د.طه جابر العلواني
يقول الله -تبارك وتعالى- في كتابه العزيز: ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ (المائدة:32)، فالقاتل حينما يقتل نفسًا واحدة فإنَّ في ذلك مؤشر على أنَّه يحمل رغبة في «قتل الحياة»، وكأنَّ ما استطاع تنفيذه من رغبته هو قتل تلك النفس، لكنَّ اتجاهاته النفسيَّة وطبيعته تدل على استهانته بالحياة الإنسانيَّة وإقباله على تدميرها واستعداده للقضاء على الناس جميعًا لو استطاع، فتصبح عمليَّة قتل الفرد أو إحيائه رمزًا لاستعداد إجراميّ خطير جدًّا. وكمثل ذلك يُقال فيـمَنْ هتك عرضًا أو كشف سترًا، فضروريَّات الإنسان الخمس: «العرض والنفس والعقل والمال والدين»، تندرج كلها تحت مقومات ومكونات الشخصيَّة الإنسانيَّة، فلا بد من المحافظة عليها، وليس لأحدٍ من حق في الاستهانة بعرض أحد، أو الاعتداء على ذلك العرض، ولو بالكلام؛ كأن يقذف إنسان آخر بما يسيء إلى عرضه، حتى لو على سبيل الغمز والّلمز والإشارة، فتلك أمور كلها واجبة الحفظ واجبة الصيانة، وحفظها وصيانتها أعلى وأهم حقوق الإنسان.
لقد استهانت قوات التحالف في العراق وفي أفغانستان وفي باكستان بأعراض الناس وضروريّاتهم الأخرى، وشهدت هذه البلدان المنكوبة انتهاكات لم تعتد عليها، أو كانت تنظر إليها باعتبارها انتهاكات شاذة لا تُقبل بأي حال من الأحوال، ومن أي وعاء صدرت. وشهد سجن «أبي غريب» في العراق انتهاكات مثل هذه. وأذكر أنَّ دعوى رُفعت في الولايات المتحدة من قِبَل بعض المناصرين لحقوق الإنسان ضد اعتقال الأطفال والنساء وضد الاعتداءات الجنسيَّة عليهم، وعُدَّ أمر كشف الحجاب عن المرأة المحجبة -آنذاك- اعتداء على العرض وتحرشًا جنسيّـًا خطيرًا وفقًا لتقاليد البلد، وصدرت وقتها عقوبات دفعت رئيس الولايات المتحدة إلى إصدار قانون حماية لجنده من المطاردات القانونيّة ضد تصرفاتهم تجاه أهل البلاد المحتلة.
من المعلوم أنَّ مَنْ يحكم العراق منذ سنوات الاحتلال وحتى يومنا هذا -وحتى قبل إعلان سفر القوات الأمريكيَّة التي كانت تقيم في العراق إلى الكويت ووجود قواعدها في المنطقة لتكون جاهزة للعودة في أي وقت ترى ذلك فيه ضروريّـًا- هو «حزب الدعوة الإسلامي»([1])، فهو الحزب الحاكم في العراق، وهو المسيطر على جميع المراكز الأساسيَّة في السلطة، وهو حزب أسّسه الشهيد الصدر للحيلولة دون إقبال الشباب الشيعيّ على الانخراط في جماعة الإخوان المسلمين المعروفة باتجاهها السنيّ السلفيّ في العراق. كما تأسّس حزب فاطميّ وحزب لذوي القمصان الزرق في ذلك الإطار. وكان أكثر ما استغربته ما كان إثر ما نُشر عن اعتداءات تمت ضد أكثر من أربعمائة من حرائر العراق في سجن أبي غريب من قبل سلطات السجن الأمريكيَّة وقتها، حيث صرَّح السيد الربيعي([2]) بتصريحين عجيبين، قال في أولهما: “إنَّ الحكومة العراقيَّة ليست مسؤولة عن هذا السجن أو ما يقع فيه؛ فليس من حقنا أن نتدخل فيها لأنَّها تحت سيطرة القوات الصديقة، وشخصيًّا لا أستطيع الدخول إلى ذلك السجن لأعرف ما يجري فيه”، ثم عاد وصرّح تصريحًا ثانيًا، قال فيه: “لقد سمعت بأنَّ هناك اعتداءات جرت على مئات النساء العراقيَّات في سجن أبي غريب….”، وقال أنَّ الدم قد طفر إلى رأسه لأنَّه عربيّ مسلم لا يقبل الاعتداء على العرض مهما كان، وأنَّه نتيجة لتلك الغيرة الطارئة التي دفعت بالدم إلى رأسه زار السجن فاكتشف أنَّه لا يوجد في السجن أكثر من ستة نسوة كلهن ممن أُلقي عليهن القبض لمساعدة خارجين عن القانون -ولعله يقصد عناصر المقاومة آنذاك- ومع ذلك -والكلام ما يزال للسيد الربيعي- فإنَّه قد تأكد من حسن معاملتهن وعدم وقوع أي اعتداء على شرف أيّ منهن! وكأنّه -حين ذكر العدد الذي اعتبره العدد الحقيقي- ورأى أنَّ الشائعات ذكرت أنَّ السجينات في أبي غريب كن يتجاوزن الستمائة، وأنَّ الاعتداءات على العرض شملتهن جميعًا أو أكثرهن، كأنّه حاول أن يخفف الامر بأنَّهن لم يكن أكثر من ستة! ونسي الداعية المنسوب لحزب الدعوة -أو تناسى- أنَّ الاعتداء على واحدة كالاعتداء على نساء الأرض كلهن، والاستهانة بعرض واحد تمثِّل استهانة بالعرض، بما فيه عرض سيادته.
وقد لاحظنا أنَّ هذا الاتجاه -اتجاه النظر باستهانة إلى الجريمة إذا ما وقعت تجاه فرد- قد صار شبه سائد، فكثيرًا ما تحدث اعتداءات على سيدة، فيُقال: إنَّها لم تكن إلا واحدة، ثم توجّه الطعون إلى تلك الواحدة بأنَّها لم تكن مستقيمة، أو أنَّها استدرجت البوليس أو جهات التحقيق إلى الاعتداء عليها، فلم يجد المساكين من رجال البوليس أو التحقيق بُدًّا من الدفاع عن أنفسهم بالاعتداء عليها، وإسماعها شتى العبارات القذرة، وربما لمس مواضع من جسمها أو تعريتها أو ما إلى ذلك من اعتداءات! ولعمري إنَّ ذلك لا يخفف من جريمة المجرم؛ سواء أكان من حزب الدعوة أو من حزب الخنازير أو من أي حزب آخر، ولقد رأينا جنودًا إسرائليّين تشتد بعض أخواتنا الفلسطينيَّات في مقاومتهم، وقد تقوم سيدات فلسطينيات بضرب بعض الجنود وشتمهم والبصاق عليهم، وفي كثير من الأحيان كنَّا نرى الجنود ينسحبون من أمام السيدات؛ لا لأنَّهم أخيار ولكن ليُروا العالم أنَّهم أناس متحضرون يعذرون هؤلاء النسوة اللواتي غضبن لاعتقال أزواجهن أو أبنائهن أو هُدمت بيوتهن، فلِمَ يتناسى مسلمون ودعاة وأمثالهم هذه القيم؟! ووقد يمتد الأمر فتُتهم المعتدى عليها بأنَّها لم تكن ذات سلوك حسن، فكأنَّهم يقتلونها مرتين؛ مرة بالاعتداء المباشر عليها، ومرة بسلبها شرف تحمل المكروه، وحقيقة كونها حيَّة… إذا كان ثمّة ما يسمى في بلداننا باحترام الضحيَّة وردّ الحقوق إليها.
أمَّا الأمريكان في «أبي غريب» فإنَّ الجنديّ منهم يُربى على أن مهمتك القتل، وأنَّك إن لم تقتل فستُقتل، وأنَّ البلد الذي تذهب إليه كل مَنْ فيه معاد لك، ولا صديق لك إلا سلاحك وضباطك وجنودك في وحدتك نفسها. وقد اطلعت على كثير من المقابلات التي جرت لجنود عملوا في ڤيتنام والعراق وأفغانستان، وأذكر أنَّ أحدهم سُئل في مقابلة من هذه المقابلات عن شعوره في اليوم الذي يقتل فيه واحدًا أو اثنين، وهل يستطيع الأكل والشرب والنوم بشكل عادي؟ فتضاحك بهستريا ليقول للمعلق بعد أن فرغ من ضحكته المجنونة فيقول إنَّه كان في بعض الأحيان لا يجد طاولة يضع طعامه عليها فيسحب جثتين أو ثلاثة من جثث القتلى حوله؛ ليضع عليها صينيَّة طعامه ويأكل مستلذًّا ومستمتعًا بذلك. ولمّا سألته المذيعة: وكيف تستسيغ ذلك؟ قال: لأنَّني عُلِّمت ودُرِّبت على أنَّه إمَّا أنا أو هو، وأنَّني بما دمت حيًّا فأنا الغالب المنتصر وهو قد انتهى وصار لا شيء.
إنَّ مَنْ يُربون على هذه المشاعر من الصعب أن نجد ألفاظًا أو عبارات يمكن أن نستخدمها في بيان لومنا لهم أو احتقارنا لما يفعلون، ولكن حين يكون الإنسان يُنسب إلى الإسلام، أو يُنسب إلى حزب دعوة وينتمي إليه، ثم يستهين بأعراض الناس أو أرواحهم أو أموالهم وينشر الفساد في الأرض فإنَّ ذلك أمر يجب أن يستوقف الباحثين، ويجب أن نبحث عن تفسير للأمر في طرائق تدريب هؤلاء، والأفكار التي وُضعت في أذهانهم وفي القلوب التي تضخ الدم في عروقهم؛ كي نعرف من هؤلاء؟
إنَّ المعتصم العباسيّ حين بلغه وهو في مجلس شرابه -كما ذكر المؤرخون- أنَّ الروم قد اعتدوا على امرأة من نساء المسلمين وضع شيئًا على كأسه، وقال: “لن أُتمّه قبل أن أنتصر لتلك المرأة، وأعود ظافرًا، وأنتقم لهذه المؤمنة من كلاب الروم”، وغزا غزوته الشهيرة وفتح عمُّوريَّة، كبرى حواضر الحدود الروميَّة البيزنطيَّة على حدود الدولة الإسلاميَّة. فمَنْ هم هؤلاء الذين يعتدون اليوم على أعراض الناس ويستهينون بهم؟ وقد يقولون ويقولون عن ضحاياهم ما يريدون، وما هي الدروس التي يتلقونها أثناء تدريباتهم بحيث يتحوّلون إلى أعداء لشعوبهم ومواطنيهم؟
لقد اعتنت كثير من الكليَّات التي تُعِدّ ضباط الشرطة بإنماء قدراتهم في مجال القانون، حتى أصبح ضابط الشرطة يتخرج بشهادتين: شهادة في العلوم الشُرَطيَّة وأخرى في القانون، ويبدو أنَّ ذلك غير كاف، ولا بد من تضمين تلك البرامج دراسات في الأخلاق والفلسفة؛ فلسفة الأخلاق وحقوق الإنسان وضرورة احترامها؛ لتكون أجهزة الشرطة -في كل مكان- في خدمة القيم العليا للأمَّة، وحراسة أعراض وأموال ونساء وأرواح وأديان المواطنين، فهل من مستجيب؟
([1]) تأسس سنة (1957) بقيادة الشهيد محمد باقر الصدر.
([2]) أمين عام مجلس الأمن القوميّ العراقيّ وقت حدوث الاعتداءات المذكورة، ومن أعلام حزب الدعوة وكبار المسؤولين في السلطة وقتها.