Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

بين الاحتجاج الإيجابيّ والتّفتّت السلبيّ

 د.طه جابر العلواني

لقد عرف عصرنا ما يُسميه الكتَّاب والإعلاميّون ومَنْ إليهم «الحركات الاحتجاجيَّة». يريدون بذلك ما تقوم به بعض الفئات الاجتماعيَّة -من عمال أو فلاحين أو طلاب أو غيرهم- من تنظيم إضراب أو اعتصام أو وقفة احتجاجيَّة تتوقف فيها عن العمل وتُطالب باستحقاقات معيّنة وترفض بقاء الحال على ما هو عليه. وقد حصلت البشريَّة على هذا الحق الذي يُعدّ الآن حقًّا من حقوق الإنسان بعد كفاح طويل. فلكلِّ فئة تشعر بغبن أو ظلم في أجورها أو معاملاتها أو مقادير ساعات العمل الحق أن تحتج على ذلك وتطالب بالتغيير. ولا ينبغي أن تعاقب على ذلك أو تتحمّل مسؤوليَّة إلا إذا صحبت تلك الاحتجاجات أعمال عنف أدّت إلى الإضرار بممتلكات عامَّة أو خاصة أو بأشخاص حقيقيين أو اعتباريّين.

إنّ التحركات الاحتجاجيَّة في مصر قد كثرت بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير، وما تزال تتوالد وتتكاثر. والذي نود أن ننبّه إليه أنَّ البلاد في حاجة إلى الهدوء والاستقرار والسماح بتسيير الأعمال وقيام كل مواطن بواجبه، فإنَّ الثَّائر لا يستمر ثائرًا إلى الأبد، بل يثور لإحداث التغيير وإفساح الطريق للتغييرات الأخرى التي تحتاج إلى وقت وإعداد ومال ومؤسَّسات. وقد أيَّد الشيخ الشعراوي هذا بقوله: “قد يثور المدنيُّون لكي يُنهوا فسادًا، وآفة الثَّائر من البشر شيء واحد: أنَّ الثَّائر يظلُّ ثائرًا، ولكن الثائر الحق هو الذي يثور ليهدم الفساد ثم يهدأ ليبني الأمجاد”. ولقد فتحت الثَّورة طريق التغيير، ووضعت المواطنين كافَّة؛ سواء أكانوا عسكريّين أو مدنيّين، شبابًا أو شيبًا أمام مسؤوليَّاتهم؛ ليكملوا المشوار ويحقِّقوا عمليَّة البناء، ويجدِّدوا ما بلي، ويُصلحوا ما فسد.

الاحتجاج الإيجابي

إنّ الفئات والتحركات الفئوية التي غمرت البلاد طولاً وعرضًا في تونس وفي مصر هي محاولة للحصول على مكاسب الثورة لصالح الفئة التي ينتمي إليها هذا أو ذاك، كالسَّائقين وعمَّال السِّكة الحديد والغزل والنسيج والمعلِّمين والأطباء ومَنْ إليهم؛ لأنَّه ما من فئة قد نالت من العدالة نصيبًا في ظل الاستبداد والاستيلاب، فالاستبداد لا ينجح في توزيع عادل إلا في توزيع الظلم على سائر الفئات والنيل منها بالاستلاب ومصادرة الحريَّات كافَّة؛ ولذلك لاحظنا أنَّ سائر الفئات على وجه التقريب قد مارست اعتصامات وإضرابات ووقفات احتجاجيَّة لتعبّر عن مظلوميّتها وحاجتها إلى الإنصاف، ولخوفها من أنَّ الدخول إلى الاستقرار قبل أن تثبت حقوقها قد لا يُعطيها فرصة أخرى للتعبير عن تلك الاحتياجات، وقد تُحرم حقوقها لعقود قادمة ويتكرر معها ما حدث. فهذه وقفات احتجاجيَّة أو تظاهرات واعية محدودة منظّمة لا تعدو أن تكون تعبيرًا واعيًا عن التَّهميش الذي أصاب تلك الفئة في العهد السابق، وعن رغبتها في أن تحتاط ويُحتاط لها بعدم تكرار عمليَّات التهميش والإقصاء وبتلبية الحقوق وتحديد الواجبات بدقة، لأنَّه إذا لم يحدث ذلك فقد لا تحصل عليه بعد الانتخابات وإعادة بناء الدولة من جديد.

مفهوم التفتت ومسبباته

وأمَّا «التفتّت» و«التفتيت» فهما من تحطيم وتكسير أجسام كبيرة وتحويلها إلى قطع صغيرة، وأكثر ما يُستعمل في الصخور وما إليها، يُقال: “فتت الحجر” أو “…الصخرة” يريدون كسَّره وحطّمه وحوّله من كتلة ضخمة إلى قطع صغيرة. وقد يُستعار للأمور المعنويَّة، فيُقال: “فتت الجماعة” أو “… الفئة” أو “… الحزب”؛ أي: فرّق كلمتهم بعد أن كانت واحدة، ومُزّق جمعهم وأصبحوا كـ«الفتات أو الفتيت»، وهو ما يُستعمل في تقطيع أرغفة الخبز من رغيف كامل إلى قطع صغيرة بقصد الأكل.

إنَّ أخطر تحدٍّ يواجه ثورات –مثل الثورة التي قامت في تونس ومصر وما تزال قائمة في اليمن وسوريا- هو عمليَّة التشرذم والتَّفرُّق واختلاف الكلمة؛ ذلك لأنَّ الاستبداد والقمع قد ترك آثاره السلبيَّة وبصماته الانحرافيَّة على كل جانب من جوانب الحياة، وسَلَب الناس فاعليَّتهم، وصادر الإرادة من قلوبهم، واستلبهم، ليكونوا مجرَّد (ROBOT) يتحرك بأداة (REMOTE CONTROL) ويملك القدرة على التَّلاعب بأزرارها شخص واحد هو الحاكم المستبدّ أو الفرد. وحين يزول ذلك الحاكم المستبدّ أو الفرد ويطمئن المستلَبون إلى زواله تبدأ دفقات من الرغبة في التأكد من بقايا الإرادة لدى كل إنسان، وإلى أنَّه رغم طول فترة الاستلاب والاستبداد ما يزال الأفراد يمتلكون بقايا فاعليّة وبقايا إرادة، فيقومون بما يشبه حركة طفل عندما يبدأ المشي فيحاول اختبار قدرات رجليه، فيقف، فإذا ارتعشت رجلاه هبط إلى الأرض وربما ضحك وأضحك من حوله لكي لا يُظن أنّه قد فشل، ثم يكرر المحاولة ثانية وثالثة، حتى إذا سار عدة خطوات بعد ذلك فرح وسعد وأحس بالإنجاز وفرح به أهله.

 مخاطرالتفتت السلبي وأمثلته

إنَّ الوعي -الذي أشرنا إليه- إن لم يحكم هذه المحاولات الفئويَّة، فإنّها سوف تنتقل من حالة فئويَّة إيجابيَّة، تطالب بالحقوق المشتركة للمواطنين كافَّة، وتنبّه إلى أهميّتها بالنسبة للمجتمع ونُظمه كي ينصفها ولا يسمح بتهميشها إلى حالة سلبيَّة خطرة هي حالة «التفتت». وهي الحالة التي تترتب على ضعف الوعي أو اندساس مندسين، أو وجود عدوّ خارجيّ يتربص بالبلاد. ولدينا نموذج العراق، الذي هدفت أمريكا من احتلاله وإزالة نظام صدَّام وإحلال أصدقائها محلّه إلى إرساء نموذج ديمقراطي يمسح من الذاكرة التاريخيَّة لدى العرب والمسلمين كل آثار الاستعمار السيئة والسلبيَّة، ويُرسي دعائم علاقة جديدة مع المستعمرين الجدد تقوم على ما يشبه الشراكة في ظاهرها. ولكن يستحيل أن تقوم شراكة بين الذئب والغنم بأي حال من الأحوال. ومع كل الضمانات التي قدَّمتها أمريكا، فإنَّ غزوها للعراق قد مهّد لتحويله من القسمة الكبيرة الأوليَّة إلى الأقاليم: «إقليم شمالي: كردستان»، و«إقليم جنوبي: شيعستان»، و«إقليم جنوب غربي: أنبارستان» حيث بدأت عمليّات تفتيت تلك الأقاليم وتفكيكها؛ فكردستان اليوم مثل شيعستان وأنبارستان، كل منها تمرّ بحالات تفتّت خطيرة، بحيث بدأت محافظات عراقيَّة كثيرة تعلن ما يشبه الاستقلال عن المركز في بغداد وعن الإقليم ومراكز الإقليم، ولا يدري أحد كيف يمكن إيقاف حالة التفتت هذه. فالتفتت يوجد مصالح جديدة صغرى للقائمين على تلك المحافظات، يجعلهم يحثّون الخطى نحو الانفصال والتشرذم، وربما تشهد تلك المحافظات صراعات من نوع جديد، وهذا ما نتمنى ألا يقع مثله في أي بلد عربيّ أو إسلاميّ آخر.

إنَّ الأخبار التي جاءت بعد الانتخابات التونسيَّة عن الاضطرابات التي حصلت في مدينة المنطلق «سيدي بو زيد» -التي انطلقت منها الشرارة الأولى- والأصوات التي تعالت بين المتظاهرين الذين أحرقوا كثيرًا من مكاتب الولاية والسيارات وما إليها من الأملاك العامة، وحجّتهم في ذلك كله أنَّ «سيدي بو زيد» هي التي حرّرت تونس وأطلقت الطاقات المكبوتة كلها في العالم العربي، ولكن ما تزال مهمَّشة ولم تحصل على ما يظن أولئك أنَّها يجب أن تحصل عليه، فانطلقوا بذلك الشكل الذي شهدناه في الأسبوع الماضي.

بناء على ما سبق، فلا بد من ضبط إيقاع تحركّات الوقفات الاحتجاجيَّة والتظاهرات والاعتصامات، وإيجاد نوع أو منظومة متكاملة على مستوى الوطن الكبير؛ كي تمنع تلك الوقفات الاحتجاجيَّة أو المظاهرات أو الاعتصامات من أن تشكِّل محاور خاصَّة بها تدور حولها، وتنسى الهدف الجامع الذي لن يتحقَّق إلا بمعالجة مشكلات الوطن كله دون استثناء، وبروح واحدة لا تتحكم فيها الفئويَّة بأيِّ شكل من الأشكال.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *