د. طه العلواني
إن التصديق والهيمنة والاستيعاب والتجاوز من محدّدات القرآن المنهجيّة. «الاستيعاب» محدِّد يرتبط بنسق مفتوح لا ينغلقّ عن «التصديق» على أيّ نسق آخر، ثم «الهيمنة» عليه، و«استيعابه» في نسقه بعد ترقيته، ومنحه الرؤية الّلازمة، والامتداد الضروريّ، وتجاوز الطريق المسدود الذي كان قد دخل إليه وتوقف عنده. والاستيعاب يتوسل لتحقيق ذاته باستعمال وممارسة سائر الخطوات المنهاجيّة لهيمنة النسق الآخر للاستيعاب ففي «الاستيعاب القرآني» قدرة هائلة على تخليص أي نسق من كيانات وقواعد تكون قد أدت دورها، واستنفذت مسوّغات وجودها.
ففيه آليَّات عديدة تمكِّن «المنهجيَّة المعرفيَّة القرآنيَّة» من الاستيعاب، منها: صفة الكونيّة، والرؤية الكونيّة الشاملة. وبها تخرج الأنساق المغلقة من حالة الانغلاق والضيق إلى سعة الدنيا والآخرة.
ووجود الثابت والمتغيِّر في مستويات متنوِّعة. والإيمان بوحدة البشريَّة، والكون، والحقيقة. والانفتاح على العلم والعقل «بالجمع بين القرائتين» وبالاجتهاد، فالكون مسخرّ بسنن وقوانين معقولة من الممكن معرفتها والكشف عنها.
والإنسان مستخلف مخيَّر وليس ورقة تحرّكها أقدار وحتميّات، وهو فاعل مختار. وصفة «العالميَّة»، وهي محدِّد منهاجيُّ آخر –تستلزم «الاستيعاب» و«التجاوز» فلولاهما لما أمكن اتّصاف القرآن «بالعالميَّة» فبالإطلاق و«التصديق» و«الهيمنة» و«العالميَّة» مع «الاستيعاب» و«التجاوز» ينفتح القرآن الكريم على سائر الأنساق الثقافيَّة، والحضاريّة ليستوعبها ويتجاوزها فيحقق عالميتَّه وكونيّته.
فالعلاقة بين الحضارات والثقافات منذ فجر التاريخ تتراوح بين علاقات تصادم وعلاقات التقاء. وطبيعة الحضارة الغربيَّة المعاصرة تحمل بذور الصراع الذي يؤدي غالبًا إلى التصادم؛ لأنّه –في نظرها- هو الذي يمنح «التقدُّم» دماء الحياة وهو الذي يشحذ أسلحة «المنهج النقديّ» ويجعلها فاعلة متحركة أما الالتقاء بين الحضارات القائم على الحوار فإنَّ شرطه ليكون مثمرًا ودافعًا «للتَقدُّم» أن يكون تفكيكيًّا نقديَّا يمارسه مجتمع مفتوح على كون مفتوح.
وأخطر ما يصيب البشريَّة أن تفقد «منهاج النقد المعرفيّ» –الذي يمكن أن يندرج تحت ما يعبرِّ القرآن عنه «بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» أو هو أحد «مناهج الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» فتوقف منهاج النقد يؤدي إلى غرور بعض الحضارات والثقافات بما هي عليه، واتخاذ نظراتها لنفسها مسلَّمات بحيث تتوهم لنفسها الكمال فتستعلي، والتفوُّق فتستبدُّ، والاستغناء فتطغى. وقد ينسحق الآخرون أمامها فيسلِّمون لها بذلك إحساسًا بدونيّتهم، أو استسلامًا للمتغلّب، كما يقال.
وقلَّة «المناهج النقديَّة» الفاعلة لها أدت إلى انغلاقها على ذاتها واستعلائها وغرورها ثم استبدادها، إنّ القرآن المجيد –بعد أن يستوعب تراث الحضارات، وينقده يقوم بتجاوزه: ]تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ[ (البقرة:134)، هنا ينقل القرآن البشريَّة من نموذج إلى آخر، ومن نسق قياسي إلى آخر؛ وهو حين يمارس نقده وتفكيكه فيما سبق يوضح ضرورة التمييز بين مناهج ومقاييس ومعايير محاكمة الأنساق الثقافيَّة والحضاريَّة، وينبّه إلى «ضرورة التعدُّديّة المنهاجيّة» المستعملة في ذلك، فيحاكم تلك الأنساق بالنسبة لظروفها والتحديّات التي واجهتها. وبذلك يكون في غاية الاستقامة والعدالة في تقويماته ونقده، وميز ما يستوعب وما لا يستوعب من قواعد وكليَّات تلك الأنساق.
فهو لا يؤدي إلى قيام فلسفة: «كلّما ذهبت أمَّة أو دخلت أمّة لعنت أختها» بل لا يسمح نسقه بذلك، كيف وهو قد أمر بالقراءة القلميَّة. وعدّ تراث الإنسانيَّة –كلّه- تراثًا عليه أن يصدق عليه ويهيمن.
إنّ الإنسان الغربيَّ الذي تحقَّق على يديه الإنجاز الحضاريّ المعاصر أعطى لنفسه الحق في أن يفرض طريق (التقدم) الأوحد الذي أفرزته ثوراته العقليَّة والعلميَّة على البشريّة –كلِّها- طوعًا أو كرهًا، وجعله أساسًا أيديولوجيا للحركة الاستعماريَّة. ومفكرو الحضارة الغربيّة لحد اليوم يناقشون واجب (الدولة المتقدمة) أو حقَّها في الأقل في فرض وصايتها على الدول المتخلفّة، لإخراجها ولو بالقوة من حالة التخلُّف والّلاديمقراطية. بل إن الأساس الأيديولوجي الذي سوّغوا به عمليَّة احتلال العراق وتفكيكه كان هذا –في نظرهم- جزءًا من حق الدولة الحاملة للشعلة الحضاريّة في أن تفرض ما تظن أنّه قد يؤدي إلى التقدُّم والديمقراطيّة. ولو قبل إنضاج الوعي على الديمقراطيّة، وقبل إقامة أي من مؤسّساتها وبعد إبادة مئآت الألوف من ذلك الشعب.
أما (المنهج القرآنيّ) في الاستيعاب فإنَّه يحدِّد مواطن الانحراف والباطل والخطأ، ويفتح الطرق لتصويبها، ويستحيي في الإنسان قدرته وإرادته وفاعليّته للقيام بذلك التصويب.
إن الحائط الإسرائيلي اليوم –الذي يدور الجدل حوله- قد بني- قبله- حائط عقائدي وأيديولوجي جعل منه تعبيرًا صارخًا عن أيديولوجية المجتمع المغلق العاجز عن الاستيعاب، والردّة الأمريكيّة باحتلال بلاد الآخرين بدلاً من عرض التجربة عليهم في مشاريع سلميّة تنويريّة تمثّل انكفاءً نحو المجتمع المغلق،الذي لا يرى في الآخرين أكثر من حيوانات تجارب.
وكذلك تلك الأصوات التي تتعالى في أمريكا وأوربا بخطر الهجرة والمهاجرين وضرورة تغيير تلك القوانين المتساهلة في الهجرة ما هي إلا دعوة لتكريس النسق المنغلق، وإعلان لفشل تلك الأنساق وعجزها عن الاستيعاب والانكفاء على الذات. والبحث عن وسائل لتكريس النزعات القائمة على المركزيّة، وتكريس ثنائية «الذات والآخر» مما يفتح الباب واسعًا لإنماء عوامل الصراع، وتقليل فرص السلام بين البشر. وتبدو الأرض آنذاك غير كافية لأهلها، وتبدو مواردها قاصرة عن تلبية حاجات سكانها: فيعمد القادة والمفكرون الضالّون إلى التفتيش عن تلك المخاوف وتكريسها، والتشريع لها.