Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

من عبّارات الموت إلى جسور الحياة

د. طه جابر العلواني

منذ زمن والعبَّارات والمراكب تغرق الآلاف من أبنائنا، خاصّة أبناء شعبنا في مصر. فمن لم يمت قريبًا من الشواطئ الأوروبيَّة في مراكب صغيرة لا يتوافر فيها شرط واحد من شروط الأمان، يموت في عبَّارات قادمة من أراضي المملكة السعوديَّة. أكثر هذه العبارات ينقل حجاجًا أو معتمرين، وبعضها ينقل عمالًا فقراء يضنّون على أنفسهم بقيمة تذكرة الطائرة ليدّخروا ذلك لأبنائهم الذين اغتربوا وغامروا بأنفسهم من أجلهم؛ فأغرقتهم العبَّارات رخيصة التكلفة لينتهي الأمر بهم إلى أن يكونوا طعامًا لأسماك البحر الأحمر. إنّ هذه الخسارة الفادحة لأبنائنا من مصر وغيرها ناتجة عن تغافل وتقصير الإرادة السياسية عن مد شبكات المواصلات والاتصالات بين مصر وجيرانها وبخاصة السعودية والسودان. وإنّ هذا التغافل ناشئ عن جهل بالفرائض الشرعية من ناحية وعن سياسية حماية العدو الإسرائيليّ من ناحية ثانية.

إنَّ مد شبكات المواصلات والاتصالات بين سائر بلدان العالم العربيّ والإسلاميّ هو فريضة شرعيَّة وضرورة حياتيَّة، لا يتهاون فيها عاقل على الإطلاق في أيٍ من هذه البلدان وجاء القرآن الكريم بتوجيهنا إليها حيث قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (الملك:15)، وقال جل شأنه: ﴿وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (الأنبياء:31)، وامتن علينا بتمهيد الأرض ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (النبأ:6). كل هذه الآيات الكريمة جعلت عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- يفهم أنَّ المسلمين مطالبون بتمهيد الطرق وإعطائها حقوقها، وعدم الإساءة إلى حق الطريق وتمهيد السبل، ليتواصل البشر، ويشهدوا منافع لهم ويتبادلوا ما رزقهم الله من الطيّبات. وهذه المسؤوليَّة مسؤوليَّة أمَّة يحملها حكّامها بشكل مباشر، ومد الطرق وتيسير الاتصالات عبادة من حيث كونها تأمينًا للسبل وإماطة أذى من الطريق. وقد أُثر عن عمر_رضي الله عنه_: “لو أنَّ جملًا على شط الفرات زلق فهلك ضياعًا لخشيت أن يسأل عنه عمر لمَ لم يعبّد له الطريق”. إنَّ مفهوم إماطة الأذى عن الطريق وتأمين السبل وحماية حق السفر والترحال وتيسير أسبابه وإحاطته بالأمن يندرج في شعب الإيمان؛ إذ إنَّ أعلى شعب الإيمان: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق. وحين يتحدث الفقهاء عن الاستطاعة في الحج فإنَّ من أهم ما يؤكدون عليه ضرورة تأمين سبل الحج وحمايته من قطّاع الطرق وكل ما من شأنه أن يخيف الحجاج، بل يعتبرون شرط الاستطاعة مفقودًا إذا لم تكن الطرق آمنة. كما عدّ الفقهاء التهديد بالغرق أو التلف أو الاضرار بالنفس أو المال من مسقطات الفرضيَّة في الحج. وهذه المعاني مؤكدة في القرآن بأساليب مختلفة وسياقات قرآنيَّة متنوعة، لا ندري لم تجاهلها المسلمون حتى صارت جميع الطرق المعبّدة في بلدان العالم العربيّ أقل من المسافات المعبّدة في قطر أوربي صغير مثل بلجيكا، أليس ذلك من إضاعة الفرائض ونسيان ما ذكّرنا الله به؟! إنَّ بناء الجسور ومد طرق المواصلات والاتصالات بين البلدان العربيَّة والإسلاميَّة والعالم كله يعتبر من الفرائض التي تتحملها الأمَّة، ولا تنجو الأمَّة من الإثم ولا تسقط عنها المسؤوليَّة إلا إذا قامت به.

إنَّ الاقتصاد المصريّ والعمالة المصريَّة والفلّاح المصريّ أحوج ما يكونون إلى توثيق الصلات ومد شبكات المواصلات والاتصالات بين مصر والسودان التي تمثّل عمقًا استراتيجيًّا لمصر. وحينما يكتب المحلّلون في أسباب خسارة مصر للسودان وخسارة السودان لنفسه والتمزق الذي حل به، فإنّهم لا يتحدثون عن الاتصالات والمواصلات إلا في حدود ضيقة. وإنّني على يقين لو أنَّ مصر والسودان -منذ أن كانتا تحت عرش واحد بحيث كان يدعى الملك المصري بملك مصر والسودان- ارتبطتا فيما بينهما بشبكة من المواصلات والاتصالات النهريَّة والبريَّة والسكك الحديديَّة والخطوط الجويَّة؛ بحيث يكون بينهما مثل ما يكون بين بلدان قطر واحد من الاتصالات الوثيقة؛ لما بلغت السودان هذا الحد من التمزق، ولما بلغت التهديدات لمصر وللسودان في مياه النيل الحد الذي بلغته.

ومنذ فترة زمنية قصيرة، أرادت المملكة السعوديَّة أن تبني جسرًا يربط بينها وبين الأراضي المصريَّة على غرار ما فعلته مع جارتها البحرين فجعلت من السفر إلى البحرين والعودة منها متعة للبحرينيّين والسعوديّين وللقاطنيين في البلدين؛ فعرضت هذه الفكرة على الرئيس المصري المخلوع فرحب بها في البداية. وتمّ الاتفاق على موعد وضع الحجر الأساس في الثلث الأول من مايو 2007م، وذلك بأن يقوم الملك عبد الله بوضع الحجر الأساس في الجسر من ناحية تبوك في المملكة العربيَّة السعوديَّة في حين يقوم الرئيس المخلوع بوضع الحجر الأساس من الناحية المصريَّة. ولكن وقبل أن يتم ذلك بأربعة أيام أو خمسة، اجتاحت الشائعات العالم بأنَّ هناك آثار مصريَّة قديمة في المنطقة التي سيبنى الجسر عليها من الجانب المصريّ، وأنَّ هذه الآثار أثمن من الجسر وما يترتب عليه من فوائد، ومعلوم أنَّ إدارات الآثار لا علم لها بوجود مناطق أثريَّة في ذلك الموقع، ولكن يبدو أنَّ إسرائيل([1]) التي تستشعر الخطر من أي توثيق للصلات بين أي قطرين من الأقطار العربيَّة أطلقت تلك الشائعات لتدفع الجانب المصريّ إلى التردّد في بناء ذلك الجسر، وتعطيه المسوغ الذي يمكنه الاحتجاج به ليرفض الفكرة من أساسها. ويبدو أنَّ الشائعات لم تؤت ثمارها أمام التصميم السعوديّ، فخرج الملك عبد الله (أبو متعب) إلى تبوك وتهيأ لوضع الحجر الأساس. فقيل: إنَّه جرت اتصالات عاجلة على مستوى عال مع الرئيس المخلوع من قبل الجارة إسرائيل، وأنَّ الطرف الإسرائيليّ قد أكد للرئيس المخلوع خطورة هذا الأمر على أمن إسرائيل، ونبهته إلى أنّ إغلاق عبد الناصر لمضايق تيران كان السبب المباشر لقيام حرب (5 حزيران 1967)، وأنَّه لا يستبعد أن تجد الحكومة الإسرائيليَّة نفسها مضطرة إلى خوض حرب أخرى ضد هذا الجسر وإسقاط هذا المشروع. فلما جاء الموعد المقرر لوضع حجر الأساس كان (أبو متعب) متجهًا نحو ساحة الاحتفال لوضع الحجر الأساس من ناحية الأراضي السعوديَّة في تبوك متوقعًا أنَّ الرئيس المخلوع سوف يقابله على الأراضي المصريَّة ويبدأ تنفيذ المشروع الذي كان يحتاج إلى ثلاث سنوات لإتمامه وإنجازه. فإذا بالرئيس المخلوع يقبع في استراحته في شرم الشيخ ويعتذر عن الخروج ويقول لمن حوله: إنَّه لا فكرة عنده عن هذا المشروع! وتوقف الأمر، ووقف الإعلام المصريّ والعربيّ موقف الشيطان الأخرس، ساكتًا عن الحق. لكنَّ الرئيس المخلوع عاد في مقابلة صحفيَّة ليقول: “إنّه لن يسمح بإقامة جسر فوق مدخل خليج العقبة يربط بين مصر والسعوديَّة، مشدّدًا على أنَّ من شأن الجسر الإضرار بالسياحة والهدوء والأمن بمدينة شرم الشيخ، وقال: أرفض تمامًا إقامة الجسر أو أن يخترق مدينة شرم الشيخ وهذا مبدأ.”

إنّ بناء جسر يربط بين مصر والسعودية، لا يحقق فوائد ومصالح لمصر فقط، بل لبلدان شمال إفريقيا كلها وللبلدان العربيَّة والمسلمة في آسيا. فبالإضافة إلى اختصار المسافات والزمن في الانتقال؛ وتحقيق الأمان في انتقال المصريّين  للحج أو للعمل، فإنّه سيفسح المجال للتعاون الاقتصاديّ بين الرياض والقاهرة، بل وبين القارتين الأفريقيَّة والآسيويَّة بسهولة ويسر؛ كما سيصبح ممرا لكل دول الخليج العابرة إلى دول شمال أفريقيا، وسيحقق فوائد سياحية جمة لسيناء، ومنتجعاتها السياحية  التي ييقبل عليه سياح الخليج. إنّ تجاوز كل هذه المصالح المصريَّة العربيَّة لإرضاء الجانب الإسرائيليّ وإبقاء خطر غرق الحجاج والمعتمرين والعمَّال المصريين في مياه البحر الأحمر، يُعد من الجرائم الكبرى ضد مصر وشعبها فلم لم تشتمل لائحة الاتهام للرئيس المخلوع على هذه القضيَّة الخطيرة؟ سؤال لا أجد له جوابًا.

أتمنّى على المسؤولين في مصر والشعب المصريّ بكامل أطيافه أن يبادرا معًا إلى مفاتحة السعوديَّة من جديد والبدء بتنفيذ هذا المشروع الضروريّ لاقتصاد مصر ولأبناء مصر، ولإيجاد التواصل بين شرق العالم العربيّ الإسلاميّ وغربه، ومواصلة عصام شرف جهوده في هذا السبيل. أمّا إسرائيل فإنّ الأمر لا يعنيها إذا كانت تريد أن تكون بالفعل جزءًا من الشرق الأوسط الكبير كما قال رئيسها بيريز، ولا تريد أن تكون مالكًا مطلقًا له. كما أتمنى على النائب العام أن يضيف إلى لائحة اتهامات الرئيس المخلوع اتهامه بعرقلة هذا المشروع الضروريّ الحيويّ لمصر بل وللعالم كله، فهذا المشروع في عصرنا هذا لا يقل أهمية عن مشروع قناة السويس في وقته، فلِمَ يجهض؟! ومن المسؤول؟!

[1] حيث أعرب موقع «ديبكا»، التابع للاستخبارات الإسرائيلية، عن مخاوفه إزاء مشروع إنشاء الجسر، معتبراً أنه ستكون له عواقب وخيمة على الأوضاع الاقتصادية والاستراتيجية والعسكرية والجيولوجية لإسرائيل. ولمّح إلى إمكان تفجر صراع مسلح على خلفية هذا المشروع الضخم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *