Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

المجتمع المسلم في أمريكا قبل وبعد أحداث سبتمبر 2001م

أ. د. طه جابر العلواني

(لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إنّما يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الممتحنة:8-9).

الإسلام في الغرب

 الأمريكان قبل 11 سبتمبر لم يكن أكثريّتهم من الذين لم يجاوروا المسلمين يفكرون بالمسلمين، أو يعرفون عنهم الكثير. مع أنّ الإسلام لم يكن مجهولا لدى علماء الغرب ومدارسه الفكريّة حتى قبل ظهور الاستشراق والمستشرقيّن، وقد يكون هناك سوء فهم لبعض جوانبه أو سوء تفسير متعمد لبعض قضاياه، لكنه كان معروفًا على سبيل الإجمال. وكثير من خصائصه لم تكن مجهولة لدى العلماء الغربيّين. ولكنها كانت معرفة بنتها مصادرهم التي أسست أطروحتها ونماذجها المعرفيّة غالبًا في فترات الصراع الطويل، فلم يغفر التاريخ الغربيّ للإسلام أنّه هُوَ الَّذِي حرر بلاد الشام ومصر والشمال الأفريقي من الاحتلال الرومانيّ الَّذِي ظل جاثما على صدرها زمانًا طويلا. ولم ينس للإسلام أنّه هُوَ الَّذِي ألهم الأمّة المسلمة روح المقاومة، فلم تستسلم أمام الهجمات الصليبيّة التي سميناها «حروب الفرنجة» وسموها بـ«الحروب الصليبيّة» والتي استمرت قرنين من الزمان في حملات متصلة كانت تحاول القضاء عليه والانتقام منه للدولة الروميّة والبيزنطيّة. ولم يغفر أولئك الفرنجة محاولات المسلمين للنيل من أطراف أوربا وبلوغ شمال إيطاليا وجنوب فرنسا وإقامة الدولة في الأندلس، ثم بلوغ العثمانيّين بعد ذلك أسوار «فينّا» وتهديد أوربا كلها، وبروز مَا عرف بـ«المسألة الشرقيّة» أو الخطر الشرقيّ على أوربا. هذا المفهوم الَّذِي تحول فيما بعد إلى كيفيّة تقاسم الأوربيين مَا عرف بـ«دولة الرجل المريض» أي: «الدولة العثمانيّة» الَّذِي تم بعد انتصارهم في الحرب العالميّة الأولى على ألمانيا وتركيا وحلفائهما.

الوجود الإسلاميّ المعاصر في الغرب

 من الواضح أنّه لا الغرب -خاصّة أوربا- ولا العالم الإسلاميّ -خاصّة العرب- كانوا يتوقعون أن يجدوا الإسلام والمسلمين في قلب أوربا وأمريكا، لا غزاة فاتحين، بل مهاجرين وطلابًا ومواطنين وأبناء أصليّين انتقلوا من ديارهم الإسلاميّة إلى الغرب أو ولدوا هناك ليصبح هناك وجود إسلاميّ حقيقي مستقر ومقيم ينتمي إلى أوربا وأمريكا([1]) بكل معاني الانتماء، لكنه يريد الإبقاء على دينه وبعض خصائصه الثقافيّة، مع الاستعداد للالتزام بكل مَا يلتزم به المواطنون الآخرون من قوانين وضرائب وواجبات ومسئوليات، والاستفادة من كل مَا يتيحه القانون للمواطنين من مزايا وحريات وحقوق والاستعداد -كذلك- لقبول هويَّة جديدة.

 لقد كان المسلمون المهاجرون إلى الغرب والمقيمون فيه يسدون حاجات حقيقية لتلك البلدان، فهم ينقسمون مَا بين عقول وسواعد، وكلاهما مما تشتد حاجة الغرب إليه، ولم يكن سهلا تعويض تلك العقول والسواعد ببدائل كافية، وبتلك التكلفة البسيطة لا في أمريكا ولا في أي بلد أوربي.

الوجود الإسلاميّ في أمريكا خاصّة

 بالنسبة لأمريكا؛ فقد كانت إلى مَا قبل الحادي عشر من سبتمبر تعتبر التنوع الثقافيّ والحضاريّ والدينيّ إضافة جيدة إلى تعدديتها، فذلك التنوع الثقافيّ هُوَ مَا جعل منها رمزًا للعالم -كله- بحيث يمكن أن تقدم نفسها إلى سكان الأرض كافّة أو إلى العالم الأكبر على أنّها النموذج المصغر له، وذلك سوف ييسر لها تحقيق عالميّتها الثالثة بعد الهيلينية والرومانيّة، ويجعلها الوارث الَّذِي لا ينازع لهما، وبذلك يحق لها أن تقود العالم عن جدارة واستحقاق، وهو مَا حدث فعلا في إطار مَا يعرف بـ«العولمة».

 وكان هناك تفهم كبير، وانفتاح يحمد للشعب الأمريكيّ على الإسلام والمسلمين على مستويات مختلفة بما في ذلك بعض الكنائس الأمريكيّة للطوائف المختلفة التي لم تكن تتردد في تقديم مبانيها ومرافقها للمسلمين لإقامة صلوات الجمعة والأعياد فيها بدون مقابل أو بمقابل رمزي، وكذلك يذكر لها تلك المواقف الوديّة من الهيئات الأكاديمية وكثير من رجال الكونجرس والنواب من الحزبين، ومثل ذلك يمكن أن يقال عن الهيئات التعليميّة التي كانت ترحب بانضمام أعضاء مسلمين إلى مجالسها. واستقبال محاضرين يشرحون الإسلام دينًا وحضارة وقضايا وتاريخًا ومجتمعًا وبعض مجالس الإدارات التعليميّة الهامة في بعض الولايات رحبت بانضمام تربويّين مسلمين إليها. كما إنّ السجون كانت ترحب بالدعاة المسلمين لإقامة صلوات الجمعة في السجون الكبيرة، وتدريس الإسلام للسجناء وذلك لنشره بينهم ودعوتهم إليه، وقد عينت عددًا منهم بنفقتها المجزية للقيام بهذه المهام، وكانت ترحب بانتشار الإسلام بينهم لما يحدثه من تغير إيجابيّ في سلوكياتهم، ومساعدتهم في الإقلاع عن المخدرات والأعمال الإجراميّة.

 وفي عام 1992م وافقت وزارة الدفاع على تعيين مرشدين دينيّين في القوات المسلحة الأمريكيّة بفروعها الثلاثّة، وعينت «المرشد الأول» «جابلن مُحَمَّد عبد الرشيد» باحتفال رسمي وتتابع ذلك حتى بلغ عدد المرشدين الدينيّين المسلمين أربعة عشر مرشدًا في فروع القوات الأمريكيّة المسلحة الثلاثّة. وازداد عدد المساجد والمؤسّسات الإسلاميّة والمدارس زيادة ملحوظة. وخصص العام 1997م باعتباره عامًا للتعريف بالمسلمين والإسلام في أمريكا، وكانت فرصة ممتازة وإن لم يغتنمها المسلمون بشكل مناسب للتعريف بأنفسهم ودينهم وتاريخهم وحضارتهم وثقافتهم ومصادرها.

 وبدأت مؤسّسات أمريكيّة كثيرة ترحب بتعيين مسلمين، فعينت أول قاضية مسلمة في «فيرجينيا»، وبدأت المحاكم تتقبل طلبات المتقاضين المسلمين باستشارة خبير شرعيّ مسلم من أعضاء المجلس الفقهيّ أو أئمة المساجد قبل البت في القضايا إذا كان أحد المتقاضيين مسلمًا. واتخذت زوجة الرئيس السابق «كلينتون» مساعدة مسلمة ترتدي الحجاب داخل البيت الأبيض. وعين موظف مسلم في منصب هام في البيت الأبيض في عهد الرئيس الحاليّ، وبدأت الخارجيّة الأمريكيّة تفكر بضم موظفين مسلمين قد يصلون -فيما بعد- إلى مناصب سفراء، وعين أول سفير أمريكيّ مسلم في «فيجي»، ووافقت وزارة الدفاع على تغيير الملابس الخاصّة بالضباط والجنود المسلمات لتشمل طرحة ساترة للرأس والصدر تحت القبعة العسكريّة. وشجع سائر الموظفين العسكريين والمدنيّين على الحصول على دراسات إسلاميّة قبل الذهاب إلى أيّ بلد مسلم لئلا يسيئوا وهم يشعرون أو لا يشعرون إلى ثقافة البلد الَّذِي يعملون فيه، فينعكس ذلك على مشاعر أهل البلد تجاه أمريكا والأمريكان. وكانت هذه الدراسات تنتهي بتفهم جدي للإسلام والمسلمين وقد تنتهي ببعض هؤلاء إلى اعتناق الإسلام، وفي أقل الأحوال إلى احترامه واحترام معتنقيه، والاستعداد لتفهم قضاياهم ثم التعاطف معهم في بعض الأحيان.

 ورفعت إلى المحاكم قضايا حول ضغط بعض الدوائر على بعض المسلمات لرفع الحجاب أو غطاء الرأس، فكسبت المسلمات سائر تلك القضايا، وصرنا نرى أخواتنا وبناتنا في مختلف الدوائر بحجابهن وثيابهن المحتشمة يلفتن النظر إلى دينهن وحضارتهن وتاريخهن، ويشرن بثيابهن وسلوكهن إلى الإيجابيّات التي يمكن للإسلام أن ينقلها إلى هذه البلاد خاصّة في مجال قيم الأسرة، ويمارسن مَا كنت أسميه بـ«الدعوة الصامتة إلى الإسلام».

 ولا شك أن الخصوم التقليديّين للإسلام والمسلمين كانوا ينظرون بقلق شديد إلى المستقبل، فهذا التنامي المطرد للوجود الإسلاميّ يهدد نفوذهم وسلطانهم، ويفتح أمام المسلمين طريقًا مَا كانوا يتوقعون أن يفتح أمامهم في يوم من الأيام، وهؤلاء الخصوم معروفون بذكائهم الشيطانيّ في التخطيط، وسرعتهم الفائقة في التنفيذ، ومراهنتهم المشهورة في استعمال المحرم والمحلل من الوسائل للوصول إلى أغراضهم، وكذلك قدرتهم على فعل مَا يريدون بأيدي سواهم، فذلك أنكى وأشد في تدمير خصومهم، دون إثارة الشبهات حولهم، ولاستثمار ذلك في مزيد من النكاية لخصومهم.

 ثم حدث مَا حدث في «أيلول – سبتمبر الأسود» وبدأ رد الفعل العفوي من بعض الأمريكيّين العاديين متأثرين بالتهيج الإعلاميّ، ورواسب الذاكرة التاريخيّة. فظهر أسوأ مَا في الأمريكيّ من عاطفيّة ورد فعل سريع غاضب. وبنفس السرعة حاولت فئات شعبيّة أخرى يذكر ذلك لها ويشكر أن تبرز أحسن مَا في الأمريكيّ من نخوة ونجدة ورفع للظلم والاعتداء، فهرعت وفود إلى المسلمين المتضررين بالاعتداءات تواسي جراحهم، وتبرأ إليهم مما فعل الآخرون. بل سارع بعضهم إلى إقامة حفلات تكريم مكلفة لجيرانهم المسلمين قدمت لهم خلالها الهدايا والاعتذارات عما فعل الآخرون، وفي بعض الأماكن التي تضررت مساجدها أو مراكزها الإسلاميّة أصر بعض جيرانها الأمريكان من مختلف الكنائس -ومنهم بعض اليهود- على المساهمة في إعمار مَا تخرب وإصلاح مَا أفسد جنبًا إلى جنب مع المسلمين. وسارعت سيدات أمريكيّات من أديان مختلفة في مناطق مختلفة وفي مدن أمريكيّة عديدة إلى ارتداء ملابس شبيهة بملابس المسلمات والذهاب إلى بيوت المسلمات المحجبات الخائفات من الاعتداء عليهن للوقوف إلى جانبهن وحمايتهن من أيّ اعتداء أو معاكسة من أيّ أحد. وبعض أولئك السيدات ارتدين مثل مَا ترتديه المسلمات لإظهار مزيد من التضامن معهن، ولجعل المعاكسين غير قادرين على التمييز بينهن وبين المسلمات لئلا يعرفن فيؤذين.

التوعية بالإسلام

 إذا نظرنا من زاوية معينة فيمكننا القول بأن الشعب الأمريكيّ لم يكن يعرف عن الإسلام والمسلمين إلا الشيء القليل، فمراكز البحوث والدراسات الكثيرة المتخصصة في الدراسات الإسلاميّة، ومناطق المسلمين، وتاريخهم وحضارتهم كانت منحصرة في الدوائر الأكاديمية، والمعلومات التي يتلقاها الطلبة في الثانويّات، وكذلك المدرسون الذين يدرسون لهؤلاء ليس لديهم إلا معلومات محدودة محدوديّة زوايا النظر إلى موضوعاتها، فلا تعطي الطالب أكثر من العموميات عن مناطق المسلمين وثرواتها وشيء عن تاريخهم وحضارتهم. وبعض القصص والروايات السائرة التي تشكل أحيانًا مصادر ثقافيّة للأمريكيّ العادي، وكثيرًا مَا تظهر تلك الروايات والقصص بشاعة المسلم الَّذِي هُوَ قرين الشيطان وحليفه، فهو إما زير نساء أو سفاك دماء أو خبيث منافق أو أبله غافل أو صاحب مال سفيه مبذر مسرف… إلخ. فإذا قابل طبيبًا أو أستاذًا أو مهندسًا من المسلمين فإنه يشعر بفخر واعتزاز بحضارته الغربيّة الأمريكيّة، أو حضارة «الجودوكرستيان» التي جعلت من هذا الَّذِي كان يمكن أن يكون واحدًا من أبطال تلك القصص المخيفة للأطفال والكبار إنسانًا متحضرًا يتناول الوجبات السريعة، وقد يلبس «الشورت والجينز» ويمشي في الأسواق، وكأنه لم يولد أو أبواه أو جده في محلة من محلات بغداد أو حارة من حواري الشام أو القاهرة، وربما كان يبيع الحمص أو الترمس أو البطاطا أو اللب أو أكواز الذرة أو الفول العادي والسوداني في أزقتها وسككها وزنقاتها. وبذلك اطمأنوا إلى الحياة الرغدة الرخيّة في الغرب ولم يعودوا يفكرون بأن وجودهم طارئ لا يتحمل زلزالا.

 حتى حدث زلزال الحادي عشر من سبتمبر، فكادت تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، فبعد الحادي عشر من سبتمبر ومضاعفاتها أفاق المسلمون وسائر الأمريكيّين على واقع جديد لا عهد لهم به من قبل. وبدا لهم أن وراء الأكمة مَا وراءها وأن ذلك الاستقرار قائم على شفا جرف هار. وبرزت الحاجة إلى تأسيس «رؤية جديدة للأقليّات» المسلمة في الغرب خاصّة أكثر من أيّ وقت مضى. فالشعب الأمريكيّ بكل فئاته غير المسلمة قد أقبل بشكل كبير لافت للنظر على محاولة معرفة الإسلام من مصادره الأصليّة وبوساطة أهله لا غيرهم. فبيعت معظم الكتب والرسائل والدراسات التي تشرح الإسلام جملة، أو تقدم بعض أركانه أو أصوله، ومصادره، وتاريخه، وثقافته، وحضارته حتى لم يعد في الأسواق منها شيء والمكتبات تطلب المزيد. ولم تقتصر القراءات بطبيعة الحال على قراءة مَا هُوَ إيجابيّ، بل شملت الإيجابيّ والسلبيّ. وتوهم بعض البسطاء أن هذا الإقبال هُوَ إقبال بدافع الرغبة في اعتناق الإسلام أو بحثًا عن دين، وما كان إلا بحثًا عن مقاومة الجهل ومعرفة الشيء لئلا يتكلم من يتكلم عن جهل. ونسوا أن هؤلاء النهمين للقراءة عن الإسلام -هم أنفسهم- أبناء أولئك الأنثروبولوجيين الذين طافوا بكل صقع من العالم ونجحوا ليعرفوا أهله وسكانه وثقافتهم وحضارتهم وذلك للتمكن منهم والسيطرة عليهم.

 ومعظم الكنائس والجامعات ومراكز البحوث والدراسات بدأت تستضيف الأئمة والأساتذة والمحاضرين ليتحدثوا عن الإسلام، ويشرحوا أركانه ومصادره وعلاقته بالأديان الأخرى، وآثاره في معتنقيه والإجابة على الأسئلة الكثيرة التي تدور في أذهان الأمريكان، خاصّة تلك التي أثارتها وسائل الإعلام المختلفة حول علاقة تعاليم الإسلام بالتطرف، وهل كان يأمرهم بقتل مخالفيهم في الدين من المشركين وأهل الكتاب على حد سواء؟ وما موقفه من حريّة الإنسان؟ وهل يستثني حريّة التدين من باقي الحريّات؟ وبعضهم قد يستحضر آيات كريمة مثل الآيات «الآية الخامسة والآية التاسعة والعشرين» من «سورة التوبة» وكذلك «الآيات 191-194» من «سورة البقرة» وغيرها من الآيات التي يقرؤونها خارج سياقها ليؤكدوا بها أحكامًا مسبقة تقول بأن الإسلام دين القتال والحرب ووضع السيف على رقاب الناس ليسلموا أو يؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون أو يقتلوا، كذلك عمل بعضهم على إبراز وقائع قتال النبي r لخصومه، والإسهاب في بيان دلالات هذا القتال.

 ولم يكفهم ذلك؛ بل انصرف كثير منهم إلى كتب الفقه والتفسير وأصول الفقه لينتقي منها فتاوى ومفاهيم ومصطلحات إسلاميّة وأحكامًا فقهيّة يطرحها على أئمة المساجد والدعاة. وكثير منهم ذوو معلومات متواضعة في العلوم والمعارف الإسلاميّة فيتحول الكثيرون منهم إلى الاعتذار، وإعلان تاريخانية هذه الأحكام وأصولها؛ فيقعون في تناقض عجيب. وكثير من أبناء المسلمين بدءوا يشعرون بالدونية وينهزمون نفسيّا.

ومن هذه المسائل في هذا السياق على سبيل المثال:
كيف يقسم دينكم الأرض إلى «دار إسلام ودار حرب» ألا يعني ذلك أنكم تعتبرون أنفسكم في حالة حرب مع سائر الأمم خارج بلادكم؟ وأن لكم الحق في مقاتلة أصحاب أيّ دين غير دينكم متى شئتم ووجدتم في أنفسكم القدرة على شن حرب على الغير. وما حدث في سبتمبر هل حدث بناء على إيمان المسلمين بكفر الأمريكان، وأن ديارهم ديار حرب؟

وماذا عن «الجزية» التي تسمونها «ضريبة الرؤوس» وتشترطون أن تؤدّى لكم من اليهود والنصارى ومن إليهم عن يد وهم صاغرون. فهي ضريبة إذلال وامتهان وانتهاك لكرامة الإنسان وحقوقه وحريته في اختيار الدين الَّذِي يقتنع به ويؤمن به؟

 وماذا عن إجبار «المرتد» على العودة إلى الإسلام أو القتل؟ أليس هذا من قبيل الإكراه في الدين الَّذِي تدعون أن دينكم يرفضه؟

 وماذا عن المرأة وحقوقها واعتبارها ناقصة عقل ودين، واعتبار شهادتها نصف شهادة الرجل؟ وحبسها في البيوت وإعطاء الزوج حريّة الزواج بأربع في حين ليس لها أن تتزوج إلا بواحد، له حق القوامة عليها، وإبقائها أو تطليقها حسب هواه وليس لها أن تنفصل عنه لأنّ العصمة بيده. وماذا عن الحجاب؟ ألا ترون أن فرض «الحجاب» عليها إهانة لها، وإشعار بعدم الثقة به، وأنها مخلوق من الدرجة الثانية. وماذا عن هجر المرأة وضربها إذا عصت الرجل؟   وكيف تورثونها نصف مَا يرث الرجل؟

 وماذا عن قطع يد السارق ورجم الزاني وقتل الشاذين جنسيًّا بتنكيل شديد كالحرق والرمي من شاهق، مع أن الأمر لا يعدو أن يكون اختلالاً في التركيب الوراثي الَّذِي لا دخل للإنسان نفسه فيها: فالهرمونات هِيَ التي تجعل الإنسان يميل إلى الجنس المثلي لا إلى الجنس الآخر وليس الانحراف الأخلاقيّ؟

 لماذا تنتشر في بلادكم الدكتاتوريات البشعة، وانتهاكات حقوق الإنسان والأمراض والتخلف والتعصب والتطرف؟ لماذا انهارت كل محاولات التنمية والتحديث في بلادكم؟ أليس الإسلام هُوَ سبب تخلفكم، كما كانت المسيحيّة سبب تقدمنا بعد أن وضعناها موضعها من حياتنا؟ لماذا أخفقتم في تبني الديمقراطيّة؟ أليس ذلك دليلا على أن تعاليم الإسلام تشجع على الظلم والدكتاتورية والتفاوت الطبقي ونحو ذلك من مصائب؟

 لماذا يعلمكم الإسلام أن انتحاركم في قتل المدنيّين في فلسطين وفي نيويورك يؤدي إلى والجنّة؟ ولماذا ولماذا؟!

 لقد كان المسلمون سعداء جدًا في بادئ الأمر وهم يرون ذلك الإقبال غير المألوف على الكتاب الإسلاميّ وعلى الاستماع للمسلمين؛ لأنهم لم يكونوا قد فهموا بعد طبيعة الشعب الأمريكيّ. بل إن بعض المسلمين بدؤوا يمارسون نفس الهواية السمجة التي مارسوها في «حرب الخليج الثانية» عن تداول الشائعات وترويجها في المساجد والمراكز الإسلاميّة عن إسلام عشرات الآلاف من الأمريكان. وأن المراكز الإسلاميّة المنتشرة في الولايات المتحدة بدأت تستقبل الآلاف المؤلفة من المسلمين الجدد الذين لفتت أنظارهم تلك الأحداث إلى الإسلام، فبعد مضي شهرين على الحادي عشر من سبتمبر اجتاحت المساجد شائعة تقول: «لقد بلغ عدد الداخليّن إلى الإسلام من الأمريكان الأصليّين البيض والسود والصغار والكبار والنساء والذكور سبعين ألفًا وعدة مئات» فإذا ألغى الإنسان عقله وأطلق لخياله العنان فإن المائتين والسبعين مليونًا من الأمريكان لن يمر عليهم وقت طويل ليروا أمريكا تقدم طلبها إلى «منظمة المؤتمر الإسلاميّ» لتصبح العضو الحادي والخمسين بين الدول الإسلاميّة!! ومن يدري فلعلها تكمل نصف دينها بطلب الانضمام إلى جامعة الدول العربيّة أو مجالس التعاون العربيّة وبقيّة القائمة.

الدروس المستفادة على الصعيد الأمريكيّ

 أولا: أثبت الشعب الأمريكيّ أنّه شعب ذو عقليّة معرفيّة، فهو شعب إذا واجه تحديًا مَا فإنه لا يفقد توازنه. بل يسارع إلى دراسة ومعرفة ذلك التحدي، ورصد خصائصه وصفاته بشكل يجعله قادرًا على التعامل معه بالشكل المعرفيّ المناسب الَّذِي ينسجم ورؤيته، وموقفه هذا ينبه على أنّه شعب لا يجري وراء الدولة حيث تريد، كما إنّه ليس ذيلا لوسائل الإعلام بل لديه قابليّة جيدة لنقد مواقف حكومته وإعلامه.

 ثانيًا: إنّه شعب متعلم يقوده العلم والمعرفة لا الشائعات والخرافة، ولا السحر ولا الشعوذة كما قد يظن الآخرون، واعتزازه بما لديه لا يحمله على إلغاء حاسّة التفسير عنده.

 ثالثًا: إنّه شعب توحده المصائب، وتزيل سائر الخلافات والتناقضات من بين صفوفه، وتجعله قادرًا على الالتفاف حول قيادته بقطع النظر عن مواقفه المختلفة منها قبل ذلك، دون أن يفقد وعيه على سائر الاحتمالات والفرضيّات.

 رابعًا: أثبت أنّه شعب لا تفقده الصدمات توازنه، بحيث يحمله الغضب على تجاوز قيمه بالكلية، وفقدان انضباطه، صحيح أنّه قد حدثت بعض التجاوزات من بعض الشباب تجاه بعض المسلمين والمسلمات وبعض المساجد والمحال التجاريّة، وقتل واحد من المسلمين وآخر من السيخ ظنه البعض من المسلمين في جميع أنحاء القارة. ولكن في مقابل ذلك رأينا أضعاف تلك الأعداد الغاضبة تنتصر للمسلمين، وتضع فاصلا سميكًا بين من أحدث في نيويورك مَا أحدث وبين بقيّة المسلمين في الداخل خاصّة وفي الخارج عامّة؛ بل بلغ كرم البعض منهم حدًا أن واسوا المسلمين، ورابطوا في مساجدهم ومراكزهم ومدارسهم لحمايتها، وبعض السيدات ارتدين مثل ملابس المسلمات -كما ذكرنا- وصاحبن مسلمات إلى معاهدهن وكلياتهن وأماكن عملهن لحمايتهن ولتضليل الشباب الغاضب عن المسلمات وإشعارهم بأن المسلمين جزء من هذه البيئة وليسوا غرباء أو أجانب. تُرى لو حدث مَا حدث في أي بلد آخر فكيف يكون رد الفعل؟! وقد ذكّرني حالهم ومواقفهم بالحديث الشريف الَّذِي أخرجه مسلم وهو: «قَالَ الْمُسْتَوْرِدُ الْقُرَشِىُّ عِنْدَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ r يَقُولُ: «تَقُومُ السَّاعَةُ وَالرُّومُ أَكْثَرُ النَّاسِ». فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: أَبْصِرْ مَا تَقُولُ. قَالَ: أَقُولُ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ r. قَالَ: لَئِنْ قُلْتَ ذَلِكَ إِنَّ فِيهِمْ لَخِصَالا أَرْبَعًا إِنَّهُمْ لأَحْلَمُ النَّاسِ عِنْدَ فِتْنَةٍ وَأَسْرَعُهُمْ إِفَاقَةً بَعْدَ مُصِيبَةٍ وَأَوْشَكُهُمْ كَرَّةً بَعْدَ فَرَّةٍ وَخَيْرُهُمْ لِمِسْكِينٍ وَيَتِيمٍ وضعيّفٍ وَخَامِسَةٌ حَسَنَةٌ جَمِيلَةٌ وَأَمْنَعُهُمْ مِنْ ظُلْمِ الْمُلُوكِ»([2]).

الدروس المستفادة على مستوى المسلمين

 أولا: استولى الخوف على الغالبية العظمى وانقسمت النخبة فكانت غالبيتها تذكّر بأخطاء السياسة الخارجيّة الأمريكيّة تجاه القضايا العربيّة والإسلاميّة، وتجعلها بمثابة العذر أو المسوغ لما حدث. ونرى أن من حق الجميع أن ينتقدوا هذه السياسة، بل من واجبهم، ولكن نفسيّة المنكوب أو المصاب لا تحتمل نقدًا في ساعة المصيبة -التي تسمى ساعة الصدمة الأولى- فكان علينا أن نقدم العزاء أولا ونؤجل اللوم أو النقد أو العتاب لوقت آخر. ذلك لأنك حين تقرن بينهما فكأنك تريد أن تقول: إنّ من اعتدى عليك معذور وأنت ملوم، وأنه لا ذنب عليه وأنت المذنب وفي هذا مَا فيه، فمقام تقديم العزاء وإظهار التضامن غير مقام اللوم والعتاب وتقديم النصائح، وقديمًا قيل: «لكل مقام مقال» فوضع المقالين في مقام واحد غير أسلوب الحكيم.

 ثانيًا: إبراز وسائل الإعلام العربيّة الفضائيّة مظاهر الشماتة والفرح في البلاد العربيّة بما حدث في أمريكا لم يكن له مَا يبرره، ويدل على جهل فظيع في طبيعة النفس البشريّة عامّة والأمريكيّة خاصّة. إن لم يدل على نزعة تآمرية ضد العرب والمسلمين، وقديمًا قيل:

ما يفعل الأعداء في جاهل * * * مَا يفعل الجاهل في نفسه

 ثالثًا: إظهار الإعجاب والرضا بالفئة المهاجمة والعناصر المساندة لها ورفع صور قادة «القاعدة» في مظاهرات صاخبة في العالم الإسلاميّ تعبيرًا عن الرضا عن الفعل نفسه وعن كل من شارك فيه، وأن الرغبة في الحصول على بطل أعمت الناس عن مواصفات البطل ومقاييسه، فلم تعد تميز بين الشجاع والمتهور، ولا بين المناضل والمتآمر، ولا بين من ينتمي إلى الأمّة ويراعي مصلحتها وبين من ينتمي إلى فئة أو حزب ويراها كل الأمّة أو لا ينظر إلى الأمّة إلا من خلالها أو يفتات عليها وينصّب نفسه وصيًّا عليها كلها دون رأي منها، وقد أضرت هذه المظاهر كثيرًا بسمعة الإسلام ووجود المسلمين في الغرب.

 رابعًا: هناك عدد لا بأس به من المسلمين قد قتلوا في المباني التي تمت مهاجمتها، كان ينبغي إبراز ذلك بكل الوسائل، خاصّة في أمريكا نفسها، وترديد أسماء هؤلاء، وإقامة مجالس العزاء لهم في بيوت ذويهم وفي الأماكن العامّة وإقامة صلوات الغائب عليهم وتغطية ذلك بكل وسائل الإعلام المتاحة الداخليّة منها والخارجيّة، وتعظيم شأن خسارة المجتمع الإسلاميّ الأمريكيّ فيهم، فقد كان ذلك كفيلا بإشعار الشعب الأمريكيّ أنّه حتى لو كان المهاجمون جميعًا من المسلمين فإن ضحايا المسلمين الأمريكيّين قد بلغوا نسبة عالية، فخسارة المسلمين -في هذه الحالة- خسارة مضاعفة بحيث يستحقون التعاطف والتضامن أكثر من الملامة أو الانتقام.

 خامسًا: لم يستطع المجتمع المسلم في الداخل الأمريكيّ إظهار تعاطفه أو تضامنه مع الشعب الأمريكيّ بالطرق المتبعة في أمريكا -في هذه الحالة- فبدا غريبًا بين فئات الشعب الأخرى، وأجنبيًا وافدًا على البلاد غير واع على تقاليدها وثقافتها. مؤكدًا على أن وجوده طارئ لا أصليّ. إن بعض الفتيات المسلمات اللواتي شاركن في إزالة الأنقاض في «البنتاجون» على قلة عددهن وكن يرتدين ملابسهن الإسلاميّة كان لفعلهن من الأثر الطيب في نفوس رجال «البنتاجون» والأمريكان الذين شاهدوهن بصفة عامّة أكثر من كل مَا قدمه المسلمون في واشنطن ونيويورك في تلك الفترة، وإن لم يحظ ذلك بتغطية إعلاميّة مناسبة لا من فضائيّات العرب والمسلمين ولا من الإعلام الأمريكيّ. فالشعب الأمريكيّ كان يهمه أن يراك متضامنًا معه، متعاطفًا مع ضحاياه، غير شامت فيه، معبرًا عن مواساتك له.

 سادسًا: اضطراب مواقف الأئمة وقيادات المؤسّسات والعناصر المثقفة من أبناء المجتمع الإسلاميّ في أمريكا كما أشرنا سابقًا، فلقد أبرزت اضطرابات المواقف واختلافاتها عمق الهوة بين القيادات والمؤسّسات الإسلاميّة، وعدم وجود رؤية مشتركة، لا للوجود الإسلاميّ ذاته، ولا لحاضره، ولا لمستقبله، ولا للتحديّات التي تواجهه. وأن المسلمين -المهاجرين خاصّة- لا ينظرون إلى هذه البلاد إلا نظرتهم إلى محطة أو مظلة يستفيدون بظلها وبخيرها، ولا مانع لديهم أن يغادروها بعد ذلك يبابًا خرابًا.

 سابعًا: تكاثر الشائعات والمبالغات والجهل المطبق بنفسيّة الآخرين من الجيران وعقليّتهم؛ ولذلك لم يحسب الكثيرون حجم رد الفعل وقوته وقسوته، وحساب الربح والخسارة في سائر عمليّات الافتئات على الأمة. فالافتئات على الأمّة مرفوض، سواء أحدث من فئة شعبيّة أو من قيادة مفروضة دكتاتورية، فالحرب والسلام من أهم شئون الأمّة وقد تبقى آثار الحرب إلى أجيال، وقد تقضي على أمم وشعوب، فليس لأحد أن يفتات عليها في هذا الأمر، وينصب نفسه وصيًا أو وكيلا عنها وناطقًا باسمها، ويستدرجها إلى حرب أو سلام دون شورى منها، ودون سؤالها رأيها.

 إن الأمّة أعقل من «الحزب» وأعقل من الزعيم حتى لو قيل عنه «ملهم» وأعقل من الكتلة، والأمم أعلم بما يضرها وما ينفعها، وما يؤثر على مصائرها فليس لأحد أن يفتئت عليها في أيّ شأن من شئونها، والراضى بالافتئات على الأمّة شريك للواقع فيه والمرتكب له في ذلك. فهل تأخذ الأمّة من هذا درسًا أو عبرة؟ أتمنى ذلك.

([1]) للشهيد سيد قطب مقالة نشرت في كتابه “دراسات إسلامية” عنوانها “إسلام أمريكاني”، وقد سخر الشهيد من ذلك المصطلح لفظاً ومضموناً، ولو أنه عاش أيامنا هذه لرأى “الإسلام الأمريكاني” بل “الإسلام الأوربي” كذلك.

([2]) رواه مسلم في الفتن وأشراط الساعة, باب: تقوم الساعة والروم أكثر الناس, رقم: (2898).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *