د. طه العلواني
حين قمنا وبعض أصدقائنا بتأسيس ” المعهد العالمي للفكر الإسلامي ” وقررنا التفرغ للعمل فيه كانت هناك ” لجنة فقهية ” أسسها ” اتحاد الطلبة المساعدين ” هناك. ثم صارت اللجنة نفسها ” لجنة الفقه ” في ” الاتحاد الإسلامي لأمريكا الشمالية ” ” إسنا “. فكانت هذه اللجنة التي تتألف من خمسة أو أكثر من المتخصصين في الدراسات الإسلامية تعمل على الإجابة عما يصل الأمانة العامة للاتحاد. يلجأ المستفتون إليها بإرسال رسائل تشتمل على المسائل التي يستفتون فيها، أو يتصلون تلفونيًّا ببعض أعضاء ” اللجنة الفقهية ” ليحصلوا على الجواب. أما المساجد والمراكز التي كان فيها أئمة لديهم معرفة ” بالفقه ” فإن روادها يغلب أن يلجأوا إلى أولئك الأئمة للحصول على إجابات عن استفتاءاتهم.
وحين تعددت المؤتمرات واللقاءات التي نشطت بعد سبعينيات القرن الماضي في أمريكا صارت تلك المؤتمرات كثيرًا ما توجه الدعوة إلى جامعات ومؤسسات إسلامية في العالم الإسلامي؛ لترسل مندوبين يغلب أن يكونوا من الدعاة أو المتخصصين في الدراسات الإسلامية. فبدأت ظاهرة تقديم ندوات فقهية يجلس فيها فقهاء من أعضاء اللجنة الفقهية أو من الضيوف ليجيبوا على الاستفتاءات الفقهية للحضور والمشاركين في تلك الملتقيات.
وكانت جل الأسئلة التي تدور في تلك الحلقات تدور حول ” الهلال والحلال “. والهلال هو “إشكالية بدء الشهور القمرية” لتحديد بدء الصيام والفطر وتحديد عيد الأضحى. وأمّا “الحلال” : فهو السؤال العتيد الذي لم يخل منه مجلس من تلك المجالس لبيان جواز أو عدم جواز الأكل من ذبائح أهل الكتاب. وهناك أسئلة أخرى مثل ” العمل في المحلات التي تباع فيها المحرمات ” مثل ” 7 – 11 ” ونحوها، والاقتراض من البنوك لشراء بيوت السكنى، وسيارات الاستعمال الخاص، وأداء صلوات الجمع والعيدين في الكنائس إذا لم تكن هناك مساجد أو مراكز إسلامية، ودفن المسلم في مقابر النصارى إذ لم يكن بالإمكان إيجاد مدافن خاصة بالمسلمين، وجمع بعض الصلوات لمن لا يستطيع أن يؤدي الصلوات خاصة الظهر والعصر في أوقاتهما لظروف العمل والانتقال. وربما يثير بعض الداخلين حديثا في الإسلام أسئلة حول علاقاتهم بذنوبهم وأسرهم، وهل يرثونهم أو يورثونهم ؟
وقد أحصيت ثلاثين سؤالا كانت مدار استفتاءات المجتمع المسلم في أمريكا. وقد حملني اجتهادي على إرسال تلك الأسئلة إلى لجان الفتوى في العالم الإسلامي، وكبار المراجع من المذاهب الإسلامية المختلفة. وأرسلت بنسخة منها إلى ” مجمع الفقه الإسلامي الدولي ” التابع ” لمنظمة المؤتمر الإسلامي ” في جدة، والذي أتشرف بعضويته. فأجاب المجمع عن بعض تلك الأسئلة، وأجل بعضها الآخر من دورة إلى أخرى إلى أن أصدر قراراته بالإجابة عنها بعد ثلاث سنوات من عرضها عليه، كما تلقيت ردودًا من بعض مجالس ومراجع الفتوى عن بعض تلك الأسئلة منهم ” الإمام الخوئي، والمنتظري، ومفتي جمهورية مصر ” وغيرهم.
رئاستي للمجلس الفقهي
في عام 1988م كلفت بتسليم مهام ” الفتوى وتطوير اللجنة الفقهية “، فبادرت لتأسيس “مجلس فقهي مستقل” يستطيع العمل على خدمة المجتمع المسلم في أمريكا وكندا، وبدأت الاتصال بأفضل من أعرف من المتصدين للفتوى والعمل الفقهي في أمريكا وكندا، ودعوت الجميع للقاء موسع في “فرجينيا”، وبدأنا بإعداد اللوائح والنظم المطلوبة لتشكيل مجلس يكون مرجعية ” للمجتمع المسلم ” في أمريكا الشمالية وكندا، وبلغ عدد المرشحين لعضوية المجلس للمرة الأولى خمسة وعشرين مرشحا مثلوا مختلف المذاهب الإسلامية التي لها وجود دائم في البلاد، ولأول مرة يضم المجلس علماء وفقهاء من السنة والشيعة يعملون جنبا إلى جنب. ولأول مرة كذلك ضم المجمع بعض السيدات المشهود لهن بالفقه والمعرفة بالدراسات الفقهية أصولا وفروعا.
فتوى الصيعان وفتاوى أخرى
وقبل أن ينطلق المجلس باتجاه أهدافه برزت مجموعة من السلبيات، حيث بدأت بعض التيارات الراغبة في الامتداد والانتشار ووضع اليد على كل ما ينسب إلى الإسلام أو ينتسب إليه بالنشاط بعد غفلة أو سبات. وإذا بها تتصدى لمناقشة بعض فتاوى المجلس والرد عليها، واتهام المجلس بالتساهل، وربما العمل على فصل المجتمعات الإسلامية في الغرب عن عمقها الإسلامي. ومن الفتاوى التي اعتبرت من فتاوى التساهل : ما سميته ” بفتوى الصيعان “.
وذلك عندما أصدرنا فتوى تبنينا بها مذهب الإمام أبي حنيفة ” ت 150 هـ ” – يرحمه الله تعالى – وغيره من العلماء في جواز دفع زكاة الفطر نقدا، بدلا من ” غالب قوت البلد ” وإذا بملحق في إحدى السفارات الإسلامية بواشنطن يعلن حرمة دفع ” زكاة الفطر ” نقدا، ووجوب دفعها من القمح أو الأرز أو الزبيب أو التمر، وعلى أن تكال كيلا بالصاع، وزاد على ذلك بأن استورد ” بعض الصيعان ” وقام بتوزيعها على بعض مساجد المنطقة، ليجلس بعض الشباب وبين أيديهم أكياس من الحنطة والأرز يكيلونها بصاع أحيط بمجموعة من الأسلاك لتحفظ خشبه المتهالك، وقيل للناس : هذه هي السنة، ولم يقبل الفقراء على أخذ شيء من تلك الصيعان، والذين أخذوا شيئا منها ألقوا به في أقرب حديقة، طعاما للطيور.
ونشر هؤلاء فتاوى أخرى، منها ” تحريم التجنيس بالجنسية الأمريكية أو الغربية ” بصفة عامة بناءً على فتوى لأحد رجال الفتوى في الشرق بعد أن وضعوا الاستفتاء له بصيغة أشعرت المفتي الفاضل بأن حمل جنسيات هذه البلدان يفقد المسلم المتجنس الالتزام ” بعقيدة الولاء والبراء ” ولما كثرت الطلبات على السفارة التي كان هؤلاء يعملون فيها بأن آلاف من المسلمين الذين يحملون هذه الجنسيات لا مانع لديهم من التخلي عن جنسياتهم تلك، إذا منحوا جنسيات بديلة من ذلك البلد أو أي بلد إسلامي، يعطي هؤلاء المواطنين فرصا للكسب والعيش ؛ مثل الفرص التي لديهم في أمريكا وكندا واستراليا وأوروبا. فإذا بتلك الإدارة تسحب الفتوى المذكورة.
ثم تتابعت الفتاوى المتشددة، منها فتوى ” تحريم أكل التركي، أو ما يعرف بعلي شيش أو “الفسيفسي” “شيش طاووك” في عيد الشكر.
إنّ الإفتاء في أمريكا، يحتاج لبناء فقه جديد ووعي جديد. وعي جديد لدى المسلمين في المهجر بضرورة تجاوز استفتاءات الهلال والحلال إلى استفتاءات الهوية والوجود، وفقه جديد خاص لمسلمي المهجر يؤسس لبقائهم ووجودهم ويحافظ على هويتهم.