د. طه العلواني
حينما نتحدث عن “تفسير القرآن بالقرآن” وضرورة التدبُّر ، يطرح علينا السؤال التالي: “… هل يمكن أن تقع على الإجابة الموضوعيَّة من مرجعيَّة ثم استمداد منهجها منها مهما كانت عظمة تلك المرجعيّة ومدى إيماننا بصوابها؟..” والإجابة عن هذا السؤال تكمن في كون المنهج القرآنيّ أقرب إلى ما يسميّه علماء المناهج –الآن- “منهج التلقيّ” أو “نظريَّة التلقي” من حيث كون التلقيّ في إحدىٰ مدارسه تفسيرًا أو تأويلاً داخليًّا يستمد إجابة سؤاله من الأفق الذي يتحرك فيه أو معه بفعل النصّ، ويحدّد له مناط التفاعل بين وعيّ القارئ النموذجيّ ووعيّ النصّ نفسه!!
وفلسفة التلقيّ: هي السليقة البدئيَّة لإدراك معاني وإيحاءات ما ينعكس على صفحة الذهن والشعور من صور. والصورة –هنا- هي صورة الكون، وهي صورة اللّغة، وهي صورة العلامة (أيقونة، إشارة، رمز …الخ). وهذه السليقة البدئيَّة بريئة تمام البراءة من عوائق الشروط والمعايير والقواعد الموضوعة للاستجابة بصدد المثير. إنّه ينفذ إليها مباشرة على نحو قصديّ فتنفعل له وبه ومعه. ومن ثم تصوغ موقفها إزاءه بطريقة تدل على نقائها من جميع الشوائب والتشويشات التي تستنفذ جزءً كبيرًا من طاقتها الأصليَّة، وتنحرف بها بدرجات مختلفة عن مسارها الصافي في انسيابه وتدفقه.
و”فطرة التلقي” أساس مهم في استقبال النصّ القرآنيّ واستيعاب مراميه ومضموناته ومقاصده في زماننا هذا!! إنّها أساس يخلّص الذهن والشعور عن عوالقهما الدخيلة التي تراكمت عبر قرون فمثّلت حجابًا كثيفًا بين المسلم والنصّ. و”التلقيّ” بشكل استعادة لأوليّة الحضور مع الكلمة الإلهيَّة والتفاعل معها.
ومن ثمّ امتلاك القدرة الداخليَّة الكبيرة لتطويع الذات والواقع لها على نحو نموذجيّ. وإذا زعم بعضٌ أنّه ليس ثمّة فطرة غُفْلٌ تمامًا على النحو الذي يقطعها عن كل ما حولها، ويعلّقها في فضاء مِثَاليّ وحيد اتفقنا معها باعتبار أنّ “فطرة التلقيّ” تمتلك سلّمًا من الدرجات الإيقاعيَّة التي تفصل بين عمق تفكير وعمق تفكير آخر، كما تفصل بين عمق شعور وعمق شعور آخر بحيث يصل مستقبل النصّ إلىٰ قراءة معنىٰ أو إيحاء لا يصل إليه مستقبل آخر. وذلك مّما يتّصل بالملكة ومستوىٰ المعرفة، وضروب التجارب، ولكنّه لا ينال أبدًا في كل الأحيان من السليقة الأولىٰ المحض.
وهناك علاقة واضحة بين “فعل الخلق والفطرة” فكأن طبيعة موازية ومقرونة بإيجاد الوجود: ]إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً [(الأنعام: 79)، ]إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي [(هود: 51)، ]فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [(الروم: 30) فالفطرة والإيجاد كلاهما بنيا على الانبثاق من كائن مطلق لا تتعلّق كينونته بشيء، ولا يتعلّق بها شيء. ومن هنا جاز لنا أن نقول: إنّ للفطرة ماضيًا ميتافيزيقيًا يجد جذوره في صفاء الخير المطلق (وهو الله سبحانه ونقاؤه).
ويقول صلى الله عليه وآله وسلَّم: “كل مولود يولد على فطرة فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه”. ويقول الفلاسفة: “إنّ الفطرة هي الجبلَّة الأصليَّة أو الطبيعة الأولىٰ التي يكون عليها المولود في وقت ولادته. ويقسم ابن سينا الفطرة إلى فطرة سليمة، وفطرة غير سليمة. فالفطرة السليمة هي العقل المنوط به صدق التوجيه. وهي عند ديكارت Descartes: استعداد لإصابة الحكم والتمييز بين الحق والباطل. والفطرة عند بعضٍ مبدأ قبليٌّ من المبادئ القبليَّة، أو استعداد للوقوع على ما سبق الوقوع عليه في أزليّة الزمان من المسلّمات والحقائق. ولذلك زاد الصوفيَّة: أنّ الفطرة هي ما أخذه الله على ذريّة آدم من الميثاق. وقال ليبنز: “إن ثمّة عروقًا كالتي نجدها في حجر المرمر تجعل هذا الحجر صالحًا لقبول صورة معيّنة بحيث يمكنك أن تقول: إنّ هذه الصورة فطريَّة له. وهذا هو المعنى الفطريّ الذي تنحو باتجاهه استعدادات النفس الإنسانيَّة الأصليَّة.
والمهم أن “فطرة التلقيّ” –كما يتضح لنا هي وديعة داخليَّة في أعماق النفس تجد مصداقها في “فطرة القوّة” التي تسمىَّ عقلاً. والتي لا بدَّ أن يجد كلام الله صورة فطريَّة له في منطق هذه القوة من خلال منطقه، ثم تعود هذه الصورة إلى تغلغلها في باطن النفس وخلجاتها ومداركها بحيث تقودها إلى الرضا والسعادة واليقين بالمعنى الأوسع لهذه القيم.
إنّ “فطرة التلقيّ” تستقبل الخطاب القرآنيّ باعتباره خطابًا ذا وجودين: وجود واقعيّ خارجيّ يتمثّل فيما بين الدفتيّن من آيات وسور تندرج في أجزاء وأحزاب؛ ووجود معنويّ تدل عليه وتستدعيه الألفاظ المضمّنة في آيات وسور فهي معاني تلك الآيات والسور ومدلولاتها. فكأن اللّفظ –والحالة هذه- علامة تدفع الباحث دفعًا على التأمّل والتدبّر والتفكّر والتذكّر والتعقّل والبحث والنظر ليصل إلى الكشف عن العلاقة والارتباط بين الدال والمدلول أو اللفظ والمعنى والمغزىٰ.
والقاريء المتدبّر حين يعي ذلك يكون على بيّنة من أمره وهو يمارس هذه العمليّات الذهنيَّة، ومن أهم ما يلحظه الآخرون “بنظريّة التلقي” ما يسميه بعضٌ “بالسقف المعرفيّ المتحرّك” الذي يرفض مبدأ “السكون” و”السكونيَّة” فما من لحظة تمر ويمكن إعادة إنتاجها –كما هي- فالكون –كلّه- بكل عناصره ومكوّناته يحري لمستقر له، وذلك عندما يرث الله الأرض ومن عليها، فهو كون سائر وصائر إلى أجل مسمىَّ. وتصور الإنسان أنّ إعادة فترة زمنيَّة انقضت أمر ممكن إنّما هو تصوّر مخالف لكل ما قرّره القرآن المجيد من سنن وقوانين بهذا الصدد، ومخالف لسنن أرسىٰ رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلّم- دعائمها.
وعن الفكر السكونيّ والرؤى الماضويَّة انبثقت أفكارًا قاتلة كثيرة يستطيع المتأمل رصدها هنا وهناك. والمنهجيّة المعرفيّة القرآنيّة تجاوزت العقليّة السكونيّة التي انبثق عنها فكر التعاقب والتكرار والتراكم والسببيّة لتكون بديلاً عن الصيرورة والتغيّر النوعيّ والضابط المنهجيّ. يقول المؤرخ الحكيم ابن خلدون: “إذا تبدلت الأحوال جملة: فكأنّما تبدّل الخلق من أصله، وتحوّل العالم بأسره وكأنّه خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدث”.
والقرآن المجيد بما فيه من خواص وطاقات “الاستيعاب والتجاوز والتصديق والهيمنة” قادر على استيعاب المستجدات وتجاوزها والتصديق عليها ثم الهيمنة والتدبُّر الدقيق السليم هو ما يكتشف به المتدبّر المجتهد كيفيّة تحقيق ذلك والمنهج الذي يتبّع فيه.