د.طه جابر العلواني
تُعدّ مصر -بفضل من الله- كتلةً سكَّانيَّة كبيرة، وشعبًا تربطه روابط عديدة ساعدت على توحيده في مختلف الظروف، فلم يتعرّض للتمزق والتفتت مثل غيره من شعوب الأرض وأقطارها. وتلك نعمة كبيرة لها عوائد ضخمة على وحدة الجماعة والشعب واقتصاديَّاته ونظمه وعلاقاته ونظرة أمم الأرض وشعوبها إليه. والمصريون يدركون أهميَّة هذه الوحدة في حياتهم، بل وضرورتها لهم. وقد عمل الشعب المصري على حماية وحدته هذه وتكريسها ومواجهة شتَّى ظروف التَّفتيت ومحاولاته وعوامله في مختلف العصور، وقد بقيت هذه الوحدة واستمرت وصارت مصدر استقرار وأمن، لا على المستوى القطري وحده، بل على المستوى الإقليمي كذلك.
المرونة والسّعة المصريّة
ثمة ظاهرة نلحظها لدى المصريين، ألا وهي ظاهرة المرونة والسّعة، بحيث يمكنهم إدخال تعديلات ملموسة على أيّ أيدلوجيّة أو رؤية أو مذهب أو معتقد ليكون وسيلة من وسائل دعم وحدتهم بدلاً من تمزيقها. فكأنَّ المصريّ يجعل تلك الظاهرة -في إسلامه ومسيحيَّته ومذهبيَّاته المختلفة، بشكل مقصود أو غير مقصود- عامل توحيد وليس عامل تفتيت،وهو ما حاولت أن تفعله شعوب كثيرة ولكنّها لم تفلح في ذلك.
حين ضغط الحكَّام الفاطميّون على المصريين لتبنّي «مذهب التّشيع»وجدناه قد تبدّى لديهم خلال حب آل البيت إضافة إلى حب الصحابة والعناية بموالدهم والاحتفال بوفياتهم وولاداتهم.وعلى الرغم من المحبة الشعبية الكبيرة لآل البيت، فإنّ الاحتفال بهم لم يحوِ أحزانًا أو لطمًا أو شقًّا للجيوب كما نرى في العراق وإيران وبعض المناطق الشيعيَّة الأخرى؛ فالاحتفالات المصريَّة بآل البيت أو الصَّالحين أو مَنْ إليهم عبارة عن مهرجانات فرح وحبور، يُحوّلها المصريَّون إلى أيام رفاهية، فنجدهم يتناولون «العاشوراء» في ذكرى استشهاد الحسين،ويزورون مراقد آل البيت، ويحتفلون بالإنشاد والتّواشيح وحلقات الذّكر وأشياء كثيرة محبّبة لطيفة عوضًا عن اللَّطم وضرب السلاسل الذي نرى الشيعيّ العراقيّ أو الإيرانيّ يُدمي ظهره وصدره به،بل وقد يموت بعضهم منه.كذلك حين كان«الشيوعي» في كل أنحاء العالم يتنكَّر للأديان وينفي وجودها ويعتبرها أفيونًا للشعوب كنا نعجب حين نرى «مركسيين لينيين» من المصريين و«شيوعيين»-بالمعنى الكامل-يصومون رمضان، ويشاركون أحيانًا في صلوات جمعة أو عيدين. ولا أريد أن أستزيد وأقول أنَّ الراقصة في أي بلد عربيّ أو أجنبيّ تعتبر من الفئات المتحلّلة من الالتزامات الدينيَّة والأخلاقيَّة، لكنَّ الراقصة في مصر قد تُصر على قراءة سورة «يس» قبل أن تعتلي حلبة الرقص، وإذا دخل شهر رمضان فإنَّ معظمهن-الراقصات والفنانات- يعلن توقفهن عن الرقص خلال الشهر الكريم لانشغالهن بالصيام والقيام، كما شهدت «موائد الرحمن» في الشهر الكريم مؤخرًا تبرّعات سخيَّة من كثير من الفنّانات والفنّانين، فبعض الموائد كانت تتسع لألف آكل من الصائمين، ولا يجد الصائم حرجًا في أن يأكل على مائدة الفنانة فلانة ولا تجد الفنانة حرج في أن تقوم بهذا النوع من الخدمة للمجتمع، والبر به في هذا الشهر الكريم.
مؤشرات بداية تغير الشخصية المصرية
إنَّ هذه الظاهرة التي لم ألحظها في أي بلد آخر، كانت تعطيني كثيرًا من الأمل والارتياح والاطمئنان على مستقبل مصر. فالمصري ميَّال للاعتدال بطبيعته، لا يرغب في العنف ولا يميل إليه، ولديه ما يشبه «الفلتر» الدّاخلي للقيامبتعديلات على الأفكار والمعتقدات والأيدلوجيات لتناسبه،ولا يجد في نفسه حاجة لتغيير طبيعته ليناسب الأفكار التي جاءته. لكنَّني بدأت أقلق في الآونة الأخيرة حينما تأثر بعض المصريين بطباع غيرهم ممن خالطوهم، فالحركة السلفيَّة -التي قادتها الدولة السعوديَّة الأولى والثانية في الجزيرة العربيَّة- عُرِفت بالشدة والقوة والتعصب وهدم القبور وتدمير الأضرحة وتكفير المخالف، وفي أقل الأحوال نسبته إلى البدعة، وكان السلفيَّون المصريَّون –وقد كان رمزهم حينما كنا طلابًا الشيخ حامد الفقي يرحمه الله- يردّدون ما يردّده إخوانهم في المملكة السعوديَّة والخليج، لكنَّهم كانوا أقرب إلى سلفيَّة المغرب العربيّ،والتي آلت إلى أن تكون توجّهًا سياسيًّا وتربويًّا وثقافيًّا يعتز بماضي هذه الأمَّة أو بمَنْ يسمّيهم بـ«ـالسلف الصالح» من أبنائها، لكنَّه لا يُكفّر ولا يُبدّع ولا يُفسّق إلا بحساب. من هنا كان من العسير أن تجد ألفاظ التكفير والتبديع والتفسيق دائرة أو متداولة في كتابات سلفيَّي المغرب العربي أمثال الدكتور عبد الهادي أبو طالب وعلال الفاسي وغيرهما.،وكذا كان الحال في سلفيَّة مصر.لكنَّ الاضطهاد الذي صُبّ على الدّعاة والجماعات الإسلاميَّة بعد ثورة يوليو مهَّد لنوع من التوجّهات التكفيريَّة لم تكن طبيعة الشعب المصريّ تتقبّلها قبل تلك المرحلة، لكن-كما قيل- العنف يولِّد العنف، ويغيّر من طبائع الشّعوب ونفسيَّاتها.
فهل تغيّرت النَّفسية المصريّة؟ وهل الظروف التي مرّت بها مصر منذ قيام دولة إسرائيل، والحروب التي فُرضت عليها، وما أصاب نظمها -واقتصادها بصورة خاصة- من آثار سلبيّة نتيجة تلك الحروب قد غيرّت في طبيعة هذا الشعب وأوجدت للعنف سبيلاً إلى ضميره ووجدانه؟ أرجو ألاّ تكون الأمور قد بلغت هذا المدى، وأتمنى أن يقوم قادة الرأي في مصر مثنى وثلاث ورباع ليتفكّروا في معالجة هذه الظواهر الطارئة وتجفيف منابعها قبل أن تستفحل، ويحدث -آنذاك-ما لا تُحمد عقباه.
تغير الشخصية العراقية
أذكر أنَّني ذات يوم قُبيل انقلاب البعثيين لاغتصاب السلطة سنة (1968م) ألقيت محاضرة في بغداد حذّرت فيها الشعب العراقيّ من الانسياق وراء أفكار وأطروحات «ميشيل عفلق» وسياسات الحزب آنذاك المبنيَّة على تلك الأفكار التي لم تكن على أسس سليمة. حذّرت مَنْ حاضرتهم، والشعب العراقيَّ من ورائهم، من أنَّ اغتصاب السلطة من البعثيين مرة أخرى وتفرّدهم بها وسلوكهم مسلك الطلائع التي كان ميشيل عفلق يمجد بها سوف يُحدث تغييرًا في النفسيَّة والعقليَّة العراقيَّة غاية في الخطورة، فلم أكن آنذاك مهمومًا بمَنْ يأخذ السلطة ولا بمَنْ يتركها قدر اهتمامي بما يمكن أن يحدث من تغييرات في نفسيَّات الشعوب تؤدي إلى تدميرها. ومن المؤسف أنَّ مخاوفي وظنوني في تلك المرحلة قد صدقت، وهاهم العراقيَّون -بعد أن تغيرت شخصيَّاتهم نفسيًّا وعقليًّا- تحوّلوا إلى شيع وأحزاب، يستبيح كل منهم دم مخالفه أيًّا ماكان، ويعتبر الخلاص منه –بأيَّة وسيلة- ربحًا ومكسبًا، حتى وإن كانت تلك الوسيلة هي التحالف مع الأجنبي، وتوجيه الدعوة إليه لاحتلال البلاد والبقاء فيها حتى يقرر هو مغادرتها.
نحو احتواء التغير
إذا تبين ذلك، وأدرك القراء ما أقول على حقيقته، فإنَّني قد بدأت -نتيجة كل تلك التغيّرات- أقلق على وحدة الكتلة المصريَّة، وأكثر ما يقلقني هذا التغيّر في النفسيّة المصريّة، بحيث لم تعد تلك النفسيّة السمحة المرنة القادرة على استيعاب الآخر وتجاوزه، بل بدأت تميل إلى نوع من الشدّة والضيق بالآخر ورميه بشتى الأوصاف والألقاب التي من شأنها أن تساعد على إثارة عوامل الشحناء والتباغض بين الناس. وذلك ما حملني على كتابة هذا المقال للإفضاء بمخاوفي إلى الغَيَارى على وحدة مصر والشعب المصري، والمهتمين بالمحافظة على طبيعته السمحة الطيبة الهينة اللينة.
من هنا نستطيع مناشدة الإعلام وأجهزته، والأزهر وقيادته، ورموز الجماعات والفئات على اختلافها في البلاد أن تلتفت إلى هذه الظواهر، وأن تتذكر أنَّ النار من مستصغر الشرر، وأنَّ ما نراه اليوم صغيرًا _إذا تُرك وأُهمل_ سيكبر وسيؤدي إلى آثار خطيرة، وآنذاك لن يكون الخاسر فئة أو فئتان، بل المجتمع المصري كله والشعب المصري برمته، ومن بعده جواره العربي والإفريقيّ والإسلاميّ. فلنحرص على رصد الإيجابي والسلبي مما يعتري نفسيّات شعوبنا لننمّي الإيجابي ونتخلص من السلبي قدر الإمكان، وليكن لدينا من النّظم التعليميَّة والإعلاميَّة ما يساعدنا على الوفاء بهذه المهمّة الضخمة.
والله ولي التوفيق.