أ.د.طه جابر العلواني
لقد حملت الأنباء أنَّ المملكتين العربيتين -المملكة العربيَّة السعوديَّة ومملكة البحرين- يعملان الآن بِجِدٍّ من أجل إقامة اتحاد بين البلدين، ويأملان أن يشمل بعد ذلك بقيَّة الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجيّ. وهذه خطوة طيبة مباركة، يفرح لها كل عربيّ مسلم -بقطع النظر عن التوقيت وما يثيره بعضٌ عن الدوافع أو أيّ شيء آخر- فتباعد المسلمين بعضهم عن بعض أمر ذميم ومكروه وخطير، والإقليميَّة شأن مرذول، مرفوض، لا يحقق إلا مصالح أعداء الأمَّة والمنتفعين من فرقتها.
كان ينبغي لهذا الاتحاد أن يقوم من سنين طوال بين جميع دول مجلس التعاون، إضافة إلى البلدين اللتين تشكِّلان عمقًا استراتيجيًّا هامًا؛ لا من أجل تغيير طبيعة ديمغرافيَّة، أو تكثير بعض فصائل هذه الشعوب على حساب فصائل أخرى، فذلك أمر لا ينبغي الالتفات إليه أمام أهميَّة الوَحْدَة والجماعة في هذه الظروف، إنَّما لأنَّ بين البحرين والسعوديَّة وبقيَّة دول مجلس التعاون وبلدان العمق الاستراتيجيّ من الروابط ما هو جدير بأن يقيم بينها وَحْدَة ناجحة على جميع المستويات السياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة، وتوجب معالجة جميع الأزمات التي تعاني منها هذه البلدان نتيجة فرقتها وانقسامها. ولا شك أنَّ إقامة جسر السعوديَّة/البحرين منذ عدة سنوات قد جعل أمر المناداة بهذا الاتحاد اليوم أمرًا ميسرًا وسهلًا، وجعل الشعبين يدركان كميَّة الفوائد التي تعود عليهما جميعًا إذا ما دخلا في إطار اتحاد تتلوه -بإذن الله- وَحْدَة.
إنَّ جميع بلدان الخليج وبلدان العمق الاستراتيجيّ في خطر شديد من نواحي عدّة، داخليَّة وخارجيَّة، واتحادها سوف يدرأ هذه المخاطر ولو إلى حين؛ لذلك فإنَّنا نهيب بالملكين والشعبين وبقيَّة أمراء ورؤساء دول مجلس التعاون ودول العمق الاستراتيجيّ أن يبادروا إلى العمل على دعم هذا الاتحاد، وتحويله إلى حقيقة واقعة في أسرع وقت ممكن، ودعوة الجميع للانضمام إليه، وتجاوز جميع العقبات التي قد تقف في طريقه. وقد يكون نموذج الجماعة الأوروبيَّة من النماذج المهمَّة التي تستحق الدراسة في عمليَّة بناء الكتل المعاصرة، فعالم اليوم لم يعد يتسع للكيانات الصغيرة التي يسهل ابتلاعها أو تفجيرها من الداخل أو إسقاطها، فهو عالم الكتل الضخمة، التي تجتمع على مصالح وجوامع عديدة؛ لذا فإنَّنا نقترح أن يتم تنفيذ جسر قطر-البحرين، وشبكة المواصلات الأخرى التي خُطط لها منذ فترات طويلة ولم تنفذ؛ لتربط دول مجلس التعاون ودول العمق بروابط اتصالات ومواصلات تعين على تغيير نفسيَّة الإنسان العربيّ من الحالة الانفصاليَّة إلى الحالة الوَحْدَويَّة، وتجعله يشعر بامتداده وعمقه وعلاقاته، وأنَّه كثير بإخوانه قليل بنفسه، وأنَّه مهما كانت التضحيات فإنَّ هذه الروابط جُنَّة وحماية من أخطار كثيرة جدًا إقليميَّة ودوليَّة، بل وداخليَّة كذلك.
إنَّ العمق الاستراتيجيّ للخليج يشمل في المرحلة الحالية مصر واليمن وبلدان ومناطق أخرى لا تخفى على الباحثين ولا على ذوي التفكير الاستراتيجيّ؛ ولذلك لابد من إقامة الجسر الذي كان خادم الحرمين قد خرج لوضع حجره الأساس في الجانب السعوديّ على أمل أن يضع رئيس مصر المخلوع حجره الأساس في الجانب المصريّ، فرفض أن يخرج في ذلك اليوم لأنَّه أُمِر أن يرفض، وكأنَّه أراد أن يُبْقي خطر عبَّارات الموت قائمًا يلتهم المصريين، وكنت أتمنى على الوفد الذي زار خادم الحرمين للاعتذار له عمَّا حدث للسفير السعودي في القاهرة ألاّ يخرج من عند خادم الحرميين إلا باتفاق على ضرورة إقامة هذا الجسر الحيوي بين السعوديَّة ومصر والبدء بتنفيذه. فهذا الجسر سوف يربط مصر بالسعوديَّة ودول الخليج وتركيا وإيران، ويوجِد مجالات كثيرة للاستثمار ولتطوير العمالة المصريَّة، والاستفادة بها، وسيربط بين القارتين أفريقيا وآسيا كذلك. وفي الوقت نفسه سوف تصبح مصر -كما كانت دائمًا- نقطة الاتصال بين البلدان المغاربيَّة العربيَّة وأوروبا والخليج والمشرق.
إنَّ هذا الجسر في نظري وفي الوقت الحاضر أكثر أهميَّة من قناة السويس يوم شُقت وبُنيت. والأمل كبير في رجالات مصر القادمين أن يتعاونوا مع رجال المملكة لإقامة هذا الجسر الذي لا غنى للبلدين عنه، بل لا غنى للعالم العربيّ والإسلاميّ عنه.
في الوقت نفسه، نهيب بالمملكة العربيَّة السعوديَّة التعاون مع تركيا لإقامة سكة حديد الحجاز التي فجرها لورنس في عام 1916 بيديه الملوثتين بدماء المسلمين والعرب. فقد آن الآوان لإزالة هذا العار وغسله، وإعادة بناء سكة حديد الحجاز بالجهود والقدرات والخبرات الفنيَّة والماديَّة للمملكة العربيَّة السعوديَّة وتركيا. إنَّ هذه الشبكات من المواصلات والاتصالات تعد كفرض العين إسلاميًّا، فهي مما لا يتم الواجب المطلق إلا به وهو مقدور للمكلَّفين، فيكون واجبًا حتمًا على جميع القادرين.
إنّنا نأمل كما ذكر في التصورات الوَحْدَويَّة بين السعوديَّة والبحرين أن تفاتح دول مجلس التعاون بقيادة المملكة جميع الدول الأعضاء في الجامعة العربيَّة لتوحيد التمثيل الدبلوماسيّ، وتوفير الملايين التي تنفق دون فوائد توازيها تعود على الدول الأعضاء، وكذلك تخفيف القيود على انتقال الأموال والأشخاص بين كل هذه البلدان -بلدان دول مجلس التعاون، والدول الأعضاء في جامعة الدول العربيَّة- والعمل على توثيق الروابط الاقتصاديَّة والاتصاليَّة، وتخفيف قيود الدخول والخروج وما إليها، فذلك كلّه سوف يعود على هذه الشعوب بالخير العام.
إنَّ ثمّة أزمات كامنة لدى جميع شعوب المنطقة -شعوب الخليج وشعوب العمق كاليمن ومصر والأردن وما إليها- لا يمكن أن تحلّ أو تعالج إلا بانفتاح هذه الشعوب على بعضها. منها: أزمات العنوسة، والفقر، والبطالة، وانتشار المخدرات، وتكاثر الجرائم، فهذه كلّها أمور وأزمات يعجز أي إقليم عن معالجتها بمفرده؛ لذلك فإنَّنا نرجو أن تستيقظ شعوبنا وتدرك ضرورة المسارعة إلى إعادة بناء روابطها وترميم ما رثّ منها، والتمهيد لتشكيل جماعة عربيَّة مسلمة في مستوى الجماعة الأوروبيَّة، نستطيع بها أن نتجاوز كثيرًا من مشكلاتنا وأزماتنا، فنرجو أن يسارع أهل العلم والفضل والفكر إلى تعميق هذه المشاعر الجنينيَّة التي بدأت بالدعوة إلى الاتحاد بين المملكتين السعوديَّة والبحرينيَّة، ومباركتها، وتأييدها، وتجاوز حالات التشكيك في أسبابها التي لا مسوِّغ لها إلاّ المشاعر السلبيَّة التي ألف بعضٌ ترديدها في مثل هذه الظروف.
نرجو الله -سبحانه وتعالى- أن يتمم بخير، وأن تبدأ عجلات التضامن والاتحاد، بل والوَحْدَة، بالدوران من جديد. لعل أمتنا تتعافى من كثيرٍ من الأمراض التي توطَّنت بلداننا وديارنا، ومازالت تنمو وتكبر وتعيش على ضعف الوعي والتواكل، وقلَّة الرجال ذوي الهمم العالية، لكن ما قام به الملكان -ملك المملكة العربيَّة السعوديَّة وملك البحرين- يستحق الإشادة والدعاء واعتبار ذلك منطلقًا للوصول إلى أهداف أكبر، والله ولي التوفيق.