د. طه جابر العلواني
المثل في القرآن
يستغرب كثير من الناس ويتساءلون عن أسباب اهتمام القرآن الشديد بذكر كل ما يتعلق ببني إسرائيل، وتاريخهم، ومواقفهم، وأنبيائهم، ولا يلتفتون إلى أنَّ الله –تبارك وتعالى- أراد بذلك أن يقدَّم للبشريَّة نموذجًا حيًّا لا يمكنها أن تنساه أو تتجاهله لما يمكن للاستبداد أن يصنعه في البشر، فبنو إسرائيل قد خضعوا لحالة استبداد واستعباد لفترة طويلة أنستهم كثيرًا من القيم، وخاصَّة قيم الحريَّة والمساواة والعدالة والإنسانيَّة، وانتماء البشر الواحد لآدم وآدم من تراب.
إنَّ الله -تبارك وتعالى- عالج الكثير من القضايا التي استمرأتها البشريَّة، وترسخت لدى أقوام من البشر؛ بتقديم بديل؛ إمَّا أن يؤدي إلى استئصالها أو أن يكشف سائر عيوبها. مثلًا قصة سيدنا إبراهيم مع إسماعيل –عليهما السلام- قصة هادفة لاستئصال جريمة القربان البشريّ التي كانت البشريَّة قد استمرأتها ومارستها زمنًا طويلًا حتى صارت نوعًا من المسلَّمات، فبيَّنت لنا القصة فظاعة التقرب بإنسان وذبحه على سبيل العبادة والقربان، وبيَّنت لنا من أحوال النَّفس الإنسانيَّة الشيء الكثير الذي يحتاج بسطه إلى عدد كبير من الكتب. وجاءت مسألة التبنِّي فتم استئصالها بتلك العمليَّة الجراحيَّة الخطرة التي جعل الله نبيَّه -صلَّى الله عليه وآله وسلَّم- يتحمل المعاناة الكاملة فيها وتنبيه البشريَّة إلى أخطارها.
بنو إسرائيل من السيادة إلى العبوديَّة
إنَّ قصة بني إسرائيل قصة شعب تحوّل عبر تاريخ طويل من سيد في أرض مصر إلى شعب من العبيد يستبد فرعون بهم ويعلن ألوهيَّته عليهم: ﴿…مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي…﴾ (القصص:38)، ﴿…أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾ (النازعات:24)، وصار يستحيي نساءهم ويقتِّل أبناءهم ويتحكم بهم بأكثر مما يتحكم بماشيته وأنعامه، وليبيِّن الله -تبارك وتعالى- للبشريَّة قبحَ الاستبدادِ، والفسادَ الذي يجره على مَنْ يُبتلى به من الشعوب؛ جعل بني إسرائيل الذين اصطفاهم في مرحلة، وجعل منهم أئمة يهدون بأمره لما صبروا، وكان نفوذهم في مصر في عهد يوسف كبير جدًّا، أرانا بعد ذلك ماذا فعل بهم الاستبداد، لقد استأصل من نفوسهم كل معاني الإنسانيَّة، وجرَّدهم من شرف الانتماء إليها، وقضى على كل معاني التوحيد والإيمان بوجود الله ربًّا وإلهًا وخالقًا وبارئًا ومصورًا؛ ليضفي ذلك كلّه على نفسه، ويجعل من فرعونيَّته الطاغية المستبدة بديلًا عن ذلك كلّه، فأراد -تبارك وتعالى- أن يعيد لهذا الشعب -الذي استبدّ به فرعون- كرامتَه، ويردّه إلى بشريَّته وإنسانيَّته: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ*وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ (القصص:4-5)، فجعل الله -سبحانه وتعالى- قدر هذا الشعب بأن يهيئ له نبيًّا في أخوين؛ هما موسى وهارون، يقودانه بإذنه -تعالى- وبحاكميَّته المطلقة ومعيَّته الدائمة إلى شاطئ الحريَّة والبشريَّة من جديد، فجعل الله -سبحانه وتعالى- نفسه حاكمًا لهم في أرض مقدسة، وزوَّد موسى بتسع آيات خوارق من عنده، وجعل حياتهم كلّها محاطة بإرادته، بحيث يطلبون كل ما يريدون منه -جلَّ شأنه- وينفذ الله لهم ما يريدون من الطعام والشراب والمياه وإرسال الأنبياء، كل ذلك ليطهِّرهم من آثار تألّه عباد مثلهم عليهم؛ هم الفراعنة.
فشل العودة
وحين نقرأ تاريخ بني إسرائيل -كما جاء في كتاب الله، وكما هو في واقع حياتهم- نجد الدروس والعبر في كل شيء، فبعد الحاكميَّة الإلهيَّة وإقامة حياتهم على الغيبيَّات؛ يطلبون الطعام فينزل إليهم جاهزًا من السماء منًّا وسلوى، ويطلبون المياه فتفجر عيون المياه بعصا موسى؛ ليكون لكل فصيل منهم ماؤه الخاص به؛ لئلا يختلفوا أو يتقاتلوا على المياه، ونَقَلَهم إلى الأرض المقدسة واعتنى -جلَّ شأنه- بهم، وأرسل لهم عشرات الأنبياء؛ ففريقًا كذَّبوا وفريقًا يقتلون، ثم في نهاية المطاف -خاصَّة بعد عرض موجز تاريخهم في سورة البقرة (من الآية 39 حتى الآية 106) ثم في آيات مفرقة في بقيَّة السورة- جاء القرار الأخير: ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (البقرة:106)، فكانت إعلانًا بانتهاء التجربة وبيان فشلها: ﴿أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ﴾ (البقرة:108)، فنفسيَّة الاستبداد جعلت منهم قطيعًا يحمل عقليَّة عوام، بل أقل، بحيث يقول الله جلَّ شأنه: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ (الجمعة:5)، فالكتاب حملوه حملًا حماريًّا، وكانت تستهويهم وتستغرق أفكارهم القضايا الجزئيَّة والتفاصيل. وقصة البقرة نموذج جيد لفقههم البقري ووعيهم الغبي، الذي جعل منهم حالة ميؤوسًا منها، لا بد أن تنساها البشريَّة بعد أن تأخذ الدرس والعبرة من خلالها، وتعتبرها آية قد تم نسخها، فلم تعد أمَّة مصطفاة، ولم تعد أمَّة تهدي بأمر الله، بل صارت شيئًا آخر.
وقصة بني إسرائيل ترينا أنَّ الاستبداد حينما يستفحل ويعيش الناس في ظله قرونًا تُنسخ إنسانيَّتهم، وتصبح عمليَّة إعادتهم إلى الإحساس ببشريَّتهم عمليَّة صعبة، إن لم تكن متعذرة. واستبداد فرعون لا يختلف عن أي استبداد آخر، فالمستبدون هم المستبدون، يسعون إلى استلاب بشر مثلهم، والتحكم في مقدَّراتهم، والله -تبارك وتعالى- حين بيَّن لنا هذه التجربة المريرة بكل تفاصيلها، وعرض على البشريَّة كل مفاصل تاريخ بني إسرائيل -صعودًا وهبوطًا- لتتعلم البشريَّة كما تعلمت من قصة إبراهيم –عليه السلام- تحريم القربان البشريّ، ومن قصة سيدنا محمد –صلَّى الله عليه وآله وسلَّم- تحريم التبني، فلكي تتعلم تحريم الاستبداد وتغلق سائر منابعه من أفكار التقليد وثقافة التبعيَّة وعقليَّة العوام والخضوع لاتجاهات العقل الجمعي، وما إلى ذلك.
الأمَّة والاستبداد
إنَّ مما يُفترض بالمسلمين الذين قرأوا القرآن وتربوا على آياته ألا يقتربوا من أي منبع من منابع الاستبداد والتقليد والتبعيَّة والخضوع للأوثان الاجتماعيَّة والعقل الجمعيّ، فكل أولئك شركاء، مَنْ اتخذ شيئًا منهم فقد أشرك بالله جلَّ شأنه. فكيف تجاهل المسلمون ذلك كله وزال من ثقافتهم، بحيث لم تمضِ العقود الأولى من حياة الأمَّة التي صنعها رسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- على عينه بآيات هذا الكتاب المجيد إلا وردَّت إلى الاستبداد، وتقبلته، بحيث يتجرأ أحد الحاكمين في القرن الثاني الهجري أن يقول: “مَنْ قال لي اتقِ الله قطعت عنقه”، ويتجرأ حاكم آخر على أخذ الجزية ممن دخلوا الإسلام من أهل الكتاب، بحجة أنَّهم دخلوا الإسلام ليتخلصوا من عبء الجزية ولم يدخلوه مخلصين..! والأمَّة رأت ذلك كلّه ومارس بعض علمائها وقرَّائها انتفاضات وثورات، لكنَّ ذلك لم يحل دون وقوعها في شَرَك الاستبداد، ولقد هفا مَنْ لُقِّب بحكيم الشرق -جمال الدين الأفغاني- حين قال: “إنَّ الشرق لا يصلح له إلا مستبد عادل”، وفات ذلك السيد أنَّ الاستبداد بحد ذاته يتنافى مع العدل، يقول الله جل شأنه: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى*أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى﴾ (العلق:6-7)، ولقد تأثرت الأجيال التي تبنَّت ثقافة الأفغاني ومحمد عبده هذه المقولة الخطيرة، حتى إنَّ عبد الناصر في حوار له مع فكري أباظة قال له فكري: “إنَّ بعض الناس يرونك مستبدًّا، فهل أنت مستبد؟” فأجاب عبد الناصر متضاحكًا: “وماذا في ذلك؛ لأنَّ الشرق لا يصلح له -كما يقول الأفغاني- إلا المستبد العادل”، وكثيرون من الحكَّام والمحكومين يردِّدون ذلك، وما من دكتاتور صنعته أقاليم أمتنا الممزقة إلا ويسوغ استبداده بتلك المقولة الخطيرة المنافية للقرآن الكريم، وكثير من الحاكمين الذين حكموا أقاليمنا يفخرون بأنّ لديهم استبداد ولكنَّه من أجل تحقيق العدل، ناسين أنَّ الله -سبحانه وتعالى- جعل الاستبداد في منافاة وشقاق مع العدل، فهما ضدَّان لا يجتمعان أبدًا.
إنّ شعوبنا اليوم، وبعد تغلغل كثير من جراثيم الثقافات المريضة إلى عقولها وقلوبها استمرأت الطغيان، واستراحت له، وصارت غير قادرة على مفارقته. ولقد كنّا نقرأ في بعض كتب الفقه عن بعض المماليك الذين يعتقهم أسيادهم فيرفضون العتق، ويُصرون على العبوديَّة؛ لأنَّهم ألفوها، وألفوا الحياة في ظلالها، فلم يعودوا قادرين على مفارقتها. وشعوب كثيرة اليوم يرفض بعضها التحرر من الطغاة؛ لأنَّهم عاشوا في ظل الطغيان زمنًا، فيخافون لو ذهب الطاغية ألا يأمنوا على بقاء الحياة الرتيبة، التي عاشوها ويعيشونها في ظل الطغيان مع فيها مما يسمونه أمنًا ولو كان كاذبًا، واستقرارًا ولو كان خادعًا، وهو أقرب إلى استقرار الموتى منه إلى استقرار الأحياء، وكثيرون من الناس حينما يسقط الطاغية يبكونه ويبدأون بذكر مناقب لم تعرف عنه في حياته أبدًا، فقط للإلف والعادة، والعيش الطويل في ظل الاستبداد.
رؤية لضرورة مُلِحَّة
إنَّ الأمم التي تُبتلى بفراعنة ومستبدين ومَنْ إليهم أحوج ما تكون إلى أن تُجرى لها عمليَّات تغيير ثقافي ومعرفي وتغيير أنماط للحياة، والمسارعة إلى تقديم نموذج أفضل بكثير في مجال الأمن والغذاء، والضرورات الحياتيَّة؛ ليجعلهم قادرين على أن يروا وضعًا أفضل مما كان عليه أيام المستبد، وفي ظل الطاغية، فذلك قد يساعد على استعادتهم -ولو جزئيًّا- من حالة الاستلاب التي قام بها الطاغية، فإنَّ الطاغية يحاول أن يصنع من المجتمع الذي يحكمه مجتمعًا تسوده عقليَّات العوام، وطبيعة القطيع، ونفسيَّات العبيد؛ لأن هذه هي التي تجعل قيادهم سهلًا بالنسبة إليه.
إنَّ هذا الذي نقوله قد يصلح تفسيرًا عند مَنْ يهمهم الأمر لكثير من الظواهر التي شاهدناها ومازلنا نشاهدها في أقاليمنا الممزقة، منذ القرن الماضي وحتى يومنا هذا، فمتى نستطيع أن نقدِّم مشاريع نهضويَّة تقوم على تحرير شعوبنا من الطغاة والمستبدين ومن منابع الطغيان وثقافة الطغيان، ومن ثقافة التقليد والتبعيَّة وما أكثر منابعها؛ لنتخلص من عقليَّة العوام وطبيعة القطيع ونفسيَّة العبيد.