طه جابر العلواني
كنا قد كتبنا شيئا عن العلو الكبير، وكتبنا شيئا آخر عن الهوى وبينا موقف القرآن المجيد من كل منهما. وفي هذه الحلقة نحاول أن نبين تحذيرات القرآن الكريم الشديدة من اتّباع أهواء الضالين كما في قوله تعالى: ]وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ[ (المائدة:49). هذه الآية بالذات تبين أن اتّباع الهوى كان وراء سقوط أمم من قبلنا في دركات الانحطاط والتدهور. فالله –تبارك وتعالى- ما خلق السموات والأرض إلا بالحق. والحق هو الأمر الثابت. وأتعس أنواع الهوى وأشدّها فتكًا بالإنسان وتدميرًا لدينه وإيمانه هو ذلك الهوى الذي يجعل الإنسان عبدًا لأهواء غيره يتصرف بمقتضى ذلك. فكأنه والحالة هذه يجعل هواه أو يجعله هواه عبدًا لأهواء غيره من قوم ضلّوا وأضلّوا كثيرا، زاغوا فأزاغ الله قلوبهم وفقدوا عقولهم وإن بدا للآخرين أنهم أصحاب عقول وأحلام، ولكنها عقول لا يعقلون بها تعمل في غير ميادينها وبعيدًا عن مجالاتها. والقرآن المجيد يحذر سيد الخلق المعصوم من أن يتّبع أهواء الآخرين خاصة من أولئك الذين سماهم في تلك الآية الكريمة حيث أمر رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلّم- بأن يستعلي بإيمانه وبما أنزل إليه وأن يحكم بينهم بما أنزل الله ويستعصم بذلك، وألاّ يتبع أهواءهم وأنه –عليه الصلاة والسلام- مع أنه أحكم الخلق وأعقل الخلق وأخشاهم لله وأتقاهم له حذّره –جل شأنه- من اتباع أهواء أولئك الذين يأتون الناس ببقايا كتب أنزلت وحكمة بلغتهم؛ لكنّ الهوى خالطها وامتزج بها فصارت من مصادر انحرافهم وضلالهم أكثر من أن تكون من مصادر هدايتهم، فيقول جل شأنه له: ]وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ[ (المائدة:49) واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك، وليس عن كل؛ فإن مكرهم ودهاءهم وخبثهم وتآمرهم يجعلهم يجيئون إلى الصلحاء وأهل التقوى بطرق خبيثة ووسائل ماكرة خفية فلا يواجهونهم بكل ما لديهم ولا يظهرون لهم أنهم يريدون اجتيالهم وإبعادهم عن هداية الله وصراطه المستقيم. بل يفتنهم عن بعض ما أنزل الله إليهم. فإذا تحقق لهم شيئا من ذلك، وهوى الإنسان المستقيم المصلح في سلم الهبوط درجة واحدة أو دركة واحدة فإنه لن يتوقف حتى يصل الحضيض. فكلمة (بعض) في هذه الآية الكريمة في غاية الإعجاز والبلاغة والفصاحة؛ لأن التنازل عن بعض الحق سيؤدّي إلى التنازل التام عنه والوقوع بعد ذلك في حكم الجاهلية. وحين نتدبّر هذه الآية الكريمة فإنّنا نستطيع أن نرى كيف يمكر الأعداء بنا محاولين إسقاطنا في حضيض لا قيام لنا منه إذا اتّبعنا أهواءهم فهم كثيرًا ما يواجهوننا بأن الزمان قد تغير، والظروف قد تبدلت، فلم تعد شريعة الله كما هي في كتابه الكريم وكما قام بتفعليها رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلّم- في مجتمع المدينة صالحة للتطبيق في هذه المجتمعات المغايرة، وفي ظل هذه الظروف المتبدلة؛ لكنهم لا يقولون إنهم يريدون اجتيال المسلمين عن دينهم كله، وتدمير أمتهم، وتفريق كلمتهم، وجعلهم أعداء لبعضهم يستحلون دماءهم ويستبيحون أعراضهم وأموالهم، ويتجاهلون سائر قيمهم ولا يصرحون بأنهم لن يقر لهم قرار ]حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ[ (البقرة:217). لقد أطمعهم الشيطان بأن في مقدورهم أن يتابعوا عمليات دحرجتنا وإسقاطنا باتجاه حضيض الارتداد عن دين الله وقد قال –سبحانه- ]وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ[ (البقرة:217) لكن رؤيتهم أولئك الذين يسارعون فيهم من الذين استكبروا في بلادنا وسرعة تهاويهم في حبائلهم، أطمعتهم بأنهم يمكن أن يبلغوا ذلك منا دون كبير عناء . ولذا، فقد بدأوا بالشريعة وعملوا على اجتيالنا عنها، واستسلم الكثيرون من الذين استكبروا ومن استضعفوا لهم. وإذا حققوا في ذلك نجاحًا لا يستهان به عمدوا إلى العقيدة وقالوا: يكفي من العقيدة أن يؤمن الإنسان بوجود إله بالشكل الذي يراه ويقتنع به، ويؤمن باليوم الآخر، والعمل الصالح، ويؤمن بأي نبي من الأنبياء حتى لو لم تثبت نبوته ولم تقم عليها حجة أو برهان. فهذه العناصر الثلاث كافية ولا داعي للتأكيد على عناصر الإيمان والعقيدة الأخرى؛ لأنها قد تفرق بزعمهم كلمة البشرية وتباعد بين البشر ووحدتهم وجعل العالم قرية كبيرة يرأسها شيطان أكبر ويقودها صنم أعظم، وهكذا يستدرج أتباع أهواء أولئك إلى تنكر الأخ لأخيه وتفكك الكيان الواحد والأمة الواحدة والائتلاف مع العدو في محاربة الأخ والصديق. وهنا تبدأ حالة أخرى هي حالة وصفها القرآن المجيد بحالة نسيان النفس ]نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[ (التوبة:67) وقوله تعالى: ]وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[ (الحشر:19).لقد سوّل الشيطان لبعض كبرائنا، ولكثيرين من الضعفاء أن هؤلاء الذين ينادوننا صباح مساء لاتباع أهوائهم، وتبني أفكارهم والسير في سبيلهم ومتابعة خطواتهم أنهم يقودننا إلى تنمية وحضارة وحداثة وما شاكل ذلك. ولو فكر أولئك المضبعون بهم، السائرون خلفهم بالتاريخ، وراجعوا تاريخ البشرية لوجدوا نماذج قد تتجاوز الحصر تثبت أنّ هؤلاء لا يمكن أن يأتوا بخير لمن يسير خلفهم، ويتبع أهواءهم، وأنّ للضال أن يهدي، وأن للمنحرف أن يضعك على استقامة في الطريق، وأنّ لمن استولت عليه شهواته وأخلد إلى الأرض أن يرتقي بك ولكن المنافقين لا يعلمون.
إن القرآن المجيد كفيل لو أردنا الهداية أن يهدينا. كفيل بهدايتنا، وكفيل بالأخذ بأيدينا إلى الهداية والطريق المستقيم. لقد بلغت حالة أمتنا مستوى لا يمكن أن تتعافى منه إلاّ بهذا الكتاب الكريم الذي يهدي للتي هي أقوم، هذا الكتاب المجيد يقف اليوم يناضل عن أمته وحده ويجاهد ليأخذ بحجزها، ليحجزها عن مزيد من التردي والسقوط.
فإلى القرآن من جديد وإلى هدايته يا عباد الله فإن فيه نبأ من قبلكم. إنه المخرج من الفتن فيه نبأ وخبر من بعدكم وحكم ما بينكم وهو الفصل ليس بالهزل، وذلك مما رواه السيد الإمام أبو طالب – عليه السلام – في أماليه، والحافظ المحدِّث أبو عيسى الترمذي([1]) في جامعه من حديث الحارث بن عبد الله الهمذاني صـاحب علي – عليه السلام – قال: مررت في المسجد، فإذا الناس يخوضون في الأحاديث. فدخلت على علّي- عليه السلام – فأخبرته فقال: أوَ قد فعلوها؟ قلت: نعم. قال: أَمَا إنِّي سمعت رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – يقول: “ألا إنَّها ستكون فتنة، قلت: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: “كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم. هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسنة ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه. هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد، فآمنا به. من قال به صدق، ومن عمل به أُجِرَ، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم”.
([1]) أخرجه الترمذي في جامعه: ( 5 / 172) وفي الطبعات التي رقمت فيها الأحاديث رقمه (2908) في باب “فضل القرآن” وقد استدل به صاحب “إيثار الحق …” في كتابه “ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان” ص 15 ط. دار الكتب العلمَّية بدون تاريخ.