Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

الوجود الإسلامي في أمريكا

د. طه جابر العلواني

منذ أن قررت اتخاذ الولايات المتحدة الأمريكية وطنًا ثانيًا لي ومصير الوجود الإسلامي في الولايات المتحدة وأروربا وكل ما يمكن أن يطلق عليه أنه غرب يؤرقني ويشغلني ويدفعني إلى محاولات استشراف مستقبل هذا الوجود الغض في الغرب. فالثقافة الإسلامية ثقافة أصيلة شاركت في وجودها وبناء دعائمها وأسسها عوامل عديدة لعل من أهمها: الدين وما يتضمنه من عقيدة وشريعة وقيم وأعراف وتقاليد وموروثات كثيرة ألّفت بيئات الشعوب الأمية. ومهما حملت الثقافة الإسلامية من المرونة وقابلية التعدد والتنوع تبقى ثقافة مميزة؛ إما أن ينتمي الإنسان إليها، وإما أن يتقبل انعكاساتها وتأثيراتها بقطع النظر عن أي شيء آخر؛ لكن قدرتها على الذوبان في غيرها أو الاندماج بسواها تكاد تكون معدومة وذلك شأن الثقافات التي قامت على أصول ثابتة وجذور عميقة.

من هنا نلاحظ ظاهرة يستطيع الكثيرون رصدها في جميع البلدان التي غمرها الإسلام في دائرة انتشاره الأولى وهي ظاهرة قوة هذه الثقافة ورسوخها، وقدرتها على استقطاب آخرين دون الذوبان في ثقافاتهم؛ لذلك نجد مجتمعاتنا في العمق الإسلامي والعربي بصفة خاصة ويمكن أن نجد شبها له في إندونيسا وفي باكستان وربما في الهند، أن المسلم هو من اتخذ الإسلام دينا، أمّا جاره الذي قد يكون كتابيا أو وثنيا فإنّه كثيرا ما يتأثر بثقافة المسلمين ويلتزم بها التزامًا يجعل الفارق بينه باعتباره مسلما ثقافيًّا وبين المسلم دينًا فارق لا يكاد يذكر.

ولقد عشت في بغداد سنوات من عمري كنت أرى اليهود العراقيين والنصارى والصابئة واليزيديين وغيرهم لا يختلفون في ثقافتهم رجالا ونساءً عن المسلمين. وحينما تقدم بي العمر بدأت أطلق على جيراننا من النصارى والصابئة واليهود (المسلمون ثقافيا) وأما معتنقو الإسلام فهم مسلمون دينا وثقافة. ذلك لا يعني أن الإسلام كان يعمل عن عمد وقصد على إذابة خصوصيات تلك الأقليات ودمجهم رغما عن أنوفهم في ثقافة إسلامية، بل كانت الثقافة الإسلامية تستهوي هؤلاء وتكسبهم إلى صفها وتجعلهم قادرين على تبنيها دون شعور بأنهم بذلك يتنازلون عن خصوصياتهم الثقافية أو يتنازلون عن هويتهم.

 وحين قدر لي أن أنتقل من المنطقة العربية الإسلامية التي عشت في بلدان ثلاثة منها زمنًا معتبرًا هي: العراق ومصر والسعودية، قبل ذهابي إلى هناك شعرت بالفوارق الكبيرة بين ثقافة المسلمين في بلدانهم والثقافة السائدة في أمريكا بالذات. مع أن أمريكا تعد بلدا مفتوحا إذ ما من دين أو ثقافة أو حضارة أو عرق أو مذهب أو نحلة إلا وتجد لها في أمريكا نموذجا أو أكثر وتجد لها موقعا أو أكثر تستطيع أن تتجلى فيه؛ بل لقد كان الأمريكان وبخاصة قبل الحادي عشر من سبتمبر يعتبرون ذلك التنوع مصدر فخار لهم ومصدر اعتزاز، ولم يكن يتردد بعضهم في القول بأن الخالق العظيم قد خلق الخلق والأرض كلها وجعل من أمريكا معرضا داخل هذه الأرض تستطيع أن تجد فيه نماذج من جميع الأعراف والثقافات والأديان والمذاهب والملل والنحل وما إليها. وبدلاً من أن تكلف نفسك عناء زيارة العالم كله وارتياد سائر أقطاره للاطّلاع على ذلك، فإنك قادر بسهولة وبيسر أن ترى أمريكا وتزورها وكأنك زرت العالم الفسيح كله. وأمريكا كانت فخورة بذلك وكان الأمريكان يؤكدون على أبناء كل ثقافة ينضمون إليهم رغبتهم في أن يحافظ هؤلاء الأمريكان الجدد أو الضيوف القادمون على ثقافاتهم وخصوصياتهم وأديانهم ونحلهم ليرفدوا ذلك الوطن أمريكا بتلك الروافد ويعززوها ويعتبرونها إضافة ذات قيمة إلى ما لديهم.

مراحل الوجود الإسلاميّ في أمريكا

ويقدر المؤرخون أن الوجود الإسلاميّ في أمريكا قد مر بمراحل أربعة:

المرحلة الأولى: من سنة ( 1150 – 1717م) (545-1130 ﻫ) وهي الهجرات الأولى لمسلمي الأندلس وغرب أفريقيا والهنود قبل كولومبس وبعده. يظهر رأيان رأي يؤكد أنَّ المسلمين وصلوا أمريكا قبل كولومبس، وقد عزز هذا الرأي بما يلي:

  أولا: ما نقل عن كولومبس لدى من كتبوا عن رحلته ونقلوا ذكرياته من أنَّه شاهد عند وصوله الأرض الأمريكيَّة مسجدًا قد بني على قمة جبل بزخارف أندلسيّة.

ثانيًا: عثر علماء الآثار الأمريكان على بقايا مساجد في كل من المكسيك وتكساس ونيفادا.

 ثالثًا: عثر على بقايا مدارس إسلاميَّة استدل على إسلاميَّتها بوجود كتابات قرآنيَّة وزخارف إسلاميَّة.

 رابعًا: يستأنس البعض لهذا الرأي كذلك بوجود أربعمائة وأربعة وثمانين اسمًا لولايات ومدن وقرى أمريكيّة مماثلة لأسماء مدن وحواضر إسلاميّة: مثل بغداد ودمشق والاسكندرية ومكة والمدينة وفلسطين وما إليها.

 خامسًا: أشار دكتور “Irving” لوجود عادات وتقاليد موروثة عن المسلمين الهنود الأمريكيّين وبعض الوثائق التي وردت فيها “بسملة” أو عبارات “الحمد لله” أو نحو ذلك، وعزز ذلك باحثون، آخرون منهم داوود زوينج.

 سادسًا: هناك آثار مكتوبة على الصخر في تسعين موقعًا في أمريكا الجنوبيّة والوسطى كتبت بأحرف من لغة الماندنج بغرب أفريقيا.

 سابعًا: العثور على عملات معدنيّة عربية ضربت سنة 800 هجريًا في بلاد أندلسية.

ثامنًا: أشار المسعودي في مروج الذهب في أحداث ووقائع سنة ( 339 ) هجريّة الموافق لسنة ( 956 ) ميلادية إلى كتاب له بعنوان “إكبار الزمان”( ) أشار فيه إلى رحلات مسلمي قرطبة عبر المحيط الأطلنطيّ الذي كان العرب يطلقون عليه بحر الظلمات.

 تاسعًا: هناك وثائق كثيرة جدًا في الولايات المتحدة منها عقود بيع وشراء ورهن وما إلى ذلك كتبها المسلمون الأفارقة الذين اختطفوا من بلدانهم قسرًا ليزرعوا في العالم الجديد فكانوا يكتبون صكوك ووثائق معاملات البيع والشراء لأسيادهم التي يحمل بعضها “بسملة أو حمدلة” أو كلمات تشير إلى أنَّ من كتبها ينتمي إلى الإسلام. كما أنَّ كولومبس حدثه بعض الهنود الأمريكيّين عن علاقات تجاريّة سابقة لبعضهم مع بعض البلدان الأفريقيّة.

 عاشرًا: ما أكده الدكتور مايك أستاذ التاريخ الأمريكيّ في جامعة سنكس في محاضرة ألقيت يوم ( 6/4/ 2002 ) في مؤتمر الجامعة الإسلامية في متشجن أنَّ أول كلمة سمعها كولومبس عند وصوله الأرض الأمريكيَّة كانت “السلام عليكم” وأنَّ الأستاذ المذكور لديه أدلة على ذلك.

  حادي عشر: هناك رحلات كثيرة حصلت لعبور المحيط أو بحر الظلمات بعد الفتح الإسلامي للأندلس ووصول طارق بن زياد للمضيق المعروف، وبعض هذه الرحلات انطلقت من مصر واستخدم فيها أطواف الخشب وقدرت مسافة الرحلة من خروجها من ثغر الإسكندريَّة حتى بلوغها الأرض الأمريكية بثلاثة شهور ونصف على وجه التقريب.

  المرحلة الثانية: من ( 1718 – 1862م) (1131-1279 ﻫ) وهي المرحلة التي عرفت بمرحلة تجارة العبيد حيث كان الأفارقة المسلمون يتصيُّدهم التجار البيض من بلدانهم بواسطة وكلاء وعصابات مستأجرة لهذا الغرض ويشحنونهم مستخدمين الحبال والنيران والتهديد والقتل إلى العالم الجديد. وقد نقل في هذه المرحلة إلى أمريكا ما لا يقل عن ثلاثة ملايين من الأفارقة معظمهم من المسلمين. ويمكن الرجوع إلى الكتاب المشهور “Roots([1]) “.

  المرحلة الثالثة: ( 1862 – 1945 م) (1279-1365ﻫ) وهي مرحلة هجرات جماعيّة للمسلمين من أنحاء مختلفة من الدولة العثمانيَّة وغرب أوروبا للبعد عن أماكن الاضطربات السياسيَّة والهزّات الاقتصاديّة التي حفلت بها المنطقة، وأنّ معظم هؤلاء المهاجرين كانوا من الطبقات المتوسطة وما دونها وكثير منهم كانوا من عمال بسطاء، من أولئك الذين يحلمون بالعودة إلى بلادهم بعد الاطمئنان إلى عودة الأمن والاستقرار إليها، وبعد حيازة العامل منهم على قدر وافر من المال.

  المرحلة الرابعة: من ( 1945م ) (1365ﻫ) وهي مرحلة ما تزال مفتوحة حتى الآن. والتي أعقبت الحرب العالميَّة الثانية وهي مرحلة اتسمت بنزوح كثير من أذكياء المسلمين إلى الغرب وخاصة أمريكا بحثًا عن ميادين العلم والتخصص وطلبًا للحريَّة ورغبة في الكسب الماديّ في بعض الأحيان وساعد على ذلك تلك الأوضاع المترديّة في بلاد المسلمين والتي لم تعن كثيرًا في المحافظة على أذكيائها وأبنائها والقادرين على العطاء العلميّ فيها.

وقد استقر آلاف ربما صاروا الآن ملايين من أبناء الأمَّة الإسلاميَّة في أوروبا وأمريكا الشماليَّة. فقد هاجر ما يزيد عن ثلاث وأربعين ألف مهندس وأحد عشر ألف طبيب إلى الولايات المتحدة ما بين (1949 – 1961م)([2]) (1369-1381ﻫ).  وهناك إحصائيّة أخرى تقول: إنَّه ما بين عام ( 1966م) حتى سنة ( 1977م) (1386-1398ﻫ) هاجر إلى أمريكا من الأطباء والمهندسين والكميائيّين حوالي مائة ألف وتسعة آلاف ومئتين وثلاثة وخمسين عالمًا من العلماء العرب فقط([3]). وهناك تقارير صحفية عن هجرة الأدمغة وتكاليفها للخزائن العربيَّة قدرت ما تخسره بعض البلدان من ثرواتها من هذه الهجرات بما يزيد عن اثني مليار دولار سنويّـًا، وأنّ تسعين ألفًا من حملة الشهادت العالية من العرب هاجروا إلى أمريكا وكندا سنة ( 1998م-1419ﻫ) وأن مئة وخمسين ألف هاجروا سنة ( 1999 م-1420ﻫ) وزاد هذا العدد في سنة (2000م-1421ﻫ) بما يزيد عن ألفين وعشرة أشخاص. وتعتبر أمريكا أول دولة وأكثر دول العالم استقطابا للعقول المسلمة المهاجرة ويذكر تقرير للأمم المتحدة للتنمية البشرية في الوطن العربيّ للعام ( 2002م-1423ﻫ) أنّ أكثر من مليون خبير قد هاجروا إلى الغرب، وبخاصة إلى أمريكا، وأنّ هذه الهجرة قد كلفت كلاًّ من الدول الإسلاميَّة التي ينتمي إليها هؤلاء المهاجرون ما يقدر ب “ثمانية عشر مليون” دولار في العام الواحد.

وهناك أعداد كثيرة من الطلاب تتخرج في أمريكا وغيرها وتبقى فيها، وهناك إحصائيّة للبعثات الدراسيّة التي مولتها بلدان عربيّة وإسلاميّة، واستقرت في أمريكا خاصة. فأمريكا هي إمبراطوريَّة العقول المستوردة. والذين درسوا فيه على حساب حكوماتهم وفي غيرها من البلدان الأوروبيَّة ولم يعودوا إلى بلدانهم الأصليَّة بلغت النسب التالية: تسعين بالمئة من اللبنانيين يقيمون حيث درسوا ولا يعودون إلى لبنان. واحد وثمانون واثنين من عشرة من العراقيّين يستقرون هناك ولا يرجعون. ثمانون بالمئة من الأردنيّين يقيمون في أماكن تخرُّجهم ولا يعودون إلى بلدانهم. ومن المصريين هناك سبعون في المئة من المبتعثين لا يعودون إلى بلادهم. ومن السعوديّين حوالي ثلاثة وثلاثين بالمئة يستمرون في الولايات المتحدة ولا يرجعون إلى بلادهم. وتعتبر بريطانيا ثم كندا الدولتان الأكثر استقطابا للعلماء المهاجرين بعد الولايات المتحدة. وخسارة الدول العربيَّة الماديَّة –وحدها- تزيد على مئتي مليار دولار بسبب تلك الهجرات.

  وهناك إحصائيَّة أخرى لافتة للنظر أنَّ الأطباء الإيرانيين في نيويورك وحدها يزيدون عن عدد مجموع الأطباء في إيران نفسها. هذه النوعية المتميزة في العلم والذكاء والقدرة لا تتحول في المجتمعات الغربيّة إلى قيادات؛ لأنَّها في الكثير الغالب تتألف من أصحاب تخصصات خدمات كالأطباء والمهندسين لا يكون لديهم تطلُّعات قياديَّة إلا في النادر. ولذلك لا تستطيع أن تجد سفراء في العالم الإسلاميّ من أبناء المسلمين على كثرة المؤهَّلين منهم وحاجة أمريكا الملحة لإعطاء صورة جيّدة عن نفسها في العالم الإسلاميّ إلا سفيرا واحدا في فيجي!! كما لا تجد وزيرا من بين هؤلاء لأيَّة وزارة. وللأسباب التي ذكرنا وغيرها وجدت نفسها تختار الولايات المتحدة بالذات للإقامة فيها.

وهذا الذي ذكرناه يدل دلالة واضحة على أمرين مهمّين: أنَّ الوجود الإسلاميَّ في الولايات المتحدة الأمريكيَّة وجود أصيل وقديم وله جذور عميقة في التاريخ الأمريكيَّ. كما يدلّ من ناحية أخرى على عفويّة هذا الوجود الإسلامي، فلم تكن وراء هذا الوجود أمة أو وكالة محترفة مثل “الوكالة اليهوديّة” التي قامت بتنظيم الهجرة لليهود إلى فلسطين، ولم تكن وراءه أكثرية خططت له وحددت أهدافًا مدروسة محدّدة لذلك الوجود، وقامت بالعناية به، وتركيزه ومتابعة مسيرته، وخطواته، هذه حقيقة لابد لنا من ملاحظتها.

أعداد كبيرة وتنظيم ضعيف

  وقد اختلفت الآراء في تقدير عدد المسلمين في الولايات المتحدة الآن، وكذلك في أوروبا؛ لأنَّ المسلمين بالرغم من أنَّ غالبيّتهم تعتبر من الطبقة المثقفة بالنسبة للمجتمع الأمريكيّ نفسه، ويمثّلون صفوة ونخبة فيه لكنَّهم على مستوى التنظيم لم يستطيعوا أن يصنعوا لأنفسهم مؤسّسات مدنيَّة تعنى بمتابعة شئونهم كما هو الحال بالنسبة ليهود الولايات المتحدة وللكاثوليك وبعض الكنائس الأخرى فيها.

فهناك إحصاءات كثيرة تشير إلى ثقل المسلمين الكبير في كثير من الولايات المتحدة وأوروبا وكندا ففي بعض الولايات الأمريكيَّة نجد نسبة عالية من الأطباء المسلمين تتجاوز ثلاثين بالمئة أحيانًا. وأذكر أنَّني عملت مع بعض الإخوة في المعهد العالمي للفكر الإسلامي على إحصاء أعداد المسلمين من العلماء والمتخصصين في الولايات المتحدة وبدأنا ذلك فأعددنا قائمة بلغت “تسعة آلاف أستاذ مسلم” في مختلف الجامعات الأمريكيّة، في مختلف التخصُّصات وتوقفنا عند ذلك الحد، ولم نتابع ولم نقم بتجديد القائمة.

إنّه بالرغم من المستوى العالي للتعليم والثقافة لدى المسلمين في الغرب فإنَّهم متخلّفون جدا من هذه الناحية؛ فلقد رأيت مساجد وجوامع كثيرة في مختلف أنحاء الولايات المتحدة يختص بها عرق واحد أو مذهب واحد أو إقليم واحد فجوامع اختص بها الإخوة الباكستانيّون فهم مؤسسوها وهم الإداريُّون فيها وإذا وجد سكان آخرون من عرب أو غيرهم فقد لا يجدون لأنفسهم مكانا بين هؤلاء الإخوة يجعلهم يشاركون بخبراتهم وقدراتهم في تحقيق رسالة المسجد؛ بحيث يسمح لهم أن يكونوا جزءً من إدارة المسجد أو مجلس إدارته. ووجدت مساجد خاصة بالعرب لا فرصة لغيرهم بالدخول إلى مجالس إدارتها ووجدت مساجد للأتراك ولأبناء جنوب شرق آسيا وغيرها.

ولقد حاولت جاهدا خاصَّة من خلال موقعي في المجلس الفقهيّ الأمريكيّ مقاومة هذه الظواهر السلبيَّة وتغييرها بقدر الإمكان؛ لكن ثقافة التخلُّف تعايش كثيرا من الإخوة والأخوات المهاجرين حالت دون ذلك. لقد كانت تلك الثقافة من أخطر العقبات وأشدها في وجه أيّ تغيير، ولا أرى أن المجتمع المسلم في الولايات المتحدة خاصة بل وفي الغرب –كلّه- سوف يأخذ مواقعه الملائمة إذا لم يتخلص من تلك الفيروسات الثقافيَّة المستصحبة، ويعود إلى مبدأ أمّة مسلمة واحدة ينضم إليها كل من يقول لا إله إلا الله *محمد رسول الله، ويتجاهلون تلك الخلفيَّات التي لم تأت لهم بأيّ خير في بلدانهم الأصليَّة من تفرق مذهبيّ وإثنيّ وعرقيّ وطرقيّ ولغويّ وما شاكل ذلك.

مشكلات الوجود العفوي

إنّ الوجود العفوي للمسلمين في الولايات المتحدة، لابد أن يعاني من مشكلات كثيرة لا يمكن إهمالها، إنّه يحتاج إلى عمل على الذات، ثم عمل متنوع على البيئة التي حلّت الأقلية فيها. وأستطيع القول إنّ هذا الوجود الإسلاميّ لم يحظ بشيءٍ من ذلك وهو أمر لابد منه ولابد من العناية به وإيجاد مؤسسة أو أكثر في كل بلد من بلدان أوروبا وأمريكا وأستراليا …الخ، تعني بهذين الأمرين.

فيجب على المنتمين إلى كل بلد غير مسلم ساد فيه وجود إسلامي أن يتعلّموا كيف يجعلونه موحدًا في كثير من الأساسّيات التي لا يُقبل الاختلاف فيها ولا حولها. والأمر الثاني لابُد لهذه المجتمعات أن تتعلم وتتدرب على أفضل أنواع التعامل مع جيرانها والبيئة التي تحيا فيها. وكلا الأمرين لا يمكن أن يأتيا بشكل عفويّ، بل لابد من وجود فهم مشترك بين قيادات كل مجتمع إسلاميّ من هذه المجتمعات سواء الفكريّة والتربوية، الاجتماعية، والسياسية إذا كان للأقلية نشاطٌ سياسيّ. كما لابد من إعادة النظر في الثقافات والمعارف الذهنيّة التي يحملها المنتمون لأيّ مجتمع مسلم يعيش بين أكثرية غير مسلمة، بحيث يصبح كل منتمٍ إلى ذلك المجتمع على وعي كامل بطبيعة البيئة وطبيعة وجود مجتمع من أقلية مسلمة فيه، وما يعزز هذا الجهود وما قد يضعفه في كل مجال.

ولابد من معرفة البيئة بكل تفاصيلها للوصول إلى معرفة من يمكن اتخاذهم أصدقاءً وأعوانًا يمكن تبادل المنافع والمصالح معهم، ومن يجب العمل على كسبهم أو تحييدهم في الحد الأدنى من مكونات مجتمع الأكثريّة. وكيف يمكن تحقيق نوع من التماهي مع تلك المكونات التي تشكل عناصر تلك البيئة. وهُنا ينبغي استبعاد اتخاذ أيّ عنصر من عناصر تلك البيئة عدوًا أو خصمًا.

والوجود الإسلامي في الغرب مستهدف الآن من أكثر من جهة ترى فيه خطرًا سواء في أوروبا أو أمريكا، والذاكرة التاريخيّة الغربية لا تحمل ذكريات جميلة عن العلاقات الإسلامية الغربية؛ ولذلك فإن المسلمين في حاجة إلى أن يبنوا وعيًا كبيرًا بين الأقليّات يساعدها على أن تحتفظ بهُويَّتها الإسلامية وألاّ تفرط فيها. وفي الوقت نفسه يحبّبها إلى بيئتها ويجعلها مقبولة ومحبوبة في تلك البيئات، بل نريد أن نقنع تلك البيئات بأنّ الوجود الإسلامي فيها هو لصالحها ويشّكل إضافة لها. وهذا يعني أن نبني فقهًا خاصًّا بهذه البيئات ونوجد لها ثقافتها الخاصّة، وأن نحدّد دور كلّ  فصيل من فصائل الأقليّات في تعزيز ذلك الوجود.

أفق لبناء الأمة من جديد

  لقد كانت أمريكا وما تزال وكذلك أوروبا فرصة متميزة لإعادة بناء مفهوم “الأمَّة” والتخلّص من سائر سلبيّات البيئات الإسلاميّة، فما من بيئة في عصرنا هذا يمكن أن تساعد تلك النخب التي استقرت في الغرب على إحياء مفهوم “الأمَّة” المسلمة وإعادة بناءه بناءً قرآنيّـًا سليما مثل تلك البيئات الحرة التي يمكن للمسلمين فيها أن يتخذوا من “تأليف القلوب” مدخلا يجمع بينهم دون أن يكلفهم إذابة خصائصهم وخواصهم.

  ومن وسائل بناء الأمة من جديد في أمريكا الشمالية، إتقان لغتين أساسيتين. اللغة العربية التي هي: لسان القرآن، وذلك من أجل دينهم وانتمائهم الدينيّ، والإنجليزيّة لنشاطهم الدنيويّ وللتفاهم مع جيرانهم.  كما يجب أن تكون للمسلمين مدارس لتخريج الأئمّة والمرشدين الدينيّين من أبناء المجتمع الأمريكيّ يتعلمون في هذه المدارس الإسلام بصيغته السليمة من مصدره المنشئ كتاب الله. ومن هدي رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- يتعلمون ذلك على أيدي علماء قادرين ممن يعيشون في الغرب على تعليمهم ذلك بعمق وفقه وفهم ربانيَّين بعيدًا عن الثقافة المذهبيّة والفرقيّة والطرقيّة التي حطمت مفهوم الأمَّة، وفرقت المسلمين في بلدانهم.

 ويفترض أن تختفي أيضًا الصراعات الحزبيَّة القائمة في بعض الأماكن في أمريكا وأوروبا بين حركات وفئات إسلاميّة من إخوان مسلمين وحزب تحرير وجماعة إسلاميّة وجماعة التبليغ والصوفيّة والسلفية وما إلى ذلك. فإذا كان هناك أيّ مبرّر أو مسوّغ لوجود مثل هذه الجماعات في المشرق، أو في العالم الإسلاميّ، فلابد من البحث عن صيغ تجمعات أخرى تناسب البيئة واحتياجات المجتمع. أمّا الصيغة الحاليّة فهي تساعد على تفريق كلمة الأمَّة وإضعاف تأثير الوجود الإسلاميّ في الغرب. فلابد للأقليات من أجندة إسلاميّة خاصة تربطهم ببيئتهم وجيرانهم ومجتمعهم وأن تكون أولوّيتهم لقضايا بلدانهم تلك التي هاجروا إليها، فيهتمون بمجتمعاتهم الجديدة وبجيرانهم ويكونون في مقدمة الصفوف عند معالجة المشكلات المشتركة بحيث يقتنع جيرانهم ومواطنوهم والحاكمون في تلك البلدان بأنَّ المسلمين يشكلون إضافة نوعيَّة وهم بفضل الله كذلك.

لقد جاء وجود اليهود متأخّرًا عن الوجود الإسلاميّ كثيرا ولكنّهم استطاعوا أن يقنعوا كل فرد في أمريكا بأنّهم شركاء مع الأمريكان في تأسيس أمريكا أديانًا وثقافة ووجودًا. وعملوا ما استطاعوا إلى أن أصبحت شراكتهم ومواطنتهم في تلك البلاد على ذلك الجانب الذي نراه اليوم من التلاحم والقوة مما لا يحتاج إلى شرح أو إيضاح والوسائل التي اتبعوها متاحة –والحق يقال للمسلمين ولغيرهم- ولكنَّ هناك من يعمل وهناك من يكسل.

([1]) محور الكتاب يدور حول أفريقيّ أمريكي يبحث عن جذوره ويحاول الوصول إلى هويته وهو:كونتا عمر كنتي .. الأفريقي الذي تحول لأسطورة.

في بداية ربيع 1750م ، وفي قرية “جوفور” على مسيرة أربعة أيام من ساحل جامبيا في غرب أفريقيا ولد طفل ذكر لـ”عمر” Omaro وهو كونتا كونتي.

 تلك كانت مقدمة رواية “الجذور” “Roots ” للكاتب الأمريكي إليكس هايلي (1921 – 1992م) الصادرة عن مكتبة مدبولي في 730 صفحة من الحجم المتوسط، والجذور هي ملحمة عائلة أمريكية غير عادية لرجل يبحث عن أصوله، يحكي فيها إليكس قصة حياة جده الأفريقي كونتا كنتي وكيف تم أسره بواسطة تجار العبيد وبيع في أمريكا ، صدرت هذه الرواية عام (1976م)، وترجمت إلى 37 لغة وبيع منها أكثر من 50 مليون نسخة وأصبحت أساسا لمسلسل تليفزيوني حمل نفس الاسم حقق نجاحا كبيرا.

كشفت الجذور عن الطريقة الهمجية التي مارستها أوروبا في اصطياد الأفارقة وبيعهم كعبيد في أوروبا وأمريكا للعمل بالسخرة في مزارع العبيد دون أن ينالوا أي حقوق آدمية. ولنقرأ سويا في أحداث الرواية:
فرح “عمر” بميلاد ابنه كثيرا، واختار له اسم “كونتا” وهو اسم جد الطفل “كيرابا كونتا كنتي” الذي جاء من موريتانيا إلى جامبيا حيث أنقذ أهل “جوفور” من المجاعة التي حطت بقريتهم نتيجة القحط والجفاف ، وكان كل شئ يموت ويفني، ووقع المزيد من الناس مرضي، وترك البعض الأخر القرية هربا حتى أرشد الله خطوات الولي الصالح “كايرابا كونتا كنتي” إلى القرية فإنقاذها من الجوع.

عاش كونتا مع أسرته حياة هادئة، وعندما بلغ كونتا السن التي تؤهله للعمل خرج لرعي بعض الماعز لوالده.
بعد الرعي كان يذهب لكتّاب القرية لحفظ القرآن الكريم وتعلم اللغة العربية.

كونتا في الأَسْر

 في يوم من الأيام صلى كونتا صلاة الفجر وأخذ نفسا عميقا وانطلق نحو المجرى المائي بسرعة ومعه كلبه “الوولو” من أجل البحث عن خشب في الغابة يصلح كاطار لطبلته.سمع كونتا رفرقة حادة لجناحين ، تبعها صياح ببغاء فوقه ، واستدار الصبي ليشهد عددا من البيض يحاولون اقتياده ، حاول المقاومة غرس اسنانه في لحمهم وأدخل أصابعه في عيونهم ، ولكن أحدهم هوى بفرع الشجرة على رأس كونتا، اخذ – رغم الدماء التي تسيل من رأسه المشقوق – يحاول الهرب ، ولكنهم أوسعوه بالضرب الوحشي وتمكنوا منه ، إنه يقاتل الآن من أجل أكثر من حياته من أجل عمر وأمه بينتا وأشقاه..اصطدم فرع الشجرة برأس كونت أصبح كل شئ اسود.

استيقظ كونتا ليجد نفسه نائما على ظهره بين رجلين آخرين في حفرة من الظلام ، كان كل جسده كتله من الألم والضرب الذي تلقاه لمدة أربعة أيام.

الوصول لأمريكا

وصلت السفينة لورد ليجونيار Lord Lingonier إلى ميناء أنابوليس في 29 سبتمبر 1767، سيطرت على كونتا فكرة الهرب لكنه تذكر صوت مدربه في معسكر الرجولة: الرجل الحكيم من يتعلم من الحيوانات التي تقع في الأسر فتبدو أنها استسلمت حتى توفر طاقتها وفي الوقت المناسب تلوذ بالفرار من صيادها. وبالفعل حاول كونتا الهرب أكثر من مرة آخر مرة قطعت مقدمة قدمه كعقاب له للهرب.
وتكشف رواية “الجذور” عن المعاناة التي قاساها الأفارقة في ظل العبودية ، يقول إليكس : “كانت كل القوانين في أمريكا تصب ضد مصلحة السود، فإذا ضبط أبيض زنجي يحاول الهرب يمكنه أن يقتله ولا عقاب عليه ، ولا يسمح القانون للزنوج بحمل السلاح أو حتى عصا، ويقول القانون عشرين جلدة إذا تم إمساك أسود دون تصريح سفر، وعشر جلدات إذا نظر إلى البيض في عيونهم، وثلاثين إذا رفع يده ضد مسيحي، ولا جنازة لزنجي حتى لا تنقلب لاجتماع، ويقول القانون تقطع أذن الزنجي إذا اقسم الناس البيض انك تكذب والأذنان إذا ادعوا أنك تكذب مرتين، والقانون يقول إذا قتلت ابيضا تشنق وإذا قتلت زنجيا أخر تجلد” وهكذا تستمر علميات القهر والاستعباد إلى أن يحين وقت الحرية.

وأخيرا الحرية

في 1861 اندلعت الحرب الأمريكية بين الولايات الشمالية والولايات الجنوبية التي تمسكت بالحق في استعباد الأفارقة، أسست هذه الولايات ما سمي الولايات الكونفدرالية الأمريكية وأعلنت انفصالها عن باقي الولايات الشمالية . وفي 1862 أصدر لنكولن إعلان تحرير العبيد جاعلاً من تحرير العبيد في الجنوب هدفاً للحرب، وسرى الخبر كالوميض بين ملايين الزنوج في الجنوب. وأخيرا في ابريل 1865 استسلم الجنوب وخرج الزنوج يقفزون هنا وهناك ويرقصون ويصيحون ويغنون صلاة الشكر لله. وهكذا انتصر كونتا أخيرا على جلاديه.

([2])  راجع كتاب الجنسيَّة في الشريعة الإسلامية رحيل محمد الرحيل صفحة ( 15) رسالة ماجستير نوقشت في كلية الشريعة في الجامعة الأردنية.

([3])  المصدر نفسه، انظر كتاب إيران من الداخل تأليف فهمي هويدي، وكتاب المشهد الثقافي في إيران مخاوف وآمال تأليف محمد خاتمي، وإيران في السياسة الدولية تأليف أرشين أريب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *