Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

الفتوى والفتيا

طه العلواني

في القرآن المجيد، جاء قوله تعالى : ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ﴾  (النساء:127)، وقوله تعالى : ﴿فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ﴾  (الصافات:11). وفي السورة نفسها ﴿فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ﴾  (الصافات:149). كما جاءت بصيغة ( أفتوني) في حكاية القرآن المجيد لما قالته ملكة سبأ : ﴿قَالَتْ يَأَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ﴾  (النمل:32). كما جاء في آيات كريمة أخرى فعل السؤال بصيغة ” يسألونك ” في مواضع عديدة منها قوله تعالى : ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ﴾  (البقرة:189)، ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾  (البقرة:215)، ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ﴾  (البقرة:217)، ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى﴾  (البقرة:220)، ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ﴾  (البقرة:222) ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ﴾  (الإسراء:85). وجاء بصيغة ” سأل ” نحو قوله تعالى : ﴿سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ﴾ (المعارج:1)، وبصيغة ” سألك ” نحو قوله تعالى : ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾  (البقرة:186).

ومن المتفق عليه بين غالبية المعنيين بعلوم القرآن أن القرآن المجيد لا تكرار فيه ولا ترادف، وإن لكل كلمة فيه معنى يختص بها.

السؤال والاستفتاء

والسؤال والاستفتاء يشتركان في أن لكل منهما دلالة على طلب معرفة، لكنّ السؤال أعم من الاستفتاء. فالسؤال يمكن أن يكون عن حكم، ويمكن أن يكون عن غيره، مثل السؤال عن الأهلّة وعن الروح. أما الاستفتاء : فإنه مختص بالسؤال عن حكم بشيء أو على شيء. كما إنّ الاستعمال القرآني لمادة ” الفتوى ” ينبه إلى دقة وأهمية ما يستفتى عنه، فكأنه سؤال عن أمور تدق عن كثير من الأفهام والعقول.

وأمر رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – باستفتاء المشركين عن مصدر خلقهم وطبيعته يأتي في إطار التعريض بهم والسخرية منهم مقابل السخرية التي كانوا يواجهون بها الآيات المنزلة على رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – وإلى هذا يبينه سياق قوله تعالى : ﴿فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ﴾  (الصافّات:11). وكذلك سياق قوله تعالى : ﴿فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ﴾  (الصافات:149) فقد كان المشركون يؤكدون إن الملائكة إناث دون أية أمارة أو دليل على ذلك، فهم لم يشهدوا على خلقهم ولم يعرفوا أحدا منهم، ولم يروا الملائكة لكي يحكموا عليها بأنهم إناث، ومع ذلك فهم يعلنون هذه الآراء والأحكام السخيفة ويجاهرون بها ويعتقدون أنها جزء من المسلمات. وعلى ذلك فهو استفتاء إنكاري ساخر وتعريفي يعرّض بجهلهم وغبائهم واعتمادهم فيما يعتقدون أو يقولون على التخرصات والظنون و الأوهام. وكل من الاستفتاء والسؤال أداة ومدخل للتعلم بطريق الاستفهام ؛ كل بحسبه.

والله – تبارك وتعالى – قد نهى عن بعض أنواع الأسئلة في عصر النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – ونزل القرآن فقال : ﴿يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْءَانُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ {101} قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ﴾  (المائدة:101-102).

ولرأفة رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – ورحمته بالمؤمنين نهاهم عن الإكثار من الأسئلة، فقال : ” ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه “. رواه أحمد والنسائي ومسلم وابن ماجه.

أما قوله تعالى : ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾  (النحل:43)، ﴿لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾  (الأنبياء:27) فليس المراد بها في أيٍّ من الآيتين ما اقتبسه بعضٌ شعارا لبرامج الإفتاء وحمّله بعضٌ آخر على الأسئلة الفقهية، وطلب العامي من الفقيه إخباره أو إعلامه بالحكم الفقهي لواقعة يجهل العامي حكمها الفقهي؛ إذ إنها في الموضعين جزء من آية جاء فيها : ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾  (النحل:43).

 إن الرسل رجال من البشر اصطفاهم الله لحمل رسالاته إليهم وليسوا ملائكة ورسول الله محمد – صلى الله عليه وآله وسلم – ليس بدعًا من الرسل فهو بشر مثلكم يأكل الطعام ويمشي في الأسواق. وبشرية الرسول _صلى الله عليه وسلم_ لا تنافي اصطفائه نبيا ورسولاً، فاسألوا سائر الأمم السابقة لكم من الذين أرسل الله إليهم رسلاً وأنزل عليهم كتبًا أو صحفًا ؛ لتعلموا أنه لم يكن أحد من رسل الله إلى الناس من غير النوع البشري، فكلهم بشر مثلكم، ومثل أقوامهم.

وتعلل الكفار والمشركين ببشرية الرسل لرفض الإيمان بهم، شبهة ألقاها الشيطان إليهم ليدفعهم نحو الغرور بهذه الشبهة وتسويغ رفضهم للإيمان بالنبوات بحجة أنهم ما داموا بشرا مثل أقوامهم الذين أرسلوا إليهم. فلماذا يميزهم الله عن سائر البشر بصطفائهم برسالته وبكلامه ؟!  ولذلك فإن في هذا الاقتباس الذي أخذ بعضٌ منه وجوب استفتاء العوام للفقهاء فيه إخراج للآية من سياقها وتحمّلها معنى لا تحمله إلا بتكلف، وتكريس عقلية التقليد التي وردت آيات وأحاديث لا تحصى في ذمه، والتحذير منه، فالأصل في التدين ” الاجتهاد” لا ” التقليد ” ( [1]) . ولذلك فقد اختلف العلماء في كثير من مسائل التقليد مثل عدم جواز الفتوى بما يحكيه عن آخرين من المجتهدين خاصة الموات منهم، وفي النقل عن المجتهدين الأحياء خلاف – أيضا – إلا إذا توفرت شروط دقيقة.

مفهوم الاستفتاء

ومما مر يمكنا القول بأن ” الاستفتاء “: طلب ” الفتوى ” من مرجع له أن يفتى لمن لم يستطيع الوصول بجهده واجتهاده إلى معرفة حكم شرعي أو فقهي في واقعة أو نازلة أو حادثة هو في حاجة إلى معرفة حكمها الفقهي.

 وأما “الفتوى” : فهي – لغة – : ” بفتح الفاء والواو أو بالياء فتضم الفاء ” الإبانة في اسم – من ” أفتى العالم السائل ” إذا بين له الحكم الفقهي. ويقال : أصله من ” الفتى ” وهو الشاب القوي واستعير لما يحدثه ويبينه المفتي للسائل من جواب، فهو مجاز بعلاقة الحداثة أو القوة الناجمة عن إيضاح المفتي ( [2]) . وذلك بأن السؤال يجب أن يصاغ بقوة وجد، وكذلك الجواب ينبغي أن يتسم بالقوة والجد اللازمين للتعامل مع فقه الدين والتدين.

أمّا الفتوى اصطلاحًا، فلها معنيان. الأوّل: هي الجواب عما يشكل من الأحكام الشرعية ([3])  ففي التنزيل ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ﴾  (النساء:127)، و ﴿فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا﴾  (الصافات:11) وهنا استعملت في سؤال المشركين عن مصدر خلقهم وطبيعته، لتتضمن نوعا من السخرية بهؤلاء المشركين الذين يواجهون رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – بالسخرية، ويواجهون الآيات المنزلة عليه والآيات التي يريها لهم بتكلف السخرية والتظاهر بها. فحين يؤمر الرسول – صلى الله عليه وآله وسلم – باستفتائهم : أهم أشد خلقا أم من خلق الله من غيرهم ؟ ثم يعجل لهم بالإجابة : ﴿إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ﴾  (الصافات:11) . ثم يعاد الأمر ﴿فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ﴾  (الصافات:149) ليبين لهم بذلك مدى سفههم، فهم لا يسألون إلا لتفريعهم وبيان سخف دعواهم الباطلة وافتراءاتهم.

وفي (النحل:32) ﴿قَالَتْ يَأَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ﴾  طلبت منهم الرأي والمشورة والنصيحة لتتخذ الموقف الملائم تجاه رسالة سليمان وإنذاره لها ولقومها.

والمعنى الثاني: هي الإخبار بحكم الله – تعالى – أو حكم رسوله – صلى الله عليه و سلم – في نازلة سأل المخبر عن حكمها.

و ” المفتى ” : هو المخبر بحكم الله – تعالى – أو حكم رسوله – صلى الله عليه و سلم – لسائله عنه. واعتبر معظم الأصوليين : إن ” المفتي والمجتهد ” مترادفان من حيث المعنى لتساويهما في الشروط ( [4]) . ولكن هذا لا يعني : ” إن الاجتهاد والفتيا ” مترادفان. فالفتيا : ثمرة الاجتهاد وفرعه  ( [5]) .

 ( [1] ) – وذلك لأن التقليد عبارة عن ” قبول قول الغير بلا حجة ولا دليل ” على ما في أحكام الأحكام للآمدي ( 4 / 221 ) ط. الرياض، والمستصفى للغزالي ( 2 / 387 ) وبهامشه مسلم الثبوت ( 2 / 400 ) وجمع الجوامع وشرحه بهامش الآيات البيانات ( 4 / 161 ) وإرشاد الفحول ( 234 ) والتعريفات ( 57 ) وقد نص الرازي في المحصول ( 6 /93 ) على أن الأمة اجتمعت على أنه لا يجوز تقليد غير المحق، وذلك يعني أن على العامي معرفة الدليل، ووجه الاستدلال به. ومن العلماء من أوجب على المقلد الاجتهاد في اختيار المجتهد الذي يقلده.

 ( [2] ) – انظر المصباح 631 – 632.

 ( [3] ) – انظر مفردات الراغب 373 ومعجم ألفاظ القرآن ( 2 / 314 ).

 ( [4] ) – انظر : أصول مذهب الإمام أحمد 653.

 ( [5] ) – انظر أدب القاضي ( 1 / 264 – 265 ).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *