Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

أيديولوجية التعذيب

د.طه جابر العلواني

إنَّ القرآن المجيد قد قصَّ علينا قصّة أصحاب الأخدود، وهي صفحة من صفحات معركة الكلمة والمعتقد. وحين نقرأ السورة نجد أنّ الطُّغاة فيها قد ألقوا بشعب بأكمله في النار ليحملوه على الرجوع عن عقيدته: ﴿وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ*وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ*وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ*قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ*النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ*إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ*وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ*وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ*الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (البروج:1-9). وهنا نناقش كتابين حديثين  في أنماط ووسائل التعذيب والتنكيل بالخصوم السياسيين للدولة. وفيهما تسويغ أيديولوجيّ لاستخدام الدولة _مالكة القوة_ وسائل القوة والعنف والبطش بالمخالفين من خلال تتبع النمط التاريخي لوقائع التعذيب.

معركة الكلمة والمعتقد

الكتاب الأول هو كتاب نُشر في مصر، منسوبًا إلى الراحل صلاح نصر رئيس المخابرات المصريّة، تحت عنوان: «معركة الكلمة والمعتقد».  الذي استعرض فيه معارك البشريَّة دفاعًا وهجومًا عن مواقفها الاعتقاديَّة، بدءًا من عهد الفراعنة حتّى وقت قريب. ولعلَّ العقل الباطن لصلاح نصر -حين شارك في تأليف ذلك الكتاب أو أمر بتأليفه- كان يوحي إليه بالدفاعَ عن مواقف تعذيب حَمَلَة الكلمة والمعتقد، فأراد بذلك أن يجعل من تعذيب الطُّغاة لمخالفيهم  في الرأي والكلمة والمعتقد ظاهرةً إنسانيَّة عامَّة شاملة، ليست بدعة له أو لجهازه، بل قد وجدت منذ القدم واستمر تكرارها في التاريخ. ونستطيع القول بأنّ النموذج الإدراكي الـ«paradigm» الذي كان يسكن ذهن صلاح نصر وهو يُعِدّ هذا الكتاب، هو كون عمليّات تعذيب أصحاب العقائد لإجبارهم على تغيير معتقداتهم وأفكارهم أمر طبيعيّ، فصمود أصحاب المعتقدات وصلابتهم تُوَاجَه بتحدي المستبدّين ومحاولاتهم الدائمة المستمرة لتغيير مواقف الأولين، وقديمًا قال فرعون: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي (القصص:38)، ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (غافر:29)، وكأنَّ الرجل يبدو هنا إنسانًا موضوعيًّا بحث عن الحقيقة، فلم يهده بحثه أو سقفه المعرفي إلى إله غير ذاته، ولا إلى رأي أفضل من رأيه، ثم قال كالمتنـزّل أو المتواضع قليلاً: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (النازعات:24)، فإذا كان لكم ربٌّ غيري أو أرباب متفرّقون غيري فأنا أعلى هؤلاء الأرباب وأنا ربُّكم الأعلى، والدليل عنده هو: ﴿أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (الزخرف:51). فسوّى بين عمليَّة الخلق والجعل والانتفاع، وألغى الفوارق بينها لكي يدّعي لنفسه ما ادّعى، ويُسوّغ لنفسه تلك المقولات الفاجرة، لكنَّه حين أدركه الغرق استيقظ على الحقيقة المرّة والمياه المالحة تتدفق إلى جوفه؛ ليقول باستعجال شديد: ﴿آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (يونس:90).

لم يتشبث الطاغية بكرسي السلطة ؟

فلماذا يتشبّث الطُّغاة بكراسي الطُّغيان ومقاعد الاستبداد حتى اللحظة الأخيرة؟ هل يتشبّثون بكراسيهم تلك بدافع الخوف من أن يُذلّهم مَنْ يأتي بعدهم أو يحاسبهم؟ أم بدافع الرغبة بالغلبة الدائمة المستمرّة؟ أم بأي دافع؟ هنا نستطيع أن نستنطق واحدًا من هؤلاء عرفته في شبابي وتأمّلت في بعض أقواله المشهورة، وهو عبد الكريم قاسم_ الذي حكم العراق منفردًا تقريبًا منذ 14 من تموز 1958مإلى 10 فبراير 1963م_ قال في إحدى خطبه: “إنّني قوّة منطلقة في التاريخ، يستمد الشعب القوة مني في حياتي، وبعد مماتي يستمدها من كلماتي و«البيان الأول»”،  يقصد بيان الانقلاب الأول. وهذه الكلمة تفسّر لنا تشبّث الطُّغاة بالسلطة حتى النفس الأخير ؛ لأنَّهم يرون أنفسهم قد صاروا روحًا تسري في الشعب، ونفسًا بها يحيا، وطاقة بها يعيش، وهو لا يريد أن يحرم الشعب من نفسه وروحه وطاقته، ولم ولن يفكّر الطَّاغية لحظة واحدة في كون شعبه وبلده قد كانا موجودين من قبل أن يولد، وسيبقيان بعده ما شاء الله أن يبقيا.

إذن، الشيطان يزيّن للطُّغاة أعمالهم، ويصدّهم عن السبيل، ويُريهم أنَّهم لو نزلوا عن كراسي الاستبداد في الوقت المناسب، فإنّهم بذلك يتخلّون عن شعوبهم، ويتركونها بدون نفس أو روح أو طاقة؛ لأنَّ النَّفس والرُّوح والطاقة تتمثّل في الزعيم الأوحد أو الزعيم الضرورة. فأهميّة الكتاب المُشار إليه تكمن في كونه يكشف لنا عن تضاريس في النَّفس البشريَّة ليس من السهل معرفتها والكشف عنها إلا بملاحظة تلك المعارك، معارك الكلمة والمعتقد.

موسوعة العذاب

أمَّا الكتاب الثاني فهو موسوعة من ستة مجلدات، كتبها باحث عراقي؛ هو الأستاذ الـﮕـالـﭽـي، وأسماها «موسوعة العذاب». استعرض فيها سائر وسائل وأنواع التعذيب التي كان الطغاة وشرطيهم وجندهم يعرّضون أصحاب الكلمة والمعتقد إليها. وقد عمَّموا تلك الوسائل والأساليب حتى شملت مخالفيهم كافّة، فصار كل  مخالفي  ل الزعيم في معتقده أورؤيته أو خططه معرّضون لمئات من أدوات التعذيب ووسائله وأنواع التفنّن فيه. وقد ذكر المؤلف في مقدّمة الكتاب خمسةً وثلاثين نوعًا من أنواع التعذيب لم يذكر الله -جلّ شأنه- في جهنم منها إلا العدد القليل، فكل وديان جهنّم -نعوذ بالله منها- ومواقعها التعيسة لم يبلغ  قدر العذاب فيها ما بلغه هؤلاء الشياطين.

فلنقرأ هذا الكتاب لنتبيَّن عقليَّة الطُّغاة المستكبرين وطرائقهم في الاستبداد بشعوبهم وأممهم إلى درجة محاولة حمل الشعوب والأمم على ألا ترى إلا ما يرى المستبد ولا تبصر إلا ما يُبصره. وفي هذا المعنى   قال شاعر الحاكم بأمر الله الفاطمي  المفلوج:

مَا شِئْتَ لا مَا شَاءَتْ الأَقْدَارُ فَاحْكُم فَأَنْتَ الوَاحِدُ القَهَّارُ

ولست أدري إذا كان النَّاس في تلك المرحلة قد اعتبروا ذلك شِركًا وإلحادًا وكفرًا معلنًا، أم غضّوا رُؤوسهم وساروا وكأنَّ الأمر لا يعنيهم، مثلما فعل بعد ذلك بما يزيد على ألف عام  شفيق الكمالي شاعر حزب البعث وصدام حسين، حين قال مخاطبًا صدام:

تَبَارَكَ وَجْهُكَ القُدْسِيّ فِينَا كَوَجْهِ اللهِ يَنْضَحُ بِالجَلالِ

ولم ينكر عليه العراقيون ذلك، لا قبل الحملة الإيمانيَّة ولا بعدها فيما نعلم.

ختامًا، فإنَّني أؤكد على قومي وأهلي أن يقرؤوا هذين الكتابين وهم يستعيذون بالله -جلّ شأنه- ويسألونه السلامة، ويعاهدونه -تعالى- على ألا يسمحوا بوقوع ذلك أو ما هو قريب منه مرة أخرى في بلدانهم.

وأعوذ بالله أن أكون قد دللت على كتابين لا أستغرب إذا وجدنا بعض الظَّلمة يستخدمونها كدليل للتعذيب أو «manual» لممارسة الطغيان والاضطهاد إذا أُتيحت لهم الفرصة، أتمنى أن يكون كل مَنْ يطَّلع على هذين الكتابين مستحضرًا في ذهنه قول شاعرنا:

عَرَفْتُ الشَّرَّ لا لِلشَّرِّ لَكِنْ لِأَتَّقِيهِ وَمَنْ لا يَعْرِفُ الشَّرَّ مِن الخَيْرِ يَقَعُ فِيهِ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *