تابع خطب الجمعة
«الركون» و «الظلم»
أ.د/ طه جابر العلوني
قال تعالى: ﴿وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ﴾ (هود:113). والركون مأخوذ من ركن الشيء أي جانبه القوي الذي يمكن أن يستند إليه، ويسكن إليه، ويقوى الضعيف به؛ ولذلك فإنَّه كثيرًا ما يُستعار إلى القوة، كما في قوله تعالى: ﴿قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾ (هود:80) أي أستند إليه وأقوى به على مواجهتكم. و«أركان الشيء» جوانبه التي عليها مبناه، وإذا سقطت سقط، فالركون إذًا هو الاستناد والاعتماد والاستعانة والاعتضاد. فالظلم أنواع ومستويات، والركون إلى الظالم هو مستوى من مستويات الظلم يسقط فيه الضعفاء نفسيًّا والضعفاء في إيمانهم، والمحبون لدنياهم المفضلون لها على أخراهم، فيتحولون إلى وسائل تعضيد وإسناد للظالم، يستعين بهم في ظلمه واستبداده وقهره للعباد، وعبثه في البلاد.
إنّ الراكن إلى الذين ظلموا هو مَنْ يعمل على الاستعانة بجاههم، ونفوذهم، وما لديهم، ويعينهم في الوقت نفسه طمعًا ورغبة فيما لديهم، والأديان كلّها حاربت هذه النزعة الخطيرة في أتباعها، وعملت على تخليصهم منها، فحذرت من السقوط فيها؛ فالركون إلى الظالمين ممنوع ومحرّم ومنهيٌّ عنه في الأديان كافَّة. وما من نبي من الأنبياء إلا ووقف ظالمون بوجهه وعانى الأمرّين من أنصار أولئك الظالمين وأعوانهم والراكنين إليهم. وقد أصاب سيدَنا عيسى –عليه السلام- من الراكنين إلى الظالمين الكثير، وكان بنو إسرائيل أخطر عليه من الكفار والمشركين، وقد سعوا فيه كثيرًا، ووشوا به إلى الظالمين من حكَّام الروم، وكان الله منقذًا له على الدوام من أولئك. وركن أهل الكتاب من يهود المدينة إلى المشركين وهم يعرفون الرسول -صلى الله عليه وآله وسلَّم- كما يعرفون أبناءهم، ويعرفون أنَّه نبي رسول، وأنَّ أعداءه ظالمون له، ومع ذلك فقد انحازوا وركنوا إليهم، وقالوا للذين كفروا: ﴿… هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً﴾ (النساء:51).
إذًا الركون للظالمين جريمة بشعة، وللعلماء كلام كثير في الركون وأصنافه ومستوياته يمكن أن يُطلب من المبسوطات، وقد قام شرطي من شرطة بني أمية يسأل الحسن البصري -وكان يفسر الآية- عما إذا كان عمله في شرطة الحجاج وعبد الملك بن مروان يعد ركونًا للظالمين، فقال له الحسن علنًا: “أنت -يا هداك الله- من الظالمين ولست من الراكنين إليهم؛ لأنك شرطي من شرطهم، بك يضربون، وبك يهينون الناس، ويضطهدونهم، وبك يتجاوزون على أموال الناس وأعراضهم، وينتهكون حرماتهم، فأنت منهم، أمَّا مَنْ يعد في الراكنين للظالمين فهو مَنْ يُعد لك طعامك وشرابك، ويخيط لك ثوبك، ويبايعك، ويشاريك”.. ذلك هو الركون للظالمين كما فهمه أسلافنا.
عن الظلم ومستوياته
أمَّا الظلم فمأخوذ من الظلمة؛ وهي ضد النور، وجمعها ظلمات، والظلم -في أهم مستوياته- وضع الشيء في غير موضعه المختص به أو اللائق به، إمَّا بنقصان أو زيادة، أو بعدول عن وقته ومكانه. وأكثر ما استعمل القرآن هذا المفهوم بمجاوزة الحق الذي يفترض بالمؤمن أن يجعله مدارًا لكل شيء؛ لأنَّه الثابت المستقر وغيره مزعزع ما له من قرار، وقد استعمل القرآن المجيد مفهوم الظلم في مستويات ثلاثة:
أولها: ظلم الإنسان لنفسه، قال جلَّ شأنه: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾ (فاطر:32)، وقال جلَّ شأنه: ﴿… وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ …﴾ (البقرة:231)، وقال تبارك وتعالى: ﴿… وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ (آل عمران:117)، وقال: ﴿… وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ (البقرة:57)، ومثلها في الأعراف: ﴿… وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ (الأعراف:160)، وهذا النوع -ظلم الإنسان لنفسه- قد يكون بالإقبال على دار الغرور، والتجافي عن دار الخلود، والاستغراق في المعاصي والشهوات، وقد يصل إلى مستوى الشرك والعياذ بالله، فكل ذلك من قبيل ظلم الإنسان لنفسه.
ثانيها: هو ذلك الذي يقع من الإنسان تجاه ربه، وربه منزَّه عن وقوع الظلم عليه، لكن جاء التعبير القرآنيّ بذلك ليُشعر الإنسان بعظم جريمته حين يمارس كفرًا وشركًا ونفاقًا ورياءً وافتراءً وكذبًا، فيقول جلَّ شأنه: ﴿… إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ (لقمان:13)، ويقول: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ﴾ (الزمر:32)، ويقول: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ (الأنعام:21)، وقوله تعالى: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ﴾ (الأعراف:37)، وقوله تعالى: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ﴾ (يونس:17)، فهذا من الظلم جريمة بشعة؛ حين يتنكَّر الإنسان لنعم الله التي لا تحصى، أو يختلق له الشركاء، أو يتوجه بالعبادة والاستعانة إلى سواه، أو يؤمن بأنَّ هناك أحدًا من الناس أيًّا كان فئةً أو حزبًا أو جماعةً أو أفراد يمكن أن يجلبوا له نفعًا أو يدفعوا عنه ضرًّا من دون الله. والظلم أحيانًا يكون بإلباس الإنسان إيمانه بالظلم؛ أي: أن يخلط في إيمانه ظلمًا من الشرك، والركون إلى الظالمين، وما إلى ذلك.
ثالثها: هو ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، وفيه جاء قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (الشورى:42)، وقال جلَّ شأنه: ﴿… وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا﴾ (الإسراء:33)، ونفى الظلم عن نفسه متفضلًا، ونزَّه نفسه عنه، فقال: ﴿… وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ (ق:29)، وقال: ﴿… وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ (فصلت:46).
فالظلم خصلة بغيضة إلى الله تعالى، بغيضة إلى الناس، والظالم -مهما كان مستوى ظلمه- لا يحبه الله ، إنَّه جلَّ شأنه: ﴿… لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ (الشورى:40). بل إنَّ الظالمين بكل أنواعهم ملعونون مطرودون من رحمة الله: ﴿… أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ (هود:18)، والظلم من أشد ما ابتليت به البشريَّة في عصرنا هذا، وتفنّن الظالمون بأنواع الظلم وكيفيَّات إيقاعه، فإسناد الأمور لم يعد قائمًا على عدل أو كفاءة أو قدرة، بل على محسوبيَّات ورشاوى، وقد تفشى ذلك في الناس وانتشر، وابتكرت الشعوب لذلك أسماء وألقاب كثيرة لتغطي تلك الأنواع المتعددة من الظلم، وصار الركون إلى الظالمين سمة العصر؛ لضعف إيمان الناس، وقلَّة وعيهم، ولما أصاب الإيمان من إلباس وخلط؛ جعل المسلم أحيانًا يكره أهل الإيمان، ويشاكسهم، ويصد عن سبيلهم، ولا يجد في نفسه غضاضة في مناصرة أهل الظلم بكل مستوياته، فإذا ما ذاق مرارة الظلم بنفسه عج بالشكوى والتذمر، أمَّا إذا ذاقه جاره ومن لا علاقة له به فإنَّه لا يشعر بذلك الظلم، ولايناصره، ولا ينصر أهله، ولا ينتصر لهم بكل الوسائل القديمة منها والحديثة؛ لذلك وجد المستبدون فضاءً واسعًا لممارسة استبدادهم، وظلمهم وقهرهم ماداموا يستطيعون أن يجدوا مَنْ يركن إلى الظالمين، ويعينهم، ويظن أنَّ ذلك لن يدمر عليه دنياه وآخرته ما دام يعرف أن يقول أو يردد تلك الحجة البلهاء: “أنا عبد المأمور”، فكأنَّه يتجاهل: ﴿ وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ﴾ (هود:113)، ويتجاهل أنَّ مَنْ ينصر ظالم على ظلمه فإنَّما هو شريك له في ذلك الظلم وفي إثمه وحوبه وآثاره المدمرة في الدنيا والآخرة.
إنَّنا نتساءل عن الحدود الفاصلة بين الظلم والعدل، وهل بلغ بالمسلمين حد عدم القدرة على التفريق بين الظلمات والنور، والعدل والجور، والإيمان والشرك، وعادوا إلى جاهليَّة أولى، حين كان الجاهلي يقول:
وننصر مولانا ونعلم أنَّه | كما الناس مجروم عليه وجارم |
ورسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- بيَّن أنَّ الطريق الوحيدة لمناصرة الإنسان مَنْ يحب -حين يعزم على ممارسة ظلم أو يسعى إليه- هو أن يمنعه من الظلم، فورد عنه -صلّى الله عليه وآله وسلَّم: “أنصر أخاك ظالمـًا أو مظلومًا، فقال رجل: يا رسول الله أنصره إذا كان مظلومًا أفرأيت إذا كان ظالمـًا كيف أنصره؟ قال: تحجزه أو تمنعه من الظلم، فإن ذلك نصره”([1]). وإذا استحضرنا أنواع الظلم كما علّمنا القرآن إياها نستطيع أن نضع قوائم بملايين الخصال التي تعد ظلمًا، وتحتاج من المؤمنين منع مَنْ يحبون أو يرغبون في نصرتهم من السقوط في تلك الخصال مهما كان.
[1] البخاري، محمد بن إسماعيل أبو عبد الله. صحيح البخاري. بيروت: دار بن كثير، 1407ه/ 1987م. ط3. 6/6552.