Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

القرآن المجيد والأمّة اليهودية

أ.د.طه جابر العلواني

من حق القارئ أن يعتبر هذه الدراسة دينيَّة المنطلق والغاية، ومن حق القارئ أن يعتبر هذه الدراسة دراسة لظاهرة سياسيَّة. وله أن يرى فيها أنّها محاولة لأسلمة قضايا قوميَّة أو تديين لقضايا سياسيَّة فقد توحي هذه الدراسة عند أيَّة نظرة جانبيَّة بشيء من ذلك؛ لكنَّها –في الحقيقة- تتجاوز ذلك –كلّه- في محاولة لإلقاء نور قرآنيّ على أحداث يتوهم الأكثرون أنَّها لا علاقة للقرآن المجيد بها، وأنّهم إذا أرادوا فهمها فعليهم أن يدرسوا ويحلّلوا الجوانب الأقتصاديَّة والاجتماعيَّة والسياسيَّة والعلاقات الدوليَّة، وطرق بروز القوى ونراجعها وما إلى ذلك. أمّا القرآن المجيد فلا يمكن أن يكون مصدرًا لتفسير هذه الظواهر وتحليلها، وإعطاء وجهة نظر فيها، وذلك لأنّه كتاب دينيّ. وهم يفهمون “الدينيّ” بمعنى “اللاهوتيّ” الذي يتعلق باللاّهوت والغيب والدار الآخرة. أمّا نظم الحياة الدنيا على اختلافها فمرجعها العبارة التي صارت شعارًا : “أنتم أعلم بشئون دنياكم” فخبرات الناس وتجاربهم ومعارفهم الإنسانيَّة والاجتماعيَّة تجعلهم أقدر من الدين، ومصدر الدين على فهمها و تحليلها ودراستها بزعمهم. فالرجوع إلى “القرآن المجيد” وهو –في نظر هؤلاء- كتاب دينيٌّ “أي: لاهوتيّ” لا تدخل هذه الأمور في دوائر اهتماماته، وقد استقر هذا الرأي الفطير وتحول إلى مسلّمة من المسلَّمات للأسف الشديد دون أن ينال ما يستحقه من النقد والتحليل.

      وقد أدّى ذلك إلى نسيان أو تناسي كون هذه الأمَّة المسلمة بكل شعوبها لم تصبح “أمَّة” إلاّ بهذا الكتاب، فهي الأمَّة الوحيدة –على وجه الأرض- التي صدق ويصدق عليها أنّها “أمَّة صنعها كتاب” وصارت خصائص “ذلك الكتاب” جزءًا لا يتجزأ من نسيج هذه الأمَّة العقليّ والنفسيّ والوجدانيّ، ثم الثقافيّ. وقد شمل ذلك سائر الذين عايشوها واستظلوا بظلالها الوارفة بمن فيهم أولئك الذين أبوا الإيمان بهذا الكتاب. ومصدر التكوين التاريخيّ لأمّة من الأمم لا يمكن أن يعزل أو يتجاوز أو يحيَّد أو يتجاهل عند النظر في أيّ شأن من شئونها. فلابد من استحضار ذلك المصدر عند ملاحظة صعودها وهبوطها؛ ولابد من استحضاره عند تحليل أوضاعها، ومحاولات إنهاضها إذا ما تراجعت، وعند دراسة وتحليل أسباب تراجعها، وفهم أسباب وحدتها، وتفّرق كلمتها، وعوامل تقدّمها وتخلّفها فمصدر النشأة والتكوين بمثابة دم يجري في عروقها، أو عروق وشرايين تحمل ذلك الدم لتنقله إلى خلايا الجسم –كلّها- فأيَّة صفة تتّصف بها فهي انعكاس أو تعبير عن طبيعة علاقتها “بذلك الكتاب مصدر النشأة والتكوين”.

      والباحث المستقيم الجاد يرى التلازم –الذي لا يمكن تجاهله بين “مصدر التكوين والنشأة وبين الأمَّة ذاتها”. فحين تتصف “الأمّة” مثلاً “بالخيريَّة” والوسطيّة والشهادة” فذلك يعني أن علاقتها “بمصدر تكوينها ونشأتها” في غاية القوة والمتانة. وحين تجتمع قلوبها، وتتَّحد كلمتها فذلك يعني أنّها متمسِّكة بمصدر نشأتها وتكوينها. وحين تختلف قلوبها وتنقسم على ذاتها فذلك يعني أنّها قد طال عليها الأمد، ونسيت حظًّا من مصدر نشأتها وتكوينها فقست قلوبها فتناثرت، وضعف اعتصامها بحبل الله – مصدر تكوينها فانفرط عقدها، وتفرّقت كلمتها، وشلّت فاعليَّتها، وتفككت روابطها وعلاقاتها.

       و”الأمَّة المسلمة” بشعوبها “الأمّيَّة” –كلّها- “العربية والفارسيَّة والكرديَّة والتركيَّة والهنديَّة والبربريَّة والأقليّات الأخرى ومن يلحق بهم” أمّة صنعها الله –تعالى- على عينه بذلك الكتاب- القرآن، فيه صارت وبآياته تكونت. به صارت خير أمَّة، وبتناسيه أو تجاهله تصبح شر أمَّة. به كانت “الأمَّة الوسط” وبتناسيه أو بتجاهله تكون الأمّة الأذل. به اتحدت وبنسيانه أوتناسيه تشرذمت. وهذا الذي نقرّره –هنا- ليس دعوى ندعيها، ولا موعظة نريد وعظ الناس بها، بل هي حقيقة وقانون وناموس كونيّ إلهيّ ثابت لا تجد له تبديلاً ولا تحويلاً.

        إنّ هناك أمماً بنيت “باقتصاد” أو “بدوافع عرقيَّة أو إقليميَّة” أو بأي شيء آخر ممّا قد تتمخّض عقول البشر عنه فإذا تغيرت أوضاعها الأقتصاديّة تراجعت وانهارت. والأمم التي يحملّها الله أمانات، ويكلّفها بمسؤليّات، ويصطفيها لمهام، ويورثها كتابه، ويبعث فيها خاتم رسله وأنبيائه يكون حجر الزاوية في بنائها “ذلك الكتاب” و”منهج ذلك الرسول المصطفى” لهذه “الأمَّة المصطفاة لتلك المهام” فإن أحسنت الوراثة والتحمّل رسخ بناؤها، ونما عطاؤها، وزكت صفاتها، وحقّقت أهدافها.

     وإن كانت الأخرى، وحملت كتابها بطريقة حماريَّة، لا بطريقة إنسانيَّة تراجعت عن دورها، وانفرط عقدها، وانتكست راياتها. ولن تعود سيرتها الأولى إلاّ إذا استردت وعيها بذاتها وبمصدر تكوينها ودورها، واستقامت على الطريقة من جديد.

الأمّة اليهودية

       وهناك أمَّة في التاريخ الإنسانيّ يتضح في تاريخها أثر هذا الناموس الإلهيّ والقانون الربانيّ! “بنو إسرائيل – الأمَّة اليهوديَّة”. و”الأمَّة اليهوديَّة” تكونت في نشأتها الأولى “بالتوراة” حملها نبيّ الله موسى –عليه السلام- الذي اصطفاه الله برسالاته وبكلامه، وجعل منه نبيّاً ورسولاً لهم، وقائداً قوميّاً عمل على تحريرهم، وإخراجهم من “دار الفاسقين” دار فرعون وملأه، وحرّرهم من عبوديّته، وأنقذهم من استعلائه، وأبدلهم بتلك الدار أرضًا مقدسة، وبعبوديَّة فرعون أنه سبحانه اتخذهم عبادًا له. وأنزل إليهم التوراة فيها هدى ونور، وجعل منهم أئمّة يهدون بأمره وآمنهم من خوف، وأطعمهم من جوع، واصطفاهم على العالمين. وأهلك أعداءهم، وأسبغ عليهم من نعمه ما لم يكن أحد منهم يتوقّعه أو يرجوه. فلم تطل فترة استقامتهم واهتدائهم: فتنكروا لله –تعالى- وتجاهلوا نعمه “… فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ قَالَ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ” (سورة الأعراف: 138-140).

       ثم اتخذوا العجل إلهاً، وجاهروا بالعصيان والتمرّد، واعتدوا في السبت وطلبوا من موسى أن يريهم الله جهرة ليصدقوه، ويؤمنوا بما جاءهم به. والذي يرغب أن يعرف مواقفهم المتمردة يستطيع أن يتلو الآيات الكريمة من سورة البقرة (الآية 40-150) وكذلك آيات أخرى مفرقة في سياقات أخرى لتستدعي قوى الاعتبار في الإنسان.

      وفي “سورة آل عمران” معالجة مواقفهم من النبيّ المصدّق المجدّد سيدنا عيسى بن مريم –عليهما السلام- وفي كلا السورتين ترد مجموعة من السنن الاجتماعيَّة والقوانين الإلهيَّة التي تحكم اتجاهات التاريخ وحركته.

      وتبرز بعض آيات سورة “آل عمران” بعض مواقف المنافقين في سياق بيان القوانين والقواعد التي يمكن استخلاصها من “غزوة أُحد” وما جرى فيها. فإنّ أحداث هذه الواقعة الهامَّة قد محّصت الناس تمحيصًا كما محص الذين كانوا قد آمنوا بعيسى –عليه السلام- والتفوا حوله حين قال عيسى: “فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ” (آل عمران: 52). وكانت السورة كثيرة الالتفاتات والوقفات مع المؤمنين برسول الله وخاتم النبييّن دون إهمال للتنبيهات اللازمة والتحذيرات الضروريَّة من الوقوع في الأخطاء التي وقع بها من قبلهم فهم “أمّة الأمم”.

       وكانت بعض آيات السورة فاصلة بشكل لا يحتمل تأويلاً بين أمم أكثرت من الادّعاءات، ونسبت لنفسها ما لا تستحق، فحدّدت العلاقة بدقة بين التوراة والإنجيل والفرقان فكلّها هدى للناس، وفي كلّها نور، وكلها يجب الإيمان به، ولكنّ القرآن هو “المصدّق عليها والمهيمن عليها، والحافظ لها”. كما إنّ التنازع على الانتساب إلى إبراهيم –عليه السلام- قد تم حسمه: “مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ  إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ” (آل عمران: 67-68).

     فإذا قطع ما بين إبراهيم وبينهم في سورة البقرة بالصفة: “قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ” (البقرة: 124) فكأنّ أصناف البشر الثلاثة الذين ذكروا إجمالاً في سورة الفاتحة “… أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ” ثم ذكروا بكثير من تفاصيل أوصافهم في بدايات سورة البقرة وقد اكتمل بيان المراد بكل منهم تفصيلاً في السور الثلاث: الفاتحة والبقرة وآل عمران، فيصبح القارئ للقرآن قادرًا أن يضع أيّ فريق أو صنف من الناس. يأتي القرآن على ذكره فيما بقي من سوره تحت العنوان الذي يناسبه ويندرج تحته سواء أكان من الذين أنعم الله عليهم، أو الذين غضب الله عليهم أو الضالِّين. وباتضاح صفاتهم وسلوكيّاتهم وقواعد معتقداتهم ورؤاهم تدرك مواقفهم من كل شيء إداركًا سليمًا دقيقًا، ويصبح في مقدور “أمَّة الشهادة” أن تعرف كل فريق من هؤلاء لا بسيماهم، ولا بلحن أقوالهم، والتواء تصرّفاتهم بل بأمور كثيرة أخرى فتكون على معرفة ودراية تامَّة بهم. –وآنذاك يكون في مقدورها التنبؤ بتصرّفاتهم، وتوّقع ما قد يفعلون إذا لم يُتصدّ لهم في الوقت المناسب، وتتخذ الاحتياطات المطلوبة لحماية الأرض ومن عليها من شرورهم وآثامهم. ويكون في وسع “الأمَّة الشاهدة” أداء مهامها الاستخلافيَّة على النحو المطلوب، فتحمي المستضعفين، وتحافظ على الموارد التي أنعم الله على البشريّة بها، وتعلي كلمة الحق، وترسي دعائم القيم، وتقود قافلة التسبيح الكونيّ، وتحقق غاية الحق من الخلق في الأرض.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *