د. طه جابر العلواني
إن الأفكار كالأقوال والأرزاق قدرها الله –سبحانه وتعالى- الذي قدر في الأرض أقواتها وقدر للإنسان الأفكار.
وقد وصف القرآن المجيد بالمكنون؛ ففي المكنون إشارة إلى أن النص قد اشتمل على معان كثيرة تتكشف هذه المعاني مع الزمان، فهناك معان أكنها القرآن المجيد لتظهر في وقت لاحق تكون البشرية قادرة فيه على معرفتها والاستفادة بها. ولذلك كان الصحابة الكرام حين يتذاكرون القرآن فقد يتحدثون بتفصيل عن معان للآيات الكريمة لها وجود في عصرهم أو في إطار طقسهم المعرفي وأسباب النزول قد تكون من العوامل المشجعة على هذا النوع من الفهم فيقال هذه الآية نزلت في بني فلان أو نزلت في معالجة الواقعة الفلانية أو ما شاكل ذلك.
وقد يتساءلون عن آيات لم يستطيعوا أن يصلوا إلى معانيها، فيقول بعضهم لبعض هذه مما لم يأت تأويله بعد، أي لم يظهر وجوده الواقعي في حياة الناس فإذا سلمنا بهذه الفرضية وهي أن الأفكار أرزاق مثل الأقوال. وهي أرزاق مقدرة فقد يساعدنا هذا في تجريد الأفكار عن الأشخاص من ناحية ويجعل الأفكار كالأرزاق أمورًا لابد من السعي الإنساني للوصول إليها، وبذل الإنسان جهده للحصول عليها، فكون الأفكار أقدارًا مقدرة لا ينفي أثر الجهد الإنساني للوصول إليها والكشف عنها، وأن الوصول إلى الأفكار والحصول عليها يتوقفان على مدى جهد الإنسان وما يبذله ومؤهلاته وقدراته الإدراكية وذلك نصيبه الذي يستحق عليه الثناء أو الذنب أو الاتهام بالتقصير في مجال الأفكار فلا تقود الأفكار إنشاءًا إنسانيًا بشكل كامل بل تكون موجودة منفصلة عن ذاته مثل ذرات الأثير في في الهواء وبسعيه وجهده يصل إليها إذا كانت مهيئة للظهور في واقع وزمان ومكان وظروف ترتبط بها وتستجيب لحاجاتها يعني أن تكون هناك لحظات تاريخية لظهور الفكرة. ومن هنا نستطيع الاتفاق مع المفكر الجزائري مالك بن نبي –يرحمه الله- الذي قسم الأفكار إلى أقسام منها الميت والمميت والقاتل ومنها الأفكار الحية التي تقوم بها وعليها الحياة.
وهناك أفكار قد تبلغ درجة الاستحسان لها مبلغًا يجعل من قال بها يراها وكأنها إلهام غيبي خارجي لشدة الاهتمام بها وبعضهم يراها نوعًا أرقى من ذلك ويصفها بما يصفها به لأن ذلك يريح من عناء البحث عن أصولها وأنسابها وتاريخ ظهورها … وما إلى ذلك.
ولعلاقة ظهور الأفكار بالزمان والمكان وحاجات الإنسان وأنماط تفكيره ومناهجه في التفكير فقد تختلف هذه الأفكار إلى درجة التنافر والتضارب. وقد يكون الأولى البحث عن جذور الأفكار بدلاً من البحث عن أنسابها فالبحث عن جذور الأفكار بحث يقتضي تحليل الفكرة تحليلاً جيدًا أو الإحاطة بمكوناتها ومقوماتها وعناصرها والكشف عن علاقاتها وارتباطاتها ثم الذهاب بها إلى العصور السابقة إن كان ذلك في إطار البحث الممكن؛ وذلك لمعرفة الفكرة وتاريخ ولادتها أو ذيوعها وانتشارها والبيئة التي تولدت فيها إذ إنّ هذا النوع من البحث الدقيق في عالم الأفكار سوف يقدم الكثير لحملة الهمّ الفكري في مجال تطوير الأفكار وإثرائها وتخصيبها والتوليد فيها بشكل يجعل عالم الفكر حيًا متحركًا يتطور في إطار المدارس والجماعات العلمية أكثر من ارتباطه بأفراد وأشخاص. كما إنّ التعبير عن الأفكار بعبارات مختلفة يصبح آنذاك أقرب إلى محاولات التعليم والإفهام منه إلى محاولة تشخيص الأفكار وربطها بهذا الفرد أو ذاك.
كذلك تشتد الحاجة إلى عمليات تأصيل لمناهج التفكير والتمييز بينها، فصلات مناهج التفسير ذو أثر لا ينكر في تحديث حقائق الأفكار وصورها فضلاً عن إيجاد وسائل التفاعل معها والانفعال بها وما إلى ذلك. إن العقم الذي يشكو الجميع منه في عالم الأفكار خاصة في العالم الإسلامي والمحيط الإسلامي ناجم ولاشك عن افتقاد المنهج أو المناهج المتصلة بعالم الأفكار وعدم القدرة على تفعيل الموجود منها بحيث يكون منتجًا على سبيل الإنشاء أو على سبيل التوليد وما لم يتمرد أهل الفكر على التقليد جملة وتفصيلاً فإنه لن تكون هناك إمكانية تذكر لإحداث نهضة أو ثورة فكرية تبني عالم أفكار المسلم من جديد وتصنعه على طريق الإحياء والتجديد والنهوض في السبيل إلى ذلك.