أ.د. طه العلواني
الصوت الانتخابيّ، خاصَّة لمنصب رئاسة الدولة يقابل ما كان معروفًا في تاريخنا بالبيعة. فهو صيغة معاصرة للبيعة، التي هي: عقد بين من يُكَلَّف أو يتصدى لإدارة شؤون الدولة ومن ينتمون إليها على السمع والطاعة من صاحب الصوت المبايع لمن أعطاه صوته، وعهد من ذلك الذي يبايعه الناس يتعهد به أمام الشعب على حماية الدولة، والمحافظة على نفوس أبنائها، ودمائهم، وأموالهم، وكرامتهم، وأعراضهم، وأديانهم، وحريَّاتهم، وحقوقهم كلّها، وأن يحكم بين الناس بالعدل، وأن يؤدي الأمانات إلى أهلها، ويسوي بين الناس، ويكون واحدًا من الناس لا يستغني عنهم، ولا يبغي عليهم، ولا يرى نفسه مسلطًا عليهم، ولا جبارًا، ولا طاغيًا، ولا دكتاتورًا، يرتبط بهم ولا يستغني عنهم، يشركهم ولا يستهين بإرادتهم، يتواضع لهم، ويلين إليهم، ويخفض جناحه لهم، وينتصر لقضاياهم، ولا يبغي عليهم، ولا يخذلهم، يقضي حوائجهم، ويصون ديارهم، ويحفظ لهم قيمهم ومقدراتهم.
فإذا أحسن المبايِع وصاحب الصوت الاختيار، واستقام من بايعه الناس، وفرض على نفسه إقامة الحق والعدل فيهم؛ كان الله معهم جميعًا، وجعل يده فوق أيديهم، ورضي عنهم، وتكفل بإعانتهم على تحقيق الأهداف النبيلة التي تبايعا عليها، وتعاهدا على إنفاذها، وتحقيقها، وكللهم برضاه: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ (الفتح:18)، فالذين يبايعون على ذلك، ويعتبرون هذا الانتخاب أو التصويت أمانة يؤدونها إلى أهلها، وينظرون إلى مسئوليَّتهم أمام الله عنها؛ يبارك الله لهم في بيعتهم، وينزل رضوانه على من انتخبوهم وعلى الناخبين، ويبارك لهم في أوطانهم وأرزاقهم، وتعاونهم، ويربط على قلوبهم جميعًا، ويخفف عنهم ويعينهم جميعًا على تحقيق ما التزموا به: ﴿… فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ (الفتح:10).
إنَّ التصويت أيها الناس لفلان أو فلان، والبيعة لأي مرشح مسؤوليَّة كبرى، لا يستهين إنسان مؤمن يحترم إنسانيَّته بها. إنَّ الله –تعالى- سيوقفنا يوم القيامة ناخبين ومنتخبين ويقول: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ﴾ (الصافات:24)، فيسأل كل من أدلى بصوته كيف ولمن أدلى بصوته؟ ويسأل الذين انتخبوا ماذا فعلوا بثقة الناس وعهودهم؟ ويسألهم عن دماء الشهداء، وعن مظالم السجناء، والفرص التي ضاعت على الأمَّة وعلى البلاد والعباد. فذلك يوم يقتص الله فيه للجماء من القرناء، لا يفلت فيه أحد من المسئوليَّة، ولا تُزَور فيه إيرادات، ولا تتلف فيه مستندات أو وثائق أو مستمسكات، ذلك يوم لا تخفى فيه منكم خافية.