د. طه العلواني
لماذا نؤكّد على ضرورة البدء بالقرآن، وإسكانه القلب، وتسليمه قيادَ العقل والوجدان وقوى الوعى الإنسانى كلها؟
إنّنا نؤكد على ذلك لأنّ ما يحتل قلب الإنسان أولاً يكون هو الميزان وهو المقياس الذى إليه يقيس كل ما بعده وكل ما يتلوه فى الوصول إلى القلب، وبذلك يكون لدى الإنسان نور يمشى به فى الناس، يستطيع أن يميّز به الحق من الباطل والصواب من الخطأ والخير من الشر. فإذا جاءت الواردات والمعارف والأفكار المختلفة بعد ذلك فإنّ ميزان القلب القرآني سوف يهدى صاحبه لما هو الحق وأحسن تفسيرا، ويكون له فرقانًا يفرق به بين الهدى والضلال والنور والظلمات فلا يخشى عليه من الانحراف أو التوهان.
أما حين تحتل مصادر ومراجع معرفيةٍ أخرى القلب الإنسانى فإن القرآن يصبح هو الطارئ على ذلك القلب، فيبدأ القلب وقوى الوعى الإنسانى بتأويل آياته لتنسجم بعد التأويل مع المسلمات والمستقرات فى القلب والوجدان وذلك خطر عظيم لأنه سوف يحمل آيات الكتاب الكريم على معانى تلك المسلمات ويحكمها فيه. وحين نستعرض أقوال كثير من المفسرين فسوف نجد مصداق ذلك ظاهرًا فى تفسيراته، فمن احتلت الفلسفة قلبه قبل القرآن كثيرًا ما يحكم منطلقاته الفلسفية فى معانى الكتاب الكريم. ويمكن أن يراجع مثل التفسير الكشاف للزمخشرى والتفسير الكبير للفخر الرازى للحصول على أمثلة كثيرة جاءت فى تفسير كثير من السور انطلاقًا من ذلك الجانب من جوانب المعرفة فأعطت للآيات المفسرة معانى قد لا يحتملها نظمها ولا سياقها ولا ألفاظها.
وقد أدرك كثير من علمائنا المتقدمين هذا الأمر فحرصوا أن يكون أول ما يدرسه الناشئة كتاب الله والعالم الإسلامى إلى وقت قريب كانت الكتاتيب تنتشر فيه ليتعلم الناس فيها القرآن أولاً ثم بعد ذلك ينتقلون إلى المدارس الأخرى. ولكن لم يدرك كثيرون مغزى ذلك ولم يحاولوا إدراك الحكم فيه للتوسع فيها وتعميقها، ومن بين أعلام المتقدمين الذين عنوا بإبراز أهمية استقرار القرآن، الإمام الشافعى، يقول فى مقدمة رسالته: “فليس تنزل بأحدٍ من أهل دين الله نازلة إلا وفى كتاب الله الدليل على وجه الحق فيها”.
كما أنه ألّف فى اختلاف الحديث وجاء بكلام نفيس عندما تناول اختلاف الحديث فبيَّن أنه إذا اختلفت الأحاديث عنده فيأخذ الأقرب منها إلى القرآن الكريم. وهو السنة التى لها فى القرآن أصلٌ وردت لتبيِّن كيفية تطبيقه وتأويله فى الواقع وأفضل سبل اتباعه، فالقرآن عنده مقدم على كل شئ وكل ما جاء بعده فإنه ينظر فيه بنور القرآن وهدايته. يقول رحمه الله فى معرض تقرير مذهبه فى عدم نسخ السنة للكتاب أو الكتاب للسنة: (أبان الله لهم… أن السنة لا ناسخة للكتاب وإنما هى تبع للكتاب نصًا، ومفسرة معنى ما أنزله الله منه جملاً، والأحاديث إذا اختلفت لم نذهب إلى واحد منها دون غيره إلا لسبب يدل على أن الذى ذهبنا إليه أقوى من الذى تركنا… بأن يكون أحد الحديثين أشبه بكتاب الله، فإذا أشبه بكتاب الله كانت فيه الحجة) ولم يقتصر على ذلك بل أكد على تقديم ما يكون معناه أشبه بمعنى الكتاب على سواه، فكأنه رضى الله عنه هنا يؤصل لتصحيح الحديث والأخذ به ما يشبه كتاب الله ويتصل وكأنه فرع بأصل فى الكتاب.