أ.د. طه العلواني
منذ أن تراجع دور الأزهر الإشعاعيّ، وبدأت المدارس الخليجيَّة السلفيَّة في الظهور، وهناك شعور بوجود ثغرة في مجال القيادة العلمائيَّة السنيَّة، تبحث عمن يقف عليها رسميًّا وشعبيًّا. وقد تعاظم هذا الشعور خاصَّة بعد تسلُّم نخبة من علماء الشيعة زمامَ الأمور في إيران -على الضفة الأخرى من الخليج-بقيادة الشخصيَّة النادرة الإمام الخمينيّ.
كانت هيئة كبار العلماء في المملكة السعوديَّة برمزيَّة الشيخ الإمام الراحل عبد العزيز بن باز معادلاً ملائمًا. لكنّ تحرُّكات المدارس السلفيَّة الشابَّة بمعزل عن حكمة الشيخ ورشادته انتقصت من رمزيته -يرحمه الله-على الرغم من سعة أفقه، وعلى الرغم مع دعم الأسرة المالكة السعوديَّة له. فانشغل الشيخ بإطفاء ما كانت تشعله الحركة السلفية الشابة من حرائق هنا وهناك؛ خاصَّة ذلك الحريق المزلزل قبل ثلاثين عامًا. أعني حادثة احتلال الحرم وحركة جهيمان والقحطانيِّ، حيث حاول الشيخ أن يخمد الفتن ويحافظ على المملكة وقيادتها من ناحية، ويحافظ على الحركة السلفيَّة وشبابها من ناحية أخرى. ولما انتقل الرجل إلى رحمة الله ترك فراغًا لم يُملأ بعد؛ فلم تبرز بعده -على مستوى المملكة- شخصيَّة أخرى تحظى بذلك الإجماع على احترامها وتقديرها والاستماع إليها. لقد كان عالـمًا ربَّانيًّا بحق!
قد يقول قائل: إنَّ الزمن لم يعد يتَّسع للشخصيَّات الفرديَّة والعبقريَّات الخاصَّة؛ لأنَّه زمن مؤسَّسات. ويمكن للمؤسَّسات أن تؤدي تلك الأدوار، مثل “هيئة كبار العلماء” و”المجامع الفقهيَّة” ومؤسَّسات “الدعوة والإفتاء” و”الجامعات الإسلاميَّة”. ولا شك أنَّ المؤسَّسات قادرة على أداء أدوار قد تزيد على أدوار أولئك الصالحين من الأفراد، لكن تاريخنا الإسلاميّ -في مراحله المختلفة- كان يعطي لأولئك الأفراد التقاة الثقات مهام قيادة تلك المدارس والمؤسَّسات، فبهم وحولهم تتكون المدارس وتنمو، وإليهم تنسب؛ ولذلك برزت المدارس والمذاهب -الفقهيَّة والكلاميَّة- ببروز شخصيَّات إليها نسب التأسيس، وبها أنيط الفضل مثل: الشافعيَّة، والحنفيَّة، والجعفريَّة، والمالكيَّة، والحنابلة، والأشاعرة، والماتريديَّة، والزيديّة… إلخ.
إنّ ظاهرة شخصنة الأفكار والمذاهب والاتجاهات الفكريَّة ظاهرة سلبيَّة تحتاج إلى تصحيح، بحيث تطوى طاقات الشخصيّات الفرديَّة الحقيقيَّة في الشخصيَّات المؤسَّسيَّة المعنويَّة؛ فذلك ما يمنحها القدرة على الاستمرار والبقاء بعد وفيات القادة، سواء أكانوا مؤسِّسين أم برزوا في تلك المؤسَّسات بعد التأسيس، وتجعل تلك المؤسَّسات أكثر قدرة على إثراء أفكارها وتجديد طاقاتها، وتحقيق نوع من التجدُّد الذاتيِّ يسمح لها بمواجهة ما قد يستجد من تحديات. والأفراد المتميِّزون قد تفرزهم وتبرزهم المحن والأزمات، والمؤسَّسات تفرزها -بالإضافة إلى ذلك- بيئات تتمتع بمواصفات وإمكانات تسمح بذلك، وتهيء الأجواء لإقامتها.
إنَّ الصيغ القائمة في العالم السنيِّ لا تسمح ببروز قيادات من العلماء السنَّة قادرة على إقناع العالم السني بأنَّه يملك قيادات فاعلة، ومرجعيات يستطيع الاعتماد عليها في الأزمات؛ مثل القيادات والمرجعيات الشيعيَّة التي يحفل بها العالم الشيعيُّ، فالحكومات هي المشرفة على تكوين العلماء السنة، ومنحهم الوظائف والمرتَّبات بعد أن استولت تلك الحكومات على الأوقاف السنِّيَّة وعلى المساجد والمدارس والعلماء؛ ففقد العلماء السنة استقلالهم، وصاروا موظفين يتلقُّون توجيهات وأوامر من مؤسسات الدولة وفي مقدمتها وزارات الأوقاف. وكثيرًا ما يشعر العالم السنِّيُّ بأنَّه ممزَّق بين توجيهات المؤسسات الرسمية ومطالب الشعوب التي ما تزال تتوقع وتطلب منه أن يمارس دوره القياديَّ بالدفاع عن الناس، وحماية الجماهير، والدفاع عن مصالحهم أمام السلطات والجهات المتسلِّطة، فالعالم -بما يمثِّل- يتمتع بشرعيَّة وبحصانة تسمح له أن يؤدي ذلك الدور المشرِّف، وقد آن الأوان للعالم السنِّي أن يعيد النظر في سياساته تجاه المساجد والجوامع والمدارس والأوقاف، بحيث يصبح من الممكن تكوين علماء معاصرين قادرين على حسن صياغة (الخطاب الدينيِّ) المعتدل، وحماية الجماهير من الانزلاق وراء المتطرفين والغلاة، وإعادة بناء دور المسجد في حياة الأمَّة، ومساعدة المؤسسات الدينيَّة السنيَّة على تكوين واحتضان المرجعيَّات الدينيَّة الفاعلة، والتوافق على ضمان استقلالها وعدم تهميش أدوارها كما هو حاصل الآن. والله أعلم.