Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

الأمن

د.طه جابر العلواني

«الأمن» أعظم نعمة يتطلّع الإنسان للتمتُّع بها بعد الصحة والعافية، فهو حاجة أساسيّة لا يستطيع إنسان أن يستغني عنها، فحياة الإنسان بدون أمن لا يمكن أن تكون تامة أو كاملة. فالأمن يرقى إلى مستوى المقاصد العليا كـ«ـالتوحيد» و«الحريّة» و«التزكية» و«العدالة»؛ ولذلك نجد القرآن الكريم وقد عُني به عناية شديدة، وامتـنّ الله -تبارك وتعالى- على قريش بأن آمنهم من خوف:﴿الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ (قريش:4فالطعام قوام البدن «والأمن» قوام النفس والعقل والقلب والفؤاد.وقد أُثر عنه -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- أنَّه قال: “مَنْ أصبح آمنًا في سربه، معافىً في بدنه، عنده قوت يومه، فقد حِيزت له الدنيا بحذافيرها”، أو كما قال صلّى الله عليه وآله وسلَّم.

وقد امتـنّ-تبارك وتعالى- على المؤمنين بقوله:﴿وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(الأنفال:26). والدولة لا تقوم إلا على «الأمن»، فهو ضرورة للأفراد وللدول والجماعات والشعوب والقبائل وسواها، ويقول جلّ شأنه:﴿أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ (الأنعام:82ودول العصر تُنفق الجانب الأكبر من ميزانيّاتها على قوّاتها الأمنيّة وجيوشها، وكل ما يستلزمه أمنها من إعداد قوة ورباط وما إلى ذلك، ومَنْ لم يجد ما يُحقّق به «الأمن» فهو عرضة للاستضعاف بكل مستوياته.

وعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- اشتهر بالاهتمام بـ«ـالأمن»، وتحقيقه لكل منتمٍ إلى دار الإسلام، سواء أكان مسلمًا أو غير ذلك، وكان يحافظ على أمن الناس من قضاته وبهم، ومن عمّاله وبهم كذلك، بحيث تشعر أجهزة الدولة كلُّها -القضائيَّة والتنفيذيَّة والسياسيَّة- أنَّ مهمتها الأولى والثانية والثالثة والعاشرة هي جعل جميع المنضوين تحت راية الأمَّة المسلمة والدولة المسلمة يعيشون في أمان، لا يخافون إلا الله والذئاب على أغنامهم. ووصلت حساسيّة عمر -ومَنْ سار على دربه من خلفاء المسلمين- أن اعتبر ما لا يمكن تحقيق «الأمن»دونه واجبًا من أهم الواجبات؛ ولذلك قال قولته المشهورة: “لو أنَّ جملًا على شط الفرات زلق، فهلك ضياعًا، لخشيت أن يُسأل عنه عمر: لِمَ لم يُعبّد له الطريق”، فحساسيّة ضميره باعتباره رئيسًا للدولة جعلته يشعر بأنَّ مسؤوليّته تتجاوز البشر إلى الحيوان والحجر، فعليه أن يُعبّد الطرق، ويُوفّر المياه والغذاء، ويُؤمّن السبل، ويحمي الناس في بيوتهم وطرقهم ومدنهم وقراهم من سائر الأخطار، بما في ذلك الأخطار الطبيعيَّة.

و«الأمن»-أمن المواطنين والمنتمين إلى الأمَّة- مقياس لقوّة الدولة وسلامتها، واستقامة القائمين عليها وعدالتهم، فإذا اختلّ الأمن فإنَّ كل ذلك البريق يصبح مجرد أسماء فارغة لا قيمة لها، فمهما لُقِّب الحكّام وأُطلق عليهم، ونطق الشعراء بقوَّتهم،لا يمكن أن يشفع للدولة أو يعفيها من تحقيق الأمن لكل مَنْ وما على أراضيها.

لقد استطاعت بلدان أوربيّة وأمريكيّة وسواها أن تحقّق إنجازات كبيرة، لكن حين تفشو الجريمة ويفقد الناس أمنهم لا يشعرون بقيمة تلك الإنجازات، ولا يستطيع كثيرون منهم التمتُّع بها والإشادة بمَنْ حقّقوها، وقد يغترب الإنسان عن مجتمعه، ويشعر بالانطواء وهو يعيش في مدن كبرى عامرة، فيها أنواع ومستويات عديدة من المؤسَّسات الأمنيَّة، ولكنَّها لا تستطيع أن تُحلَّ في قلبه ووجدانه “الأمن” الذي يتطلّع إليه.

إنّ فمفهوم «الأمن» مفهوم قرآنيّ من أهم وأخطر المفاهيم التي تشتدُّ حاجة أمّتنا إلى الوعي بها وفهمها، وإدراك طبيعتها، وكيفيَّة تحقيقها في حياة الأمّة. وقد ورد في القرآن المجيد بصيغ عديدة، منها المصدر، كما اشتقّ منه اسم «الأمانة» و«الإيمان».

و«الأمن» طمأنينة النفس، وانعدام الشعور بالخوف والقلق والتهديد لكل ما يهمّه من ضروريّات وحاجيّات وتحسينيّات؛ ولأهميّة مفهوم «الأمن» عدّه بعضٌ كلمة «التوحيد»، وفسّرها به؛ لأنّ الأمن لم يكن يتحقق إلا بها، وقال بعضهم: إنّه «العدالة»؛ لأنّها الركن الَّذِي لا تتحقق الطمأنينة إلا به.

وقال بعضهم: “إنَّه «الحريّة» التي تجعل الإنسان يتصرف وملؤه الإحساس بأنّه آمن، لن يُحاسب أو يُعاقب أو يُلاحق؛ لأنّه آمن. و«الأمن»في الحقيقة يتوقف على ذلك -كلّه- وكل ما ذكرنا هو من متطلّبات الشعور بالأمن؛ فلابد لـمَنْ يُريد الوصول إلى حقيقته والاستمتاع به، وجعله حالة نفسيَّة يحياها القلب، وتستشعرها النفس، ويطمئن بها الفؤاد والوجدان من الارتباط بالله وتوحيده، وتزكية النفس وتطهيرها، والتمتّع بالعدالة والحريّة والمساواة. وقد امتنّ الله -تعالى- على البشريّة «بالحرم الآمن»:﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (العنكبوت:67)، وقال جلّ شأنه: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا(البقرة:125)، وامتـنّ الله -تعالى-على قريش بأنّه: ﴿أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (قريش:4).

و«المأمن» هو المنزل الَّذِي يطمئنّ الإنسان فيه، ويشعر بالسكن والطمأنينة، ويُزال به الخوف لوجود مَا يؤدّي بالإنسان إلى الشعور بحالة «الأمن». ووسائل تحقيق الأمن كثيرة؛ أهمّها أن تكون هناك منظومة أخلاقيّة يلتزم بها أبناء المجتمع، فيطمئن الإنسان في إطار هذه المنظومة الأخلاقيّة؛ لأنّه لا يتوقع من أيّ أحد أن يتجاوز عليه، أو يتعدّى عليه، أو يُصادر حقوقه.وكذلك نظام العدل يجعل الإنسان آمنًا مطمئنًا للعيش في ظلاله، لا يخشى أن يضيَّع له حق، أو يُفرض عليه شيء بظلم.

وقد يجد الإنسان في «السِّلم» أمنًا، ولا يجد ذلك في حالة «الحرب»، و«استجارة»غير المسلم بالمسلمين ليسمع كلام الله -تعالى- تُوجب عليهم إجارته حتى يسمع كلام اللهتعالى، ثم عليهم أن يقوموا بحمايته إلى أن يصل إلى مأمنه؛ أي: إلى المكان الَّذِي يأمن فيه على دياره وديار ذويه، وقد جعل الله -تعالى- بيته المحّرم آمنًا، بحيث يشعر داخله بـ«الأمن والطمأنينة» في قلبه ونفسه ووجدانه؛ ولذلك فقد نهى الله -جلّ شأنه- أن يُنفّر صيد الحرم، أو يُقطع شجره، أو يُعرّض اللّائذ به للخوف؛ ليكون نموذجًا للأرض كلّها-وهي التي استُخلف آدم وبنوه فيها ليقوموا بعمرانها-للأمن والحق والعدل ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا (هود:61)ولا يمكن تحقيق مقاصد الشارع الحكيم في «التوحيد»و«التزكية»و«العمران» بدون حياة آمنة مستقرّة، يسودها «السلام»و«الأمن»، وتغمرها «الطمأنينة».

و«الأمن» مطلب إنسانيّ عالميّ، سلك البشر مختلف السبل ابتغاء الوصول إليه، لكنّ تلك السبل والوسائل -التي توسَّلوا بها لتحقيق هذه الغاية في بلوغ «حالة الأمن»- كانت جلّها -إن لم تكن كلّها- مناهج إنسانيّة، وطرقًا بشريّة نسبيّة.

إنّ بعض الحكّام من أبناء هذه الأمّة نسوا الله فأنساهم أنفسهم، وأوهمهم شياطينُهم أنّ أمنهم وأمن نظمهم، وخلاصهم وخلاص نظمهم هو في خارج بلدانهم، بعيدًا عن أمّتهم، فاستقووا بهم على أمّتهم، ونفّذوا للأجنبيّ كل ما كان يحلم به؛ لقد كانوا يتسابقون لإرضائه فينفذون ما يتوهّمون أنّه يجب أن يفعلوه، فيحقّقونه له قبل أن يطلبه، حتى إذا لم تعد به إليهم حاجة ألقى بهم كما يُلقي بعقب سجارة غير مأسوف عليهم.

ومع أنّ هذه الحالة قد صارت ظاهرة مطّردة منعكسة في كل من هؤلاء لكن لم تجد لاحقًا منهم قد اتعظ بسابق، لا في القديم ولا في الحديث، بل يأتي اللّاحق والوهَمُ يستبُّد بأنّه مختلف ولديه مناعة مما حدث لغيره.

ولو علم هؤلاء أنّ الخارج والجهات الخارجية ليست مؤسسات خيريّة، ولا جمعيات تطوعيّة، نذرت نفسها -أموالها وجهودها- لحماية الضعفاء والمظلومين والمضطهدين، بل هي دول ومنظمات كبرى مليئة بالمطامع، مشحونة بالطموحات، تسعى إلى تحقيق مصالحها وخدمة أهدافها، ولا ترى في عمليات الاستقواء بها والاستنصار إلا مداخل سهلة تفسح لها المجال لتحقيق تلك المطامع والطموحات. والتاريخ حافل بالأمثلة على ذلك، وأمّة كالأمّة المسلمة -في عظمتها واتساعها وتاريخها وتنوع شعوبها ومواردها- إن لم  تستطع أن توحّد كلمتها وتُشكل كيانًا موحدًا، فلا أقل من أن تشكل مؤسسات ومنظمات ووسائل تستطيع أن تُعين شعوبها وأبناءها على معالجة مشكلاتهم وتجاوز أزماتهم، والخروج من المآزق التي قد يسقطون فيها نتيجة بغي الخلطاء بعضهم على بعض.

ليت الأمّة المسلمة أقامت لنفسها آليات لفضّ المنازعات، ومؤسسات لمعالجة الاختلافات التي تُعد من الأمور الطبيعية حتى في داخل الأسرة الواحدة، فلابد من محكمة إسلاميّة عليا تتولى معالجة القضايا التي يمكن أن تتأزم وتتحول إلى مشكلات إذا لم تجد مَنْ يُعالجها أولًا بأول، وكذلك تفعيل المنظمات الإقليميّة والإسلاميّة لتحقيق هذه الأغراض، ومحاصرة المنازعات والمشكلات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *