د. طه جابر العلواني
إنَّ الله -جلَّ شأنه- قد أغنانا نحن المسلمين عن البحث عن المخارج والحيل، ذلك بأن جعل من خصائص شريعتنا ما جاء في قوله تعالى: ﴿وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (الأعراف:156-157) ، فهذه خصائص الشريعة، شريعة يستحيل أن تأمر بغير معروف، أو تأمر بمنكر، أو تحل خبيثًا أو تحرم طيبًا، أو تضع في أحكامها ما يشكِّل إصرًا أو أغلالًا على الناس، فهي شريعة تخفيف ورحمة، ورفع للحرج، وتحرير للناس، وإطلاق لطاقاتهم، وتمكينهم من الوفاء بعهد الله، والقيام بحق الاستخلاف، وأداء الأمانة التي ائتمن الله البشر عليها، والنجاح في اختبار الابتلاء، والفوز بيوم الجزاء؛ ولذلك استحقت دون غيرها أن تكون خطابًا عالميًّا، وشريعة عالميَّة؛ لاشتمالها على هذه الخصائص التي لم تشتمل عليها شريعة قبلها. فشريعة بني إسرائيل -وهي منزلة لتناسب أولئك القوم زمانًا ومكانًا وإنسانًا- اشتملت على قيود ثقيلة منها: ما أشار الله إليه بقوله تعالى: ﴿فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ (النساء:160-161)، فالتكليف كان في تلك الشرائع قد يأخذ شكل العقوبة -لأسباب يطول شرحها- أمَّا في شريعتنا هذه فلا يمكن أن يأخذ التكليف هذا الشكل، أو ينطلق من هذا المنطلق؛ لأنَّ خاتم النبوَّة والأمر بالتحاكم إلى الكتاب: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ﴾ (آل عمران:23). وعزز الله -جلَّ شأنه- حاكميَّة كتابه بقوله تعالى: ﴿… إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ …﴾ (الأنعام:57) في أكثر من موضع في القرآن المجيد، وحاكميَّة الكتاب غير الحاكميَّة الإلهيَّة التي كانت في بني إسرائيل وانتهت في مرحلة من مراحل تاريخهم.
فشريعتنا إذًا قائمة على حاكميَّة الكتاب، وختم النبوَّة، وشريعة تخفف ورحمة تحمل هذه الخصائص التي ذكرها الله –جلَّ شأنه- لتصبح شريعة عالميَّة، صالحة للبشريَّة كلّها، وقد عززت تلك الخصائص بأن أضيف لها مقاصد شاملة للشارع -جلَّ شأنه، متضمنة لمقاصد المكلَّفين، وكليَّات كثيرة اشتمل القرآن عليها، لا تخفى على الباحثين الجادين في كتاب الله؛ لذلك استحقت هذه الشريعة أن تكون عالميَّة للبشريَّة كلّها في كل أزمانها وأماكنها، لا تختص بشعب، ولا بمحيط جغرافيّ، ولا بعناصر بشريَّة محددة، فجاء النداء بعد ذكر الخصائص: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ (الأعراف:158)، ولم تعد البشريَّة بعد هذه الشريعة والكليَّات التي اشتملت عليها، والخصائص والمقاصد المبثوثة فيها، بحاجة إلى أيَّة شريعة أخرى يشرعها البشر أو سواهم؛ ولذلك فإنَّ الله -جلَّ شأنه- قد بيَّن في كتابه أنَّ القرآن المجيد تبيان لكل شيء: ﴿… وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ (النحل:89)، وجاء بعد ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ (النحل:90-91) وبذلك تتسع هذه الشريعة لطموحات البشريَّة كلّها، ونجد بينها وبين كل تلك الطموحات صلة، فهي الشريعة القادرة على التأصيل لحقوق الإنسان وحقوق الأمم، ورسم القواعد الكفيلة بإيجاد سلام على الأرض، وخفض نسبة المنازعات فيما بينهم، وما إلى ذلك. فما بال هؤلاء الذين لم يعرفوا من الشريعة إلا أشخاص أو فئآت يَكْرَهُونهم فنقلوا خوفهم وكراهيَّتهم لأولئك الأشخاص إلى شريعة الله الطاهرة النقيَّة، التي تستحق من البشريَّة كافَّة كل تقدير واحترام، بل والتزام بما جاءت به؛ لتسعد البشريَّة فتدخل في السلم كافَّة.