د. طه جابر العلواني
عرفت السيد رجب طيب أردوجان وهو ما يزال في بدايات عمله السياسي يوم كان رئيسًا لبلديَّة مدينة استانبول. زرته بناء على دعوة من بعض أصدقائه وأصدقائي من الأساتذة في مكتبه، فوجدتني أمام رجل ذي تواضع جم وحياء كبير، لا يكاد يجلس على كرسيه إلا ليوقّع أوراقًا، ثم يقوم ليعطي توجيهاته هنا وهناك في كل ما يتعلق ببلديَّة استانبول وما يجري فيها. وكان يشعر وهو مجرد رئيس لبلديَّة استانبول كأنَّه مسؤول عن التراث الإسلامي كله والتراث العثماني خاصة. وقد أدرك صديقي الأستاذ التركي الذي صحبني إلى مكتبه ما يدور في خاطري، فقال: إنَّ صاحبنا من خريجي معاهد الأئمة، وإنَّ كثيرًا من خريجي هذه المعاهد يملكون حسًّا مرتفعًابقضايا الأمَّة، فلا غرابة أن ترى من الرجل ما تراه، فهو يدرك معنى الانتماء إلى الأمَّة ويستطيع أن يشعر وأن يحس بانتمائه إليها وما يتطلبه ذلك الانتماء من جهود.
في تلك المقابلة كان أحد الأشخاص قد أتاه بهديَّة من ثمار الكرز الفاخر، ففتح الرجل الصندوق، ووضعه على مكتبه، ودعا جميع من في مكتبه لتناول تلك الفاكهة. فأكل الرجل وأكلنا، وأخذنا الحديث إلى استانبول وموقعها ومكانتها في كل من الذاكرتين الإسلاميَّة والغربيَّة. وذكرت له ما شعرت به في الزيارة الثالثة لي إلى تلك المدينة العريقة حين قادتني خطاي، وأنا أتمشى في جادة الاستقلال المتفرعة من ميدان تقسيم إلى بيوت خلفيَّة لم أكن أعرف عن طيبعتها شيئًا إلا بعد أن رأيت العديد من السكارى الغربيّين يخرجون من تلك البيوت ذات الأنوار الحمراء الخافتة مترنحين سكارى، مما جعلني أشعر بأنَّ أولئك الزناة وهم يدخلون على خاطئات من بنات البلد، يريدون أن يدنسوا عرض كل مسلم وكل عثماني وكل تركي، ويريدون أن يقولوا لنا هذه المدينة التي اخترتموها لتكون العاصمة الإسلام ومدينة التوقيع على المراسيم والفرمانات التي يصدرها خلفاؤكم، ها نحن قد نجحنا في جعلها ماخورًا نمارس فيها من الرذائل ما نشاء، ولم أجد ما يسعفني وقد استولت عليَّ هذه الأفكار إلا أن أُجهشت بالبكاء شاعرًا بالمهانة وجرح الكرامة لأمَّة أنتمي إليها، كانت ذات يوم ملأ سمع التاريخ وبصره.
استمع أردوجان باهتمام للقصة، ثمّ هز رأسه وبدا عليه التأثر ثم قال: أستطيع أن أقول لك إنَّني منذ تسملت مسؤوليتي عن بلديَّة استانبول، وهذا الإحساس يضغط علي ويجعلني بين حين وآخر أتساءل عن الطريقة التي أستطيع بها وأنا مجرد رئيس بلدية التخلص من هذا العار، ورد كرامة الأمَّة إليها بتطهير استانبول منه. ووجدت أنَّ أفضل طريقة متاحة هو أن أعمل على استتابة الخاطئات وأبعث إليهن من يدعوهن إلى التوبة، وآتي بمن أعرف من الشباب والعمال لأزوجهم من هؤلاء التائبات. وأبشرك بأنَّ الخطة قد نجحت، وبأنَّنا قد استتبنا عددًا كبيرًا منهن، وزوجناهن بشباب مؤمنين يراقبون الله فيهن ويحتسبون عنده أجرهم وثوابهم على حماية هؤلاء الفتيات وإنقاذهن من طريق الرذيلة. وزواج معظمهن _ولله الحمد_ كان ناجحًا لأنَّنا كنا نهيئ المرشحين للزواج منهن بدورات مبسطة، تعينهم على إدراك أنَّهم يقومون بعمل من أفضل أعمال البر على جميع المستويات، وأن زواجهم من هؤلاء الفتيات فيه خدمة لأمتهم واسترداد لكرامتها وإنقاذ لأجيالها، وأنَّ عليهم أن ينسوا ماضيهن، وألاّ يشعروا تلك التائبة أنَّها أقل من سواها، بل على العكس عليهم أن يشعروها أنَّها الأفضل؛ لأنَّ الله –عز وجل: ﴿يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ (البقرة:222) وأنَّ هذه الخاطئة بتوبتها أصبحت حبيبة لله –جل شأنه- مقربة منه، طهرها الله من الرذيلة، وجعلها أهلًا لمودته ومحبته –سبحانه وتعالى- ثم ضحك وقال: إنَّ خصومي السياسيين يعايرونني بأنَّ تائبات استانبول كافَّة قد أعطين أصواتهن لي، وأنَّ فوزي في الانتخابات عائد إلى تأييدهن، وأنا سعيد بذلك لأنَّ ذلك يعني أنَّ هؤلاء الفتيات يعشقن الطهارة، ويمقتن الرذيلة. بل ويمنحن أصواتهن وتأييدهن لمن حاول الأخذ بأيديهن وإعادتهن إلى الطريق السوي.
ترى هل تصلح خطة رئيس بلديَّة استانبول الأسبق لتطهير البلدان الإسلاميَّة من الرذيلة، وإشاعة ثقافة التوبة والاستتابة، ومقاومة ثقافة التعيير أو المعايرة لتكريس الخطأ والخطيئة في عالمنا الإسلامي؟ قضية مطروحة للنقاش.