أ.د.طه العلواني
صناعة الرأي العام في عصرنا هذا صناعة معقدة، قد تشارك فيها كل أجهزة الدولة ومرافقها، وأحيانًا تُخصص بعض الدول مؤسّسات تعرف كيف تضم المؤسّسات الأخرى ذات الصلة بصناعة الرأي العام بعضها إلى بعضها الآخر؛ لتقوم بمهامها تلك. والقرآن المجيد قد نبهنا إلى ذلك وحذرنا من أن ننساق وراء الشائعات والأكاذيب، وبيَّن لنا أنَّ المجتمعات قد لا تخلو من أناس يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، ويحبون قالة السوء، وانتشارها، ويعملون على إشاعتها، ويحوِّلونها إلى أصناف متعددة تستعمل في مستويات مختلفة. إذا لم يؤثر أحدها فلعل الآخر يؤثر، وسمى أولئك الذين يتناقلون هذا النوع من الشائعات والأخبار فسَّاقًا، لا ينبغي ترديد شائعاتهم، ولا تناقلها، ولا الاستماع إليها، فقال تعالى : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ (الحجرات:6)، وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ (النور:19). وقال رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلّم: ” كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع”[1]، وقد كان حد القذف حدًّا مشددًا، اشتمل على عقوبات ثلاثة، فالذين يرمون المحصنات من المؤمنات وكذلك المحصنين من المؤمنين يعاقبون بمثل ما فعلوا من التشهير، بعقوبة تؤدي إلى التشهير لهم ألا وهي الجلد، والحرمان من الحقوق المدنيَّة فلا تُقبل لهم شهادة أبدًا، ويُعَدُّون في الفاسقين فلا تقبل أخبارهم ولا يجوز تناقلها، وأخطر المشكلات التي نعاني منها اليوم مشكلة الشائعات، فلم يكتفِ المروجون للشائعات والمستفيدون بها بتلك الأجهزة الضخمة من فضائيَّات وإذاعات وصحافة وما إليها، بل أضافوا إلى ذلك ما يسمى ب”الإعلام الهامس” ألا وهو أن يَهْمِس في أذنك أحد بشيء وكأنَّه سر من الأسرار الخطيرة التي اكتشفها؛ ليحملك إلى أن تحملها إلى سواك، فلا تكاد تمضي عليها ساعة أو اثنتان حتى تصبح متداولة في طول البلاد وعرضها، قد تتناول أعراض الناس، وذممهم، وأخلاقهم، وسلوكيَّاتهم، في إطار ذلك الذي يسمونه بالتنافس السياسيّ أو غير السياسيّ.
ونحن أمَّة لديها نظام أخلاقيّ تحرص على التحلي به، فالكذب عندنا حرام وقد يخرج من الإيمان -والعياذ بالله: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ (النحل:105)، والنفاق عندنا ضلال وسفه وخروج عن متطلبات الإيمان: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا﴾ (النساء:145)، والرِشوة لأخذ الإنسان ما لا يستحق ملعونة. ملعون فيها الراشي والمرتشي والرائش بينهما حيث قال تعالى: ﴿وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة:188)، وقال رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلَّم: “لعن الله الراشي والمرتشي والرائش بينهما”، وهكذا. ولقد شاعت في مجتمعاتنا مقولات مريضة مرفوضة ما كان ينبغي لها أن تشيع لو تمسك الناس بهدي الكتاب الكريم، منها: قول بعضٍ: “ناقل الكفر ليس بكافر”، ونحن نقول: ناقل الكفر إذا رضي به، وقصد إلى ترويجه فذلك ينسبه إلى الكفر، وناقل الكذب كاذب كذلك، فالمؤمنون من شأنهم أن يستمعوا القول، فيتبعون أحسنه، ولا يتناقلون في مجتمعهم إلا الكلمات الطيبة والآراء السليمة، لا ينشرون قالة السوء، ولا يدعون إليها مهما كانت الأسباب، لكنَّ الحضارة الغربيَّة الحديثة أباحت لنفسها في إطار صناعة الرأي العام، وتحويل اتجاهات الرأي العام، والتحكم فيها، سمحت لنفسها أن تجعل من ذلك علومًا وفنونًا قد يستعيرها الآخرون؛ ولذلك وجدنا أنفسنا فجأة أمام أدوات لا يقرها دين، ولا يقبلها خلق من أخلاقنا، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.
ولو أنَّ الناس نظروا قليلًا إلى الوراء لوجدوا أنَّنا قد قلَّدنا هؤلاء، وصارت لدينا وحدات تبث في أجهزة كثيرة من أجهزة الدولة للتأثير على الرأي العام، واتجاهاته، وإعادة تصنيعه، ومن أهم أسلحتها الشائعات، توظفها وتفبركها وتؤلفها وتنشرها بين الناس في المناسبات التي تريد فيها توجيه الرأي العام باتجاه معين، ولقد رأينا في أماكن كثيرة كيف يتغيَّر الرأي العام أحيانًا في وقت قصير من اتجاه إلى آخر، فالشريعة التي كانت مطلبًا قبل شهور صارت الآن بعبعًا مخيفًا للكثيرين، ومنهم بعض الطيبين الذين يحبون الإسلام ويتعاطفون مع القضايا الإسلاميَّة، لكنَّ تلك الأجهزة العملاقة ومنها أجهزة الشائعات و “الإعلام الهامس” قد تمكَّنت من إيجاد كميَّة من الخوف لو وزنت بمياه النيل لوزنتها، جعلت الناس بمن فيهم بعض المتدينين يخافون الشريعة ويخشونها على أنفسهم، وأموالهم، وأعراضهم، وحقوقهم، ومستقبلهم، وأبنائهم، إلى غير ذلك، وما لم نلتزم بما أمرنا الله بالالتزم به من التثبُّت، وعدم تناقل الشائعات، وعدم قبول شيء بدون برهان أو دليل، ورفض الدعاوى المرسلة؛ وإلا فإنَّنا سنكون كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، تزرنا الرياح، ونجتث من فوق الأرض ما لنا من قرار، شائعة تأخذنا هنا وأخرى تأخذنا هناك، فعلينا أن نتقي الله في أنفسنا، وفي شعوبنا، وبلادنا، ومصائرنا، ولندرك أنَّ الناس ينظرون الآن إلينا، يرصدون ما نفعل؛ لأنَّنا في موضع القدوة بحكم موقع بلادنا، وشعبنا، وما وضعنا الله فيه.
[1] رواه مسلم في المقدمة مسنداً ومرسلاً وأبو داود 5/265-266 وابن حبان 1/118 مسنداً ، وقد رجح الدارقطني إرساله .
ممتاز