَّة، فما يقبل في بغداد أو القاهرة أو الشام لا يقبل في نجد وهي ترى نفسها مهد الدعوة السلفيَّة، ولا يقبل في الحجاز وهي ترى نفسها موطن مقدسات الإسلام، ومحاولات التلفيق لإرضاء جميع الأذواق هي محاولات فاشلة تزكي الصراع إذا كان موجودًا وتوجده إذا لم يكن، وتحرج الحكم أمام قواعده. إنَّ الحركة الذاتيَّة لسياستي الإعلام والتعليم عندكم حركة فشلت في إرضاء أي من الفريقين: فريق الأصالة وفريق المعاصرة فضلًا عن فشلها في تهيئة الأذهان لإيجاد العنصر الثالث المعتدل هي سياسة ستزيد في نزعة التطرف والمتطرفين وستؤدي إلى ظهور مزيد من الفئات التي تكون أذهانها مهيئة للصدام والصراع الداخلي، كما قد تلاحظونه في بعض البلدان المجاورة وسوف توجد هذه الحالة قلقًا اجتماعيًا عامًا وقد تهيئ –لا سمح الله- إلى صراع اجتماعيّ قد يؤدي إلى العنف الداخليّ.

يا صاحب السمو:

6)-   أرى أنَّ أول واجبات سياستي التعليم والإعلام في أي بلد من البلدان هي أن تجعل الشعب متجانسًا مع النظام مقتنعًا به، أمَّا أن تخلق ظروف الصدام بين الحكم وقواعده فذلك أمر يفرض القيام بمراجعة سريعة وشاملة لتلك السياسات

7)-   هناك فرق كبير بين المعارضة والنقد والرفض.

أ) فالمعارضة والنقد لا يخرجان الصديق عن كونه صديقًا؛ لأنَّهما إذا توفرت لهما الشروط المطلوبة –يزكيان الحكم، ويثريان تجاربه، ويوضحان رؤيته لأمور كثيرة، ويعطيانه فرصًا لتجديد نفسه باستمرار، وهما من الظواهر الصحيّة. وهما –بشروطهما- يقومان على موقف الصداقة والولاء والتأييد، وعلاجهما لمن يضيق بهما يمكن أن يتم بإحدى الطرق التالية:

1) تفريغهما بالاستجابة الحكيمة لمقتضاهما.

2) إقناع أصحابهما بوسائل الاقناع والمناقشة بصحة الرأي المخالف.

3) العمل ببديل مشابه وقريب مما يقتضيه النقد والمعارضة.

ب) وأمّا الرافض فهو موقف قد اتخذه صاحبه لأسباب غير التي يحتج بها، وما قد يحتج به من أخطاء هي مجرد حجج وأعذار يحاول بها تبرير رفضه، وإلباسه لباس النقد أو المعارضة، وهذا أمر يعالج بإفقاد أهله كل مبررات وجودهم الماديّ والأدبي، وتقوية النظام لنفسه، ولأنصاره، وقواعده –بحيث يستبد اليأس التام على نفوس الرافضين من القدرة على النيل من النظام بأيّ شكل من الأشكال.

والخط الإسلاميّ –على اختلاف عناصره- لا يخرج عن المعارضة أو النقد، ولا يتجاوزهما إلى موقف الرفض، لإيمان عناصره بأنَّ في أعناقهم بيعة لا يستطيع المسلم نقضها أو التحلّل منها حتى يرى الكفر البواح.

وأمَّا الخطوط الأخرى -من المستغربين والعلمانيّين والمتحلّلين- فهي خطوط رافضة للنظام شكلًا وموضوعًا، ومؤمنة بوجوب تبديله، وإذا كتمت هذا الرفض وتظاهرت بغيره فإنَّما ذلك رياء ونفاق ودهاء بانتظار تحقيق الأهداف التي سبقت إشارتنا إليها.

وهذه الخطوط نموّها خطر على النظام مميت، وإذا فرضت الظروف على النظام نوعًا من المهادنة معها –في بعض الأحيان- فإنَّ ذلك لا ينبغي أن يتجاوز كونه سياسة مرحليَّة فقط للقيام بعمليّة التفاف عليها وإنهائها.

والاستجابة لمتطلبات المعارضة والنقد حكمة وإصلاح وتجديد، أمَّا الاستجابة لعناصر الرفض فهي تنازل، من سلك سبيله فقد يستمر بالتنازل حتى لا يبقى عنده ما يمكن أن يتنازل عنه.

8) وهنا قد تتسلّل عناصر الرفض بمكر ودهاء لتدسّ على النظام لفيفًا من عناصرها لتخصّص بالتزلّف إلى الحاكم وتزيين الانفلات له، وامتداح سياسته بالحق وبالباطل لتوصّل إلى درجة من الاعتداد بالنفس، والبعد عن الضوابط الدينيّة والخلقيّة، وإعطاء الانفلات أسماء وصفات محبّبة، وإعطاء الضوابط الدينيّة والخلقيّة أسماء منفرّة.

وهذا النوع المزيّن للانفلات أخطر على الحاكم من أعدى أعدائه؛ ولذلك رأينا أنَّ رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلّم- يقول لرجل امتدح صاحبه بمحضر منه: “قطعت عنق أخيك”. وهو تعبير في منتهى الدقة، وفي حديث آخر قال –عليه الصلاة والسلام: “احثوا التراب في وجوه المدَّاحين”. وما ذلك يا صاحب السموّ إلا لأنّ كثرة التزكية والثناء والتزلّف والملق تؤدي بالحاكم إلى حالة سمّاها القرآن الكريم “بالطغيان”، وهو تجاوز الحد، وما بعد طغيان الإنسان إلا هلاكه، قال تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى (العلق:6-7) وقال: ﴿… حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (يونس:24).

سأل هارون الرشيد مرة من حوله عمّا ينقص دولته، فأجابوا: بأنّهم لا يرون نقصًا، وأنَّ شئون الدولة تامّة كاملة لا نقص فيها؛ فبكى، فقالوا: ما يبكيك يا أمير المؤمنين، ما ظننا إلا أنَّ ذلك سيسعدك، فقال: ما بعد التمام إلا النقصان.

يا صاحب السمو:

إنّه كلّما اشتدت قوة الحاكم، وزادت قدراته وإمكانيّاته كلما اشتد معها نفاق وتزيين وتزلّف المنتفعين، بحيث تضيع الرؤية الصحيحة على الحاكم؛ ولذلك كان كثير من حكّام المسلمين قديمًا يدعون الناصحين إليهم ليبصّروهم بعيوبهم، فإن لم يحضروا فإنَّ بعضهم كان يقصدهم حيث هم في مساجدهم أو منازلهم ليستمع إلى نصحههم.

يا صاحب السموّ:

إذا غابت الرؤية الصحيحة للأمور عن نظر الحاكم اضطربت سياسته، فازدادت نقمة الناس عليه، وحين ترى مراكز القوّة في الجيش والقوّات المسلّحة وعناصر التغيير ذلك؛ فإنّها تصبح أشدّ القوى خطرًا عليه، وطمعًا فيه، وتحفُّزًا للانقضاض عليه.

وآنذاك تتحوّل قدرات الحاكم إلى نوع من الجدران الهشّة التي لا تحتمل صدمة؛ ولذلك رأينا نظام العراق الملكي، وقبله النظام المصريّ، انهار الأوّل على يد فوج من الجيش، قوامه أقلّ من ثلاثمائة جندي، لم يكن معهم من الذخيرة أكثر من عشرة طلقات لكل جندي، وتم ذلك كلّه خلال ما لا يزيد عن ساعتين وعلى يد ضابطين كانا من أقرب الضباط إلى دعائم النظام، هما: عبد الكريم قاسم الذي كان من أقرب الضباط إلى نوري السعيد، وكان الضابط الوحيد الذي يدخل مكتب نوري بدون استئذان متى شاء، وعبد السلام عارف وهو من أقرب الضباط إلى رئيس الأركان –آنذاك- عن طريق شقيقه.

وأمّا الانقلاب المصري فقد بدأ بما لا يزيد عن ذلك كثيرًا، بقيادة مجموعة من الضباط كانت بحماية حيدر باشا رئيس الأركان وقريب عبد الحكيم عامر.

13- مقترحات عاجلة.

كعلاج آنيّ وسريع قد تستحسنون سموّكم ملاحظة ما يلي:

  • اتخاذ ما يلزم لتعديل السياستين الإعلاميّة والتعليميّة بحيث تتحوّل كل منهما إلى أداء دورها في إيجاد القوّة الثالثة المعتدلة في البلاد؛ لتكون سند الحكم ووسيلة للبقاء، ونبذ كل ما يؤدي إلى تنمية وإيجاد التطرّف والمتطرفين.
  • وقد يقتضي الأمر القيام ببعض التعديلات في مناصب وزاريّة ومناصب أخرى مماثلة لإظهار الرغبة في ذلك من ناحية، ولتزويد الحكم بدماء جديدة من ناحية ثانية، ولتلبية طموح العناصر الجديدة في المجتمع، وإعطائها الشعور بأنّ أمامها فرصًا للتقدم من ناحية ثالثة.
  • البدء بأسرع ما يمكن في عمليّة إيجاد وتهيئة الظروف الملائمة لقيام التيّار الثالث المعتدل وتنمية وتعديل كل ما يعيق ذلك.
  • اتباع سياسة ضبط النفس وكبح جماحها من قبل رجال السلطة البارزين وأعوانهم، وبخاصّة أعضاء الأسرة المالكة، وبالوسائل التي ترونها مناسبة للحيلولة دون ظهور أيّ شيء يؤخذ على أيّ منهم، فإنَّ للسلوك الشخصي لبعض الأشخاص آثارًا سلبيّة عنيفة على احترام الناس للنظام، وتقديرهم له، وما ينشر أو يذاع في الخارج يؤثر كثيرًا في السعوديين الموجودين هناك، وينتقل كذلك إلى الداخل، وينعكس على موقف الناس من السلطة.

يا صاحب السموّ:

هناك الكثير مما يمكن قوله أو اقتراحه، ولكنَّني أشعر أنَّني قد أطلت أو أثقلت على سموّكم الكريم، ولكنّ عذري أنّني صديق و “صديقك من صَدَقَك لا من صَدَّقك”. وفقكم الله لما يحبّه ويرضاه، وأعانكم على طاعته، ونيل رضاه وحفظكم والمملكة الغالية. إنَّه سميع مجيب.

والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته

المخلص

طه جابر فياض العلواني

كليَّة الشريعة – الرياض

5/7/1398ﻫ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *