Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

نظرات في تاريخ بناء الأمة

د.طه جابر العلواني

بدأ الاختلاف  السياسي في تاريخ الأمة -بشكل صارخ- في حوارات السقيفة -إن صحّت روايات المؤرخين وأصحاب السير لها- ثم تلاها الاختلاف حول “الإمامة” وقيادة الأمَّة الَّذِي حاول الشيعة حسمه بالتأكيد على أنّ إمامة الأمّة هِيَ أمر وشأن إلهيّ لا يثبت إلا بالنص، وجعلوا من حديث الغدير –غدير خم- أصلًا أعلوه على كل أصل؛ ليستدلّوا به على أنَّ الإمامة هِيَ شأن دينيّ كالنبوة، لا يمكن أن تثبت إلا بالنص!! ثم اختلفوا فيما بينهم، فمذهب الإماميّة لتحديد اثني عشر إمامًا، بدأ من علي ثم بنيه، وانتهاءً بالإمام الثاني عشر وهو المهدي عندهم الَّذِي غاب منذ العصر العباسيّ غيبته الكبرى، واختفى في جبل رضوى في الشام، يعيش على العسل الجبليّ والماء إلى أن يأذن الله له بالظهور -حسب مذهبهم- ليملأ الأرض عدلًا بعد أن مُلئت جورًا. وحين رأوا أنّ الأمر قد طال عليهم، وأنَّهم منذ قرون يُحكمون بسلطان مخالفيهم، فيضطهدونهم ويؤذونهم، ابتكر بعضهم مبدأ «ولاية الفقيه»؛ ليكون الفقيه الوليّ نائبًا عن المهدي في غيابه، يقوم مقامه في إقامة الدولة الشيعيّة وقيادتها، وعندما يظهر ويخرج من مخبئه ويعود من غيبته يُسلّم «الولي الفقيه» الإمامة والقيادة له؛ ولذلك فإنّ كثيرًا من علماء الشيعة الكبار خالفوا الخميني وغيره -من القائلين بـ«ـولاية الفقيه» ونبذ التقيّة والانخراط في الثورات وأعمال العنف وما إليها- لأنّ ذلك هُوَ الَّذِي يمهد لظهور المهدي لديهم ولا يتعارض مع الإيمان به وضرورة انتظاره.

 أمّا على الجانب السنّيّ، الَّذِي كان يرى أنّ الحكم شأن دنيويّ يعود إلى اختيار الناس وبيعتهم على أن ينضبط بضوابط الشرع وقيمه، فقد كانت الخلافة الراشدة -التي استمرت في خلافة أبي بكر وعمر وست سنوات من خلافة عثمان- نموذجًا جيّدًا، لكنّها سرعان مَا عجزت عن استيعاب القوى الجديدة التي دخلت الإسلام. العجز الذي بدا في ذلك الصراع الَّذِي أدى إلى قتل سيدنا عثمان بشكل بشع، ثم اغتيال سيدنا علي، وفتح مسلسل العنف والانقلابات والثورات. وقد قاد داهية الأمويّين معاوية بن أبي سفيان انقلابًا قبائليًّا، موظِّفًا جميع الظروف التي ترتبت على اغتيال الخليفة الثالث عثمان وقتله، فكان ذلك الانقلاب انقلابًا حقيقيًّا -في الرؤية والسلطة والمفاهيم- أدى إلى إيجاد تحوّل من «مفهوم الخلافة» إلى «مفهوم السلطة».

إنّ الخلافة مفهومٌ يفرض على خليفة المسلمين أن يترسّم منهاج النبوة في قيادة الناس وطريقة حكمهم والفصل في خصوماتهم، واعتبار «الدعوة» و«الأمّة» هدفين أساسيّين لا يصحّ التحوّل عنهما إلى اتخاذ «الدولة» و«السلطة» و«الفتح» أهدافًا.  فالخلافة على منهاج النبوّة شيء، والسلطة والحكومة والدولة والفتح شيء آخر. ولقد رأى قادة الانقلاب الأمويّ إشغال الأمّة -بالحروب الخارجيّة- عن الدعوة التي هِيَ لباب وجوهر رسالة الأنبياء من إبراهيم إلى مُحَمَّد -عليهم الصلاة والسلام- وأخذوا يدمجون الدعوة بالفتح بمكر ودهاء، ويصوّرون أنّ الفتح سبيل من سبل الدعوة. كما أخذوا يكرّسون الجانب القضائيّ، ويكادون يحصرون التطبيق والتفعيل لكل قيم الإسلام فيه. وجرى تجاهل الجانب السياسيّ ليكون الخليفة أو أمير المؤمنين الأمويّ ثم العباسيّ ثم العثمانيّ حرًّا في قيادة الدولة قيادة كسرويَّة هرقليّة أو قيصريّة، وكما يرى هُوَ ومَنْ حوله المصالح والمفاسد وما إلى ذلك، فحُرمت البشريّة من تلقّي رسالة الإسلام كما جاء بها الأنبياء، وجرى تغيّر في العقليّة والنفسيّة المسلمة لتتقبل كل معطيات ذلك التحوّل!!

إذًا لا بد من إدراك الفروق الدقيقة والعميقة بين خلافة على منهاج النبوّة، ونظام سياسيّ يقوم على مفاهيم «السلطة» و«الحكومة» و«الدولة». ولقد انزوت مفاهيم «الأمّة» مع مفهوم «الخلافة» ومفاهيم «الدعوة» -كما قلنا- ليحلّ محلّها الفتح والحرب وما إلى ذلك، ومع ذلك فإنَّ الدولة الأمويّة -لم تستطع بكل تلك الفتوحات والمغازي والحروب الخارجيّة- أن تقمع أصوات المعارضين في داخل الأمّة، فقامت ثورات عديدة ضدّ انحرافاتها تلك، منها ثورة الإمام الحسين (ت: العاشر من محرم 61ه) وثورة القراء بقيادة عبد الرحمن بن الأشعث (ت:85ه)، وزيد بن علي (ت: 122ه)، ومحمد ذي النفس الزكيّة (ت:145ه)، وغيرهم ممن امتلأ تاريخنا بهم، وانتهت بسقوط الأمويّين سنة (132ه) وقيام العباسيّين الَّذِين كانوا قد أشعلوا كل مشاعر العداء لبني أميّة والولاء لآل البيت، وعندما نجح أَبُو العباس السفاح، وأصبح أول خليفة عباسيّ، متخذًا من الهاشميّة في العراق مقرًّا له سرعان مَا عمل على إبعاد العلويّين والطالبيين، إضافة إلى بقايا الأمويّين، ليستقر الحكم لبني العباس -وحدهم- وظلّ الأمر بأيديهم.  وبقيت الدولة عاجزة عن وضع أيّة آليّة لاستيعاب القوى الجديدة -التي تنشأ في تلك المجتمعات- وتوظيفها في خدمة الأمّة؛ ولذلك فإنَّ تلك القوى كانت تعمل على أن توجد لنفسها قنوات للتعبير والتنفيس وأخذ جزء من القوة -أو الاستيلاء على القوة -كلها- بحيث لم يبقى في نهاية الأمر لخلفاء العباسيّين إلا الدعاء في خطبة الجمعة، وبرزت قوى مثل السلاجقة والبويهيين ومَنْ إليهم. وبقيت الحال تدور -مَا بين سيء وأسوأ- حتى تفرّقت الدولة بعد تفرق الأمّة، وتمزقت، وقامت دولة فاطميّة في مصر ودول أخرى في المغرب، وأصبحت أراضي الأمّة وديارها مطمعًا لكل الغزاة من صليبيّين ثم تتار، إلى أن انتهى ذلك باحتلال بغداد وتفكك الدولة سنة (656هـ).

بعد ذلك، ومن بين كل ذلك الركام، انبثقت قيادة فتيّة هِيَ القيادة العثمانيّة، فأعادت لملمة تلك الأطراف في دولة موحَّدة، استمرت أربعة قرون، ومع هذه الانتصارات التي حقّقتها الدولة العثمانيّة في الخارج، فإنّها لم تستطع أن تمنع الانفجارات الداخليّة، التي أهمها انفجار الأوضاع في إيران، التي كانت حتى القرن الخامس عشر سنيّة، يقودها غزنويّون، فإذا بالصفويّين -ذوي اتجاه متطرف مغالٍ جدًّا، معادٍ ومستعلٍ على جميع المسلمين إلا طائفتهم، يستبيحون دم أيّ مخالف لهم- قد استولوا على إيران وقضوا على القادة السنيّة فيها من الساسة والعلماء، ودخلوا في حروب مع الدولة العثمانيّة ليشغلوها عن الاستمرار في فتح أوروبا، الَّتي كان بعض الخلفاء العثمانيّين يرى أنّه لا يتحقق استقرار الدولة العثمانيّة إلا إذا أخضعت أوروبا لسلطانها وأدخلتها في الإسلام، أو أوصلت الإسلام إليها.

ولم تتوقف حروب الصفويّين ضد العثمانيّين طيلة ثلاثة قرون ونصف، انتهت بتفكّك الدولة العثمانيّة بعد تحالفات استطاعت بريطانيا وفرنسا أن تصل إليها مع العرب ضد الدولة العثمانيّة، فأثارت عرب الجزيرة -بقيادة آل سعود السياسيّة والشيخ مُحَمَّد بن عبد الوهاب الدينيّة- ضد الدولة العثمانيّة. وقد حاول الداهية مُحَمَّد علي أن يستغل الفرصة لإرضاء حاكم اسطنبول، فأرسل ابنه إبراهيم باشا في حملة أنهت الدولة السعوديّة الأولى، وجاءت بقيادات هذه الثورة أسرى إلى القاهرة.

نعتبر انتهاء الدولة العثمانيّة وتفككها وإعلان إلغاء الخلافة في مارس 1924 في برلمانها بقيادة مصطفى أتاتورك نهاية مرحلة تاريخيّة كاملة، لتبدأ مرحلة أخرى هِيَ المرحلة التي خابت فيها آمال العرب وغيرهم من المنتمين إلى الكيان الاجتماعيّ الإسلاميّ، وأقامت فرنسا وبريطانيا -وفقًا لاتفاقيّة سايكس بيكو- تلك الكيانات التي عرفت بالدول القوميّة، والتي لا نزال نعيش في ظلّها حتى يومنا هذا.

فهل نستطيع أن نقول: إنّها إعلان عن نهاية الانطلاقة الإسلاميّة الأولى، وبداية عهد جديد يحتاج إلى رؤية وأساليب عمل مغايرة لما كان عليه الحال فيما مضى؟ أظن أنّنا نستطيع أن نقول ذلك… فما ملامح تلك المرحلة؟

1)     إنّ أوروبا أطلقت على الدولة العثمانيّة أنّها دولة الرجل المريض، وقد خطّطت لتمزيقها بشكل لا يسمح بإقامة أمَّة مسلمة مرة أخرى، وربط الناس بأقاليمهم، وإحداث ردّة جماعيّة توقظ في الناس مشاعر مَا قبل الإسلام وما بعده، ولا تتوقف عنده إلا بشكل عابر، فتعيد المصريّين إلى الفرعونيَّة، والعراقيّين إلى البابليّة، وأهل الشام إلى الفينيقيّة، والمغاربة إلى الجذور الكثيرة القرطاجية وما إليها التي سبقت دخول الإسلام إلى تلك المناطق.

2)     إنّ الدولة القوميّة -التي ولدت فيها الأجيال الجديدة- لم يعرف أبناؤها إلا أوطانهم وأقاليمهم. وقد غذّاهم التعليم والإعلام بتلك الأفكار الإقليميّة، بحيث لم يعودوا قادرين على تصوّر وحدة الأمّة خارج إطار العواطف. وربما يفكرون بتبادل بعض المصالح مع أقطار هي جزء من ديارهم، فحتّى يتمّ  التأسيس لأفكار الوحدة -وحدة الأمّة- والمفاهيم الجامعة وإعادة بناء شبكة العلاقات، بحيث نتمكن من إعادة بناء وحدة الأمّة، لا بدّ من بناء منظومة مفاهيميّة جديدة تهيء هذا الإنسان إلى قبول متطلبات الوحدة، وتحمّل أعبائها، وجني فوائدها بعد ذلك.

3)     إنّ وحدة الأمّة -لو انطلقنا بها من مصر ثم العالم العربيّ من حولها- لوجدنا تحدّيًا كبيرًا يواجهنا، أولًا هُوَ التحدي الَّذِي يتمثّل في الوجود الإسرائيليّ في قلب الديار العربيّة، والذي يرى أنّ أمنه واستقراره لا يمكن أن يُحافظ عليهما إلا بتمزّق العرب وسائر من حولهم من كيانات الأمة. وهناك أمريكا ومصالحها وإصرارها على أن تكون الدولة العالميّة الأولى، وأن تفرض عالميّتها على البحار كلها والمحيطات والأرض والسماء والفضاء، وذلك يشكّل تحديًا آخرًا، ثم هناك المجموعة الأوروبيّة ومَا لها من مصالح تشكّل تحديًّا ثالثًا.

إذًا فهناك تحديّات داخليّة تتمثل في التغيّرات النوعيّة في “الشخصيّة الإسلاميّة” التي تحولت من العقل القرآنيّ البرهانيّ إلى “عقليّة العوام” ومن نفسيّة الشهود الأحرار إلى “نفسيّة العبيد” المهزومة المسحوقة، ومن طبيعة الأمّة الخيّرة الشاهدة الوسط إلى “طبيعة القطيع” وذلك يعني أنّه لابد من بذل جهود هائلة مدروسة ومنهجيّة لإعادة بناء “الشخصيّة الإسلاميّة”. وهناك تحديّات خارجيّة يجب أخذها بنظر الاعتبار عند التفكير بإعادة بناء الأمّة، فهل هذه التحديّات أكبر من التحديّات التي واجهت رسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلّم- من الفرس والروم وقوى أخرى مثل الحبشة وغيرها في العالم القديم. وما المنهج المطلوب الالتزام به لإعادة البناء، بعد دراسة ورصد التحديّات الداخليّة والخارجيّة بدقة ومعرفة تأثيرات كل منها على وحدة هذه الأمّة واجتماع كلمتها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *