د.طه جابر العلواني
أمم مصطفاة
هناك أمم اصطفاها الله وشاء لها أن تُبنى بكتاب من كتبه، وأن يقود رسله وأنبياؤه عمليَّة بنائها حتى تكتمل، وتقف -بعدها- نموذجًا ومثالاً بين الناس. هذا النوع من الأمم يقوى ويضعف ويتقدّم ويتخلّف وينطلق ويتراجع حسب معالم علاقتها بهذا الكتاب الذي بُنيت به، وعلى قدر تمسّكها بهدي أنبيائها ورسلها.
ينطبق هذا الأمر بوضوح في عصرنا هذا على أمَّتين قائمتين موجودتين، بينهما من الصراع ما لا يخفى؛ هما «الأمَّة اليهوديَّة» و«الأمَّة المسلمة» فـ«ـالأمَّة اليهوديَّة» بُنيت وأُسّست على أيدي موسى وهارون وداوود وسليمان وغيرهم من أنبياء الله عليهم السلام، وبُنيت بكتاب الله «التوراة»، التي أُنزلت على سيدنا موسى، وبـ«ـالتوراة» اصطفاه الله -جلّ شأنه- وبكلماته الأخرى. وأمّا «الأمَّة المسلمة» فقد تم تأسيسها على يدي إبراهيم، وتم تجديدها وإعادة بنائها باعتبارها أمَّة الأنبياء كافَّة على يدي خاتم النبيّين والمرسلين محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم. هاتان الأمتان –اليهوديّة والمسلمة- حينما تتراجع أي منهما فإنَّها لن تستطيعا أبدًا إعادة بناء ذاتها وتجديد شخصيَّتها إلا بالكتاب المنزّل. وحين غفل بنو إسرائيل عن ذلك؛ فرفضوا القرآن ورسالة محمد -صلّى الله عليه وآله وسلّم- تراجعوا ودخلوا مرحلة الشتات في الأرض بعد أن كان الله قد منَّ عليهم باتخاذ أئمة منهم -أولئك الذين كانوا يستمسكون بالكتاب- يهدون بأمر الله وبه يعدلون، لما صبروا وكانوا بآيات الله يوقنون.
ما بين الأمتين «اليهوديّة» و«المسلمة»
لقد عمل سيدنا رسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلّم- على إعادة بناء الأمَّة -أمَّة الأنبياء- ودعا بني إسرائيل ليكونوا جزءًا منها، ودعامة أساسيَّة من دعائمها، فأعرضوا وجحدوا بآيات الله واستيقنتها قلوبهم، وأنكروا نبوّة نبي كانوا يعرفونها كما يعرفون أبناءهم.
وقد أوحى الله -فيما أنزل على موسى إليهم- صفاته وخصائصه، لكن دفعهم الحسد القوميّ والبغي العنصريّ إلى الجحود برسالته وإنكارها، والتعالي عليها حسدًا من عند أنفسهم، وكتموا ما أنزل الله عليهم، بل لقد تجرّؤوا على تغيير وتحريف بعض ما أنزل؛ لئلا يذهب شيء من ذلك الهدى إلى غيرهم فيشاركهم في العبوديَّة لله تعالى. فكانهم يرون -بعد أن استبد بهم البغي والحسد- أنَّ الله -تعالى- لهم وحدهم، لا يشاركهم فيه وفي العبوديَّة له أي فصيل أو قبيل من الناس.
وحين أرادوا الخروج من حالة الشتات واستعادة بناء أمّتهم لم يجدوا لذلك سبيلاً إلا بالعودة إلى كتابهم وتراثهم، بقطع النظر عن كل ما أصاب الكتاب من تغيير وتحريف بأيديهم. وكأنَّ الله -سبحانه وتعالى- قد عاملهم بنواياهم، فإذا بهم يؤسسون دولة تتحكم في عالم اليوم اقتصادًا وسياسيةً وعلومًا ومعارفًا بشكل لا نستطيع أن نجد له نظيرًا معاصرًا في أيَّة أمَّة من الأمم. ونلاحظ أنَّ ساستهم وقادتهم قد بلغ بهم الوعي حدّ الإعلان للعالم كله بأنَّهم يريدون إقامة دولة يهوديَّة خالصة إرضاء للرب -سبحانه- ولأنَّ ما وُعدوا به من بركات ونصر وتأييد لا يتحقق إلا إذا أوجدوا الدولة النقيَّة عرقًا ودينًا، وذلك فيما أسموه «أرض الميعاد».
وقد صادف استعادة «الأمّة اليهوديّة» لذاتها فترة انهيار في الأمَّة المقابلة؛ ألا وهي «الأمَّة المسلمة»، والتي نشهد عمليَّة تمزقها وانهيارها منذ ما يزيد عن قرن من الزمان، فكأنَّ هناك صعودًا يهوديًّا قابله تراجع إسلاميّ، وصعودًا إسرائيليًّا قابله تراجع أمّيّ؛ في مقدمته تراجع العرب قادة الشعوب الأميَّة من حملة رسالة الإسلام الأولين.
حين نعود إلى الحسابات التاريخيَّة نجد أنَّه قد مرّ على إخراج بني إسرائيل من مصر بقيادة موسى وهارون -عليهما السلام- خمسة عشر قرنًا ثم جاء السيّد المسيح –عليه السلام- يجدد لبني إسرائيل دينهم ويصدّق على التوراة ويُحلّ لهم بعض الذي حُرّم عليهم، وكأنَّه -عليه السلام- كان يُمهّد السبيل لمجيء حامل الرسالة الخاتمة العالميَّة محمد بن عبد الله صلّى الله عليه وآله وسلم؛ ولذلك نجد أنّ البشريَّة لم تكد تدخل القرن السابع من بعثة السيد المسيح حتى ظهر محمد بن عبد الله –صلّى الله عليه وآله وسلّم- وبدأ يدعو إلى الرسالة الخاتمة المجددة لرسالات الأنبياء كافَّة والموحّدة لأمّتهم، والخاتمة لكل رسالاتهم.
ونحن الآن قد سلخنا خمسة عشر قرنًا هي مثل المسافة الزمنيَّة ما بين سيدنا موسى وعيسى لنجد تجديدًا في الأمَّة اليهوديَّة قادها إلى أن تؤسس في قلب العالم دولتها الأخيرة، وتعمل على أن تعطي هذه الدولة سائر ما تعتقد أنَّه من خصائص رسالة موسى وأنبياء بني إسرائيل الآخرين.
إنه لمن الطريف أنَّنا نشاهد هذه الأيام حركة تديّن والتزام شديدة داخل المساحة التي سيطرت اليهوديَّة والصهيونيَّة عليها من أرض فلسطين، فهناك نداءات كثيرة تناهض العلمانيَّة والأطروحات اللادينيَّة، وتدعو بشدة إلى التديّن والتمسك بالكتاب، وها هي تعلن دعوة نساء إسرائيل إلى الحجاب، وتشتدّ دعوتها في ضرورة الفصل بين الجنسين في سائر المجالات، إضافة إلى تطهير الدولة من سائر القوميَّات والأديان… والبقيَّة تأتي. في الوقت نفسه شهدنا على الجانب الآخر الإسلاميّ -في أوائل وأواسط القرن الماضي- تمزقًا وتشتّتًا وعودة إلى جذور ما قبل الإسلام؛ من فرعونيَّة وبابليَّة وفينيقيَّة وجاهليَّة وما إليها، لكنَّها انتهت -ولو بشكل غير متكامل- إلى دعوات هنا وهناك للعودة إلى الدين والتدين السليم به. ومن الطريف أن يحتل الحجاب والنقاب والحدود والعقوبات الشرعيَّة مواقع متميزة في الدعوة والخطاب الإسلاميّ كما هو الحال في الخطاب اليهوديّ داخل إسرائيل.
إنّه لمن الصعب أن نقول: إنّ ذلك كله من قبيل المصادفة، فلا مصادفة في هذا الكون، وإنَّما هي قوانين وسنن إلهيَّة يُصرّفها الله جلّ شأنه، فهو الذي يُداول الأيام بين الناس، والمداولة بين العرب المسلمين وبين اليهود الصهيونيّين قائمة الآن على أشدها، ولا بد لأولئك الذين يدرسون الأوضاع العالميَّة والتحولات الكبرى في العالم -ومنه عالمنا العربيّ والإسلاميّ- أن يضعوا هذا الأمر في حسبانهم، وأن ينظروا في ظاهرة التداول بين الأمتين نظرة جادة؛ لأنَّها هي التي ستُعِينهم على فهم مجريات الأمور بشكل أفضل وأدق، فيتضح الحاضر وما يجري فيه من أحداث، ومن الممكن أن يُستَشرف المستقبل كذلك.
هناك مَنْ يرى أنَّ إسرائيل قد بلغت الذروة، وأنَّه قد آن الأوان لدخول خط النزول والتراجع بالنسبة لها، لكنَّنا حين ندرس عمليَّة تعاقب الأدوار بين الأمتين نجد الأمر مختلفًا. إنَّ تقديرات أولئك المتفائلين بأنَّ إسرائيل يمكن أن تتفكك خلال عشرين عامًا مقبلة هي من قبيل التفاؤل المفرط، ذلك أنَّ التداول بين الأمتين يؤكد أنَّ تراجع إسرائيل مرهون بنهوض العرب والمسلمين، وقادة إسرائيل على وعي تام بهذه الحقيقة؛ ولذلك فإنَّ أهل الرأي والفكر مثل الرئيس الإسرائيليّ الحالي (شيمون بيريز) وأبا إيبان وزير الخارجيَّة الأسبق، أمثال هذين المفكرين اليهوديين يدركون تمامًا أنَّ أي نهضة للعرب والمسلمين ترتبط بتراجع يهوديّ وإسرائيليّ، فإذا نهض العرب والمسلمون شبرًا فذلك يعني أنَّ إسرائيل قد تراجعت شبرًا؛ ولذلك فإنَّ مَنْ يتوهم أنَّ إسرائيل مستعدة لمساعدة بعض العرب على سلوك سبيل النهضة والتقدم مخطئون، ويرتكبون خطأ جسيمًا في حق أنفسهم وحق العرب والمسلمين؛ لأنَّ إسرائيل تدرك أنَّ في ذلك مقتلها، وليرجع من شاء لآيات سورة الإسراء وليتدبر فيها: ﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا*فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا*ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا﴾ (الإسراء:4-6)، ﴿وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا﴾ (الإسراء:104)، ويربطها في سورة الحشر بقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ﴾ (الحشر:2)، فها هو الشعب اليهوديّ تجمعه الصهيونيَّة واليهوديَّة من شتى بقاع الأرض لتضعه في فلسطين التي أطلقوا عليها إسرائيل، وتجعل من بقي خارجًا جابيًا ومؤيِّدًا وداعمًا لهذا الموجود داخل الدولة حتى حين. والجلاء الذي حدث في عهد رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- لا بد أن يُربط بالمجيء بهم لفيفًا؛ فقد كتب الله عليهم الجلاء في عهده -صلّى الله عليه وآله وسلّم- ليكونوا البداية والنواة التي بقيت في هذه الأرض المقدسة كل تلك القرون منتظرة يوم المجيء بهم لفيفًا إلى هذه الأرض.
تساؤلات
هنا لا بد من تساؤل من شقّين؛ الشق الأول: هل نستطيع أن نعد ما عُرف بـ«ـثورات الربيع العرببي» مقدمة في هذا الاتجاه لنهوض عربيّ إسلاميّ يترتب عليه تراجع صهيونيّ يهوديّ؟ لا أود أن أجيب بنفسي الآن؛ لأنَّني أريد أن يشاركني القرَّاء هذا الهَمَّ ويفكّروا ويتدبّروا ويتذكّروا ويتعقّلوا هذا الواقع لعلهم يستطيعون أن يأتوا بالجواب المناسب. أمَّا الشق الثاني: فما تمخضت عنه هذه الثورات من مجيء «حزب النهضة الإسلاميّ» في تونس إلى السلطة، و«الإخوان» و«السلفيين» في مصر، واقترابهم من مراكز صنع القرار، وما سبق ذلك من وصول مشايخ إيران إلى السلطة فيها، والشيخ الترابيّ وحلفائه العسكريين في السودان، و«حزب الدعوة الشيعيّ» و«الحزب الإسلاميّ السنيّ» في العراق، هل هذه الظاهرة هي ظاهرة مواجهة للوعي اليهوديّ والنَّهضة الصهيونيَّة، أم هي شيء آخر؟ هذا أيضًا سؤال أريد من قرَّائي التفكير فيه، والتعمق في النظر في مدلولاته، فإنَّ ذلك أدعى للوعي من إعطاء إجابات فرديَّة جاهزة، ولعلَّهم يستجيبون.
الإسلاميون ونهوض الأمّة
من الواضح أنَّ الساحة العربيَّة الإسلاميَّة بدأت تبدي تذمرًا شديدًا من كثير من الأطروحات السابقة، ولأول مرة يجد الإسلاميّون -الذين كانوا يقولون «الإسلام هو الحل» ثم يستريحون ليتركوا الناس يكدّون عقولهم في هذا الحل السحري ليتفهّموا المراد به ومنه- عامة المسلمين قد شقّوا طريقهم إلى الأسئلة المعرفيَّة التي لم يكونوا يلتفتون إليها، وهي: لِمَ، وكيف، ولماذا، وأي شيء هذا؟ إلى آخر سلسلة الأسئلة التي صار عامَّة المسلمين والعرب يطرحونها اليوم؛ ولذلك فإنَّ القائلين بأنَّ «الإسلام هو الحل» بدؤوا يشعرون بذلك التغيّر وذلك الانكماش، فيقدّمون أنفسهم بصيغ مختلفة تحمل أسماء أخرى، فهناك «وسط» و«عدل» و«تنمية» و«حرية وعدالة»، وعناوين أخرى لا يمكن للإنسان -إذا ما طرحت عليه- إلا أن يدخل في تفاصيل من شأنها أن تُشعر صائغي الخطاب الإسلاميّ بأنَّ الشعارات المجردة لم تعد كافية ولا مغرية.
إنَّ الدولة العبريَّة قد تجاوزت حالة التخلف بسائر المعاني اللهم إلا بمقاييس التديُّن النقيَّة التوحيديَّة. في حين أنَّ العالم العربيّ والإسلاميّ ما يزال التخلف مكلكلاً ومهيمنًا على جوانبه المختلفة، وبرامج الهداية والإصلاح لا تقبل الظهور على أيدي المتخلّفين، فلا بد من اجتياز حاجز التخلّف بكل أنواعه؛ لأنَّ اجتياز حاجز التخلف شرط أساس سابق لتقديم الرؤية الإصلاحيَّة والتجديديَّة، إذ إنَّ مَنْ أدركه البِلى لن يستطيع أن يُجدد أو يتجاوز حالة البِلا قبل أن يخرج منها. ففي حساب النهوض والتراجع نستطيع القول أنَّ تحقيق حالة النهوض قد صار وشيكًا لو أنَّنا تجاوزنا حاجز التخلف كما تجاوزته الأمَّة الأخرى «إسرائيل»، وبدأنا نشق طريقنا بمقتضى ذلك لنتبوّأ المكان اللائق بنا بعد ذلك، فنكون وسطًا ونكون أمَّة خيّرة ونكون أمَّة شاهدة… وهكذا.
إنَّ ما نراه ونشهده من مظاهر التدين التي طرحتها الفئات التي تكوّنت أثناء ذلك الربيع أو كانت قبله وحاولت الاستفادة به تبحث -في جُلّها- عن خلاص فرديّ، وفي أذهان قياداتها فكرة الأجر والثواب والخلاص الفرديّ لدخول الجنَّة وعتق الرقاب من النَّار، وهذه أمور حسنة جميلة، لكنَّها لا تدل على وعي «أمتيّ» ينطلق لخلاص الأمَّة وتجديدها وإعادة بنائها.
سبُل نهوض الأمّة بمنهج قرآني
هنا يقف القرآن شامخًا ليقول للناس: هلمُّوا إليَّ، فأنا الباني للحق والهادم للباطل، أنا وحدي الذي تركني رسول الله فيكم محجَّة بيضاء، أُذكّركم إذا نسيتم، وأُنبّهكم إذا غفلتم، وأبني لكم ما هدمتم، وأُطهر لكم ما دنّستم، وأضعكم على الصراط السويّ، وأؤلف بين قلوبكم، وأُثبّت أقدامكم، وآخذ بأيديكم إلى التزكية والتنمية والفلاح، إنَّني وحدي مَنْ يستطيع أن يُقيم العدل فيكم، ويُحقّق المساواة بينكم، ويُهيّء لكم السبيل ليكون أئمتكم منكم، إنَّني وحدي الذي أحمل لكم نبأ مَنْ قبلكم وخبر مَنْ بعدكم وحكم ما بينكم، أنا وحدي القول الفصل لست بالهزل، ولا الهزل يقربني، أنا وحدي الذي لا يأتيني الباطل من بين يدي ولا من خلفي؛ ولذلك فإنَّني وحدي القادر على إخراجكم من الظلمات إلى النور، فلا الديمقراطيَّة الزائفة ولا الليبراليَّة المنحرفة ولا الاشتراكيَّة البائدة ولا الرأسماليَّة السائدة بمغنية عنكم شيئًا، لكنَّني أنا القرآن مَنْ يستطيع أن يأخذ بأيديكم ويعبر بكم أزماتكم ويأخذ بأيديكم ويوصلكم إلى شاطئ النجاة، لكنَّني أريد أن يكون منكم حَمَلة لي، بي يهتدون وبآياتي يتمسّكون وبهديي يلتزمون، إذا تُليَتْ عليهم آياتي خرّوا إلى الأذقان يبكون ويزيدهم الله خشوعًا، حملة يحملونني قانتين ساجدين راكعين مخبتين، ينظرون إلى البشر كلهم على أنَّهم أسرة واحدة ممتدة، كلهم لآدم وآدم من تراب، أسرة يمكن أن يكون فيها ظالم لنفسه ومقتصد وسابق بالخيرات بإذن الله، أسرة يهمها أن تعلوا كلمة الله على كل كلمة وأن يخرج كل أبنائها من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، أسرة لا تعبد إلا الله ولا تحنو الجباه إلا لعظمته، أسرة تدخل في السلم كافَّة لأنَّها تدرك أنَّها أهبطت لهذه الأرض لتُستخلف فيها، ولتقود قافلة التسبيح لله -جلّ شأنه- وحَصْر العبادة والاستعانة والحمد والثناء والحاكميَّة والبقاء في ذاته -جلّ شأنه- أسرة لا ترضى أن يُقَسّم البشر إلى عبيد وأسياد، ومتسلطين ومُتَسَلّط عليهم؛ لأنَّهم جميعًا عباد لله، به يؤمنون وعليه يتوكلون وبكتابه يتمسكون وبهدي نبيّه يستنيرون ويستضيؤون، آنذاك تشرق الأرض بنور ربها وتحيا الأسرة البشريَّة حياة طيبة. إنكم تعظِّمونني ولا شك، وقد تحفظون ألفاظي، لكنَّ ذلك وحده لا يكفي، فرُبَّ قارئ لي تحل عليه لعنة الله ولعني، ورُبَّ قارئ لي بنيّة خبيثة لا يزداد بقراءته لي إلا عمى وضلالاً؛ لذلك فإنَّ الرجوع لي له قواعده وله شروطه التي أوضحتها وبيّنتها، مَنْ التزم بها فاز ومَنْ انحرف عنها هلك.
…
وبعد ما سبق، فإني أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.