Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

النبوَّة والرسالة

د.طه جابر العلواني

إنَّ الذي يحملنا على تناول موضوع هذا المقال هو أنَّ هناك قومًا قد عميت عليهم المعاني، وفرَّقوا تفريقًا -لا مُسَوِّغ له من لغة أو نقل أو عقل- بين النبوَّة والرسالة، وسوَّل لهم الشيطان أنَّ النبوَّة قد ختمت ولكنَّ الرسالة لم تختم، وزعموا -بناءً على ذلك- أنَّ الذي خُتم من الرسالة -إن كان شيء منها قد خُتم- إنَّما هو الرسالة التشريعيَّة، أمَّا كل أنواع الرسالات وما اشتملت عليه فهي مفتوحة لم تختم. وقد نُسب إلى بعض غلاة المتفلسفين من الصوفيَّة أقوال موهمة بهذا المعنى؛ من مثل ما نسب إلى ابن عربي شيء مما أوهم به بعض كلامه في الفتوحات المكيَّة، وتكررت نسبة ذلك إليه في تفسير سورة الكهف من تفسير روح المعاني للألوسي، حيث أورد صاحب روح المعاني نقلًا عن ابن عربي قد يفيد ذلك.

إنَّنا حين نرجع إلى القرآن الكريم وبيِّناته ومبيِّناته من الآيات نجد الفهم واضحًا لا يسمح لأحد أن يدخل تلك المتاهة في التفريق بين النبوَّة والرسالة، حتى بلغ الوهم ببعضٍ حدَّ الادَّعاء بأنَّ هناك أنواعًا من النبوَّة بقيت يجري تناقلها بين الأئمة الذين أطلق عليهم ورثة الأنبياء، أو مَنْ أطلق عليه الغوث، أو قطب الأقطاب من الغلاة الذين أشرنا إليهم. والذي نود أن نقرره هنا بناءً على هدي الكتاب الكريم أنَّ هذه الشبهة قد عزّزها بعض الكلاميين الذين فُتنوا بالتعاريف الأرسطيَّة ولم يلتفتوا إلى تعاريف القرآن المجيد الذي بيَّن بجلاء ووضوح سائر معاني النبوَّة والرسالة، بحيث لم يترك مجالًا للشيطان وحزبه أن يتلاعبوا في هذه المساحة.

لقد زعم بعض الكلاميين أنَّ النبي هو: مَنْ أُوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه للناس، فكأنَّه أوحي إليه ما ينتفع به وحده من شريعة أو أحكام ووصايا تمثِّل جزءًا من شريعة، بحيث يكون ذلك الرجل صالحًا في نفسه، فإذا مارس دعوة أو إرشادًا أو هداية لسواه فإنَّه يفعل ذلك متطوعًا مختارًا، والذين يقبلون منه نصحه وموعظته مختارون كذلك، فكأنَّ النبي الذي لم يحمل للناس شريعة ورسالة حسب تعريف هؤلاء هو من أولئك الذين كانت تطلق عليهم بعض الأمم السالفة لقب المـحَدَّثين أو الملهَمين. ويعرف الكلاميّون الرسول بأنَّه: من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه للناس.

ونحن سنعتمد على القرآن المجيد وآياته البيِّنات لبيان هذا الموضوع وحسمه، وإغلاق منافذ الشيطان والحيلولة بينه وبين التلاعب ببعض العقول، فنقول وبالله التوفيق:

«نبأ» في القرآن

وردت كلمة النبأ في آيات قرآنيَّة كثيرة، ووردت كلمة نبي كذلك في آيات كثيرة، من هذه الآيات قوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ*أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ﴾ (ص:67-68)، وقوله تعالى: ﴿عَمَّ يَتَسَاءلُونَ*عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ﴾ (النبأ:1-2)، وقوله تعالى: ﴿تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (هود:49)، وقوله تعالى: ﴿تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللّهُ عَلَىَ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ﴾ (الأعراف:101)، وقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ﴾ (هود:100)، وقوله تعالى: ﴿قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ (البقرة:33)، وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ (الحجرات:6)، وقوله تعالى: ﴿يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ﴾ (القيامة:13)، وقوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ﴾ (التحريم:3)، وقوله جلّ شأنه: ﴿يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ (التوبة:94)، وقوله تعالى: ﴿نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ (الحجر:49)، إلى غير ذلك من آيات كثيرة؛ تنبّه في جملتها على أنَّ النبأ في لسان القرآن هو خبر هام أو عظيم، يحصل به لمن يبلغه علم أو غلبة ظن. ويتضح من الاستعمالات المتنوعة لهذه الكلمة ومشتقاتها أنَّه لا يقال للخبر نبأ، إلا إذا كان خبرًا ذا فائدة عظيمة يترتب عليه في الإدراك الإنسانيّ علم أو غلبة ظن، أو حينما لا يحتمل الكذب، فإذا احتمل الكذب فيعبر عنه بالخبر؛ ولذلك شاع استعمال جيل التلقي  لكلمة نبأ في خبر الله -سبحانه وتعالى- وفيما ثبت عن رسوله -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- وفي الأمور المتواترة. وفي الاستعمال القرآنيّ نستطيع أن نلحظ ذلك بوضوح، فقد قال جلّ شأنه: ﴿قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ*أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ﴾ (ص:67-68)، وقال تعالى: ﴿عَمَّ يَتَسَاءلُونَ*عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ﴾ (النبأ:1-2)، وقال تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (التغابن:5)، وفي قوله جلَّ شأنه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ (الحجرات:6) إشارة إلى أنَّ الفُسَّاق لا يصلحون لنقل الأنباء، فأنباؤهم موضع شك وطعن يقتضي التثبّت.

بين «نبأ» و«نبوّة»

ومن الاستعمال القرآني لكلمة (نَبَّأ) كذلك، قوله تعالى: ﴿قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ﴾ (التحريم:3)، وقوله: ﴿نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ (الحجر:49)، وهو أبلغ لدى علماء العربيَّة من (أنبأ) بالهمزة؛ لأنَّه مثل قولهم: أعلمته فعلم، أو علّمته، ونبيء فعيل بمعنى: فعل؛ أي: نبأه الله فصار نبيئًا، والنبوَّة: سفارة بين الله -تعالى- وبين ذوي العقول من عباده بأنباء تسكن إليها العقول الذكيَّة والقلوب السليمة، وتستقيم بقبولها والاهتداء بها حياتهم في معاشهم ومعادهم، يصطفي لها الله مَنْ شاء من عباده، فهي تقوم على مُنْبئ أو مُنَبئ هو الله تعالى، ومُنبأ ونبيء وهو النبي، ونبوَّة أي خبر عظيم، على مَنْ يخبر به وينبأ أن يتلقاه بالقبول، ويستفيد به علمًا أو غلبة ظن في الحد الأدنى، فالملاحظ في النبوَّة -الذي حاول المفهوم أن يبرزه- هو مضمون النبوَّة، والذي هو النبأ العظيم الذي يستحق أن يُستقبل بالاهتمام اللائق به، والذي يجدر بالعقلاء أن يستقبلوه بالانتباه وتهيئة قوى وعيهم كلّها لما تشتمل عليه من أنباء عظيمة هائلة، فهؤلاء المشركون الذين يستمعون إليها وهم لاعبون لاهون ساهون جهلة أغبياء، يفوّتون على أنفسهم المنافع. والنبي ليس مخبرًا عاديًّا، بل هو رجل اصطُفي لحمل الأخبار العظيمة من الله -تعالى- إلى عباده، ومن عالم الغيب والأمر والإرادة إلى عالم الشهادة.

الرسالة والرسول

        أمَّا الرسالة فقد وردت أيضًا كلمة رسول ورسالة في مواضع كثيرة، منها: ﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ (التوبة:128)، وقد تستعمل لرسول من الملائكة لأنّ الله يصطفي من الملائكة رسلًا ومن الناس؛ لذلك جاء قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ﴾ (الحاقة:40)، ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ﴾ (التكوير:19)، وكذلك قالت الملائكة: ﴿قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ﴾ (هود:81)، وقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ﴾ (هود:69)، وقوله تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ﴾ (آل عمران:144)، وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ (المائدة:67)، وقوله تعالى: ﴿وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (الأنعام:48)، وجاء قوله جلّ شأنه: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ (المؤمنون:51)، ويقال لمن أُرسل برسالة إلى آخر: رسول، وتجمع على رسل. وخلافًا لكلمة نبي تستعمل كلمة الرسل استعمالات أوسع، فقد جاء استعمالها في الإنسان العادي مؤمنًا أو كافرًا، وفي الأشياء المحبوبة والمكروهة، بحيث يراد بها في بعض الأحيان التسخير، كإرسال الريح والمطر: ﴿… وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَارًا…﴾ (الأنعام:6)، وقوله تعالى: ﴿فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ﴾ (الشعراء:53)، وقوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا﴾ (مريم:83).

إذًا فتعريف الكلاميين هو اصطلاح لهم لا يدل القرآن المجيد عليه إلا من بعض الأوجه، فمن أراد استعمال كلمة الرسل والرسول والرسالة بالمعاني اللغويَّة والتعابير العرفية فلا اعتراض، أمَّا إذا أراد استعمالها في الأنبياء فلا بد أن يتقيد بلغة القرآن المجيد ولسانه، وكل ما ذكره الله -جلّ شأنه- من مقام رفيع يجعل النبوَّة والرسالة معًا اصطفاء إلهيًّا، مقيّدًا بما ذكره الله في قوله: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ (الشورى:51)، فإذن النبي شامل للرسول. أمّا الآية التي يستدلون بها لم يستطيعوا أن يدركوا معناها في سياقها القرآنيّ، فلقد جاء في القرآن: ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ (الأحزاب:40)، فنفى عنه أبوته لأيّ أحد من الرجال ونفى عنه قضيَّة التبنّي؛ لأنَّ الآية جاءت في ذلك السياق وأثبتت له الرسالة وأنَّه خاتم النبيين، فذكر الرسالة قبل النبوَّة يجعل كلمة خاتم شاملة لرسول الله ولخاتم النبيين، فهو رسول الله بالنسبة لكم وليس لأحد منكم أن يضيفه إلى نفسه بأبوَّة ونحوها، فينبغي أن يضاف إلى الرسالة التي حملها، فنطيعه فيما أرسل به ونؤمن بأنَّه خاتم النبيين، وفيه التفاتة في غاية الأهمية أنَّ الله -جلّ شأنه- أراد أن يقول لهم كما أنَّ النسب قد توقف فلم نترك أحدًا يدعي انتسابه إليه بالأبوَّة فلا ترثون أنتم ولا سواكم عنه الرسالة والنبوَّة. فالنبوَّة ختمت ومعها الرسالة، وهنا تتحول النسبة إلى الشهادة، والانتماء إلى الأمَّة الوسط، الأمَّة الخيِّرة الأمَّة الشاهدة، فتلك منابع الشرف وعلوّ المكانة، أمَّا الإدلاء بالنسب أو الإرث فهو افتراء.

هكذا يجلي القرآن المجيد هذا الموقف ويقطع السبيل أمام هؤلاء الأدعياء الذين يتشدقون وتؤزهم شياطينهم أزًّا؛ مرة بصرفهم إلى معاني لغويَّة لا دلالة فيها على ما يريدون، ولا تعطي المعاني التي يدّعون، فينبغي أن يفهم ذلك بوضوح. فكلمة الرسالة يتبادر إلى الذهن منها رحمة الله تعالى المرسِل؛ الذي لم يشأ أن يترك عباده سدى، أو يعطي الشيطان فرصة للعبث بهم، أمَّا الملاحظ في النبوَّة فهو عظمة النبأ والمضمون: ﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (فاطر:2). فكلا المصطلحين يتضافران في إعطاء المعنى المطلوب لأولئك الذين اصطفاهم الله -جلّ شأنه- وجعلهم أنبياء ورسلًا.

مما سبق يتضح أنَّهما كلمتان يدلان على شخص واحد؛ هو ذلك الذي شرَّفه الله برسالته ونبّأه بما أراد أن ينبّئه به فجعله نبيًّا رسولًا، فهو خاتم النبيين والمرسلين، في الرسالة يبرز رحمته من حيث الإرسال واختيار الرسل من البشر لا من الملائكة أو سواهم، وفي النبوَّة يقدم الأنباء العظيمة؛ التي هي الرسالة. وهكذا تأتي كلمات القرآن لتقدم المعاني المتنوعة، بحيث لا تدع معنى يُهم الإنسان الوصول إليه إلا وقدمته له بأوضح سبيل.

فاللهم أرنا الحق حقًّا ووفقنا لاتباعه، وأرنا الباطل باطلًا ووفقنا لاجتنابه… أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *