طه جابر العلواني
منذ نزول القرآن المجيد على رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- انقسمت البشريَّة إلى قسمين. القسم الأول: “أمَّة الإجابة” والقسم الثاني: “أمّة الدعوة”. وقد سُميت “أمّة الإجابة” بهذه التسمية أخذًا من قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ (الأنفال:24)، والتي كُلفت بحمل الدعوة إلى الأمَّة الثانية، ألا وهي “أمَّة الدعوة”. وكل ما عدى “أمَّة الإجابة” يندرج تحت مفهوم “أمَّة الدعوة”. وعلى هذا فالبشريَّة بمقتضى ذلك أصبحت أمتين فقط أو عالمين. وهذه القسمة ليست بقسمة مستغربة، فقد سبق للبشريَّة أن صُنفت أصنافًا عديدة من منطلقات مختلفة، مثل منطلق اللون واللغة والدين والطائفة والمنطقة الجغرافية وما إلى ذلك. وفي عصرنا هذا وجدت منطلقات أخرى لتصنيف البشريَّة، منها المنطلق الاقتصادي الذي صنف البشريَّة إلى عالم أول وعالم ثان وعالم ثالث، أو عالم متقدم وعالم نام وعالم تحت مستوى التنمية إلى غير ذلك. أمّا تقسيم البشرية إلى “أمَّة إجابة” و”أمَّة دعوة” فإنّه يتعلق أو ينطلق من علاقة الإنسان بربه وبالرسل وموقفه من رسالات الله –جل شأنه. فإذا استجاب الإنسان إلى الدعوة فهو من “أمَّة الإجابة” وإن أبى فهو من “أمَّة الدعوة”. كما إنَّ تقسيم الناس إلى “أمّة إجابة وأمّة دعوة” يستوعب مراحل الحياة الإنسانيَّة كلها، بدءًا من عالم الذر: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾ (الأعراف:172) إلى عالم الاستخلاف ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ (البقرة:30) إلى عالم الائتمان ثم إلى عالم الابتلاء ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ (هود:7) ثم عالم الجزاء وانتهاءً بعالم القرار في الجنَّة أو في النار. والتقسيم المذكور يستوعب كذلك علاقات البشر انطلاقا من القيم الأخلاقيَّة. فالبشر منهم المؤمنون المهتدون، ومنهم المغضوب عليهم، ومنهم الضالون، ومنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله. وأي تقسيم غير التقسيم الذي ذكرناه _أي تقسيم الناس إلى أمّة إجابة وأمّة دعوة_ لا يستجيب أو يستوعب صنوف البشريَّة كلها من حيث العلاقات المرتبطة بغاية الحق من الخلق وحكمة الوجود وفلسفتها.
وحين أورث الله أمّة الرسول محمد –صلى الله عليه وآله وسلم- الكتاب واصطفاها من بين عباده، علمها أنَّها أمَّة مسؤولة عن تبني التوحيد ونشر ألويته وإعلاء كلمته في البشريَّة كلها، وفي الأرض كلها. وكلَّف رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- ببناء الأمَّة وتعليمها وتزكيتها وتدريبها لحمل أمانة الدعوة وقد أدّى رسول الله –عليه الصلاة والسلام- رسالته. ووقد انحرف الناس عن التوحيد حين استبدلوا التوحيد المشوب المختلط بالتوحيد الخالص﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ﴾ (يوسف:106)، واستبدلوا الدولة والحكومة بالأمَّة واستبدلوا الفتح والقتال بالدعوة، فانمحت ضوابط وخصائص وصفات تلك القسمة الإلهيَّة للبشريَّة إلى “أمَّة إجابة” و”أمَّة دعوة”؛ ولذلك فإنَّ مسلمي اليوم مطالبون بتصحيح هذا الخطأ وتقويم هذا الانحراف وردّه إلى الأمر الأول، أي التوحيد والأمة والدعوة.
والخطاب الإسلامي اليوم لغير المسلمين ينبغي أن يكون خطابًا منطلقًا من خطاب الدعوة إلى خطاب الإجابة، هذا ما يتعلق بالخطاب الإسلاميّ إلى غير المسلمين. وأمَّا الخطاب “الإسلامي الإسلامي” فهو خطاب إصلاح وتقويم ونبذ لكل ما ابتدع مما أدى إلى الانحراف عن الصراط السوي. ويتم ذلك بالنظر إلى صورة “أمَّة الإجابة “كما رسمها القرآن الكريم وبناها سيدنا رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- ورصد كل ما اعترى تلك الصورة من شوائب وانحرافات، سواء في مجال الإيمان والتوحيد أو مجال الأمَّة وبنائها سياسيّـــًا واقتصاديّـــًا واجتماعيّـــًا وثقافيّـــًا وتربويّـــًا وتعليميّـــًا. ثمّ إعادة بنائها وفقًا للتصور القرآنيّ والتنفيذ النبويّ، فتكون”أمَّة الإجابة” التي استجابت لله وللرسول، ولكل ما دعيت إليه، ولم تقل: ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ (آل عمران:75) ولا: ﴿فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ (المائدة:24) ولم تتواصَ بالباطل، فيقول بعضها لبعض: ﴿أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ (البقرة:76)، بل ليقولوا: “بلغوا عني ولو آية فرب مبلغ أوعى من سامع”، ويستمر العمل في الدعوة إلى أن يظهر الحق والهدى، وتعلو كلمة الله، وينتصر على الدين كله بالهدى وبالحق الذين تحملهما أمّة الإجابة بكل تفاصيلهما وأبعادهما إلى “أمَّة الدعوة”. فالخطاب الداخلي إذن سيكون بصياغة مشروع إحيائيّ وإصلاحيّ وتجريديّ كامل شامل تنبثق عنه “أمَّة الإجابة” بثوبها الجديد، وهي تحمل مشروعًا حضاريّا إصلاحيّا لنفسها وللبشريَّة كافة. فمهمة مؤسستنا اليوم مهمة مزدوجة تحمل خطابًا ذا شقين: شق يجدد ويبعث ويصلح الداخل، وشق ينقل من الداخل الذي يشعر بأهميَّة وخطورة ما ابتعث من أجله لإخراج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن جور الأديان والنظم إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.
أمَّا وسائل الدعوة فتستدعي أولًا: استنفار كل ما هو متوافر من طاقات الأمَّة أو ما بقي منها لصياغة هذا الخطاب ذي البعدين صياغة دقيقة، تستوعب كل ما قدمته حركات الإصلاح والمحاولات المتعددة للإحياء والتجديد، وتقوم بتقييمها وتحليلها، والكشف عن سائر جوانبها لمعرفة ما يمكن تبنيه من هذه الجوانب، وتدعيمه والبناء عليه ومعرفة الأجزاء النسبيَّة التي استنفذت أغراضها في أوقات سابقة، فلم تعد قادرة على تزويد المشروع الإسلاميّ بالفاعليَّة المطلوبة والدافعيَّة المشترطة. ثانيًا: الكشف عن أهم ما وصلت إليه البشريَّة عبر معارك الكلمة والمعتقد، ومحاولات تغيير الأفكار حتى اليوم، ورصد الأفكار الإيجابيَّة التي لها أصول في كتاب الله ودعوة أنبيائه لترشيحها للتوظيف والعمل. ثالثًا: الاستفادة بتجارب البشريَّة عبر التاريخ باستخلاص عوامل وأسباب الإصلاح والتجديد لدى مختلف الأمم، ورصد ما يتقبله القرآن أو يقدم له سندًا ودليلًا وأصلًا يمكن التفريع عليه لتوظيفه في تدعيم هذا الخطاب، وحسن حمله بشقيّه إلى الداخل والخارج.
والله ولي التوفيق.