د.طه العلواني
منذ عقود من السنين تنبَّهت أعداد كبيرة من الدعاة المتصلين بحركات إسلاميَّة أو المستقلّين إلى إفلاس معظم البرامج التثقيفيَّة التي تبنتّها الحركات الإسلاميَّة المعاصرة منذ بدايات القرن الماضي وفقدان تلك البرامج الفاعليَّة المطلوبة لتقديم ما من شأنه تحريك طاقات الأمَّة المسلمة، وتجديد خلاياها وحضّها على تبنيّ مشروع نهوض _إن لم يكن موحَّدًا فلا يكون مختلفًا فيه وعليه_ .
وحين أدرك الناس ضعف تلك البرامج، وبرزت مجموعات الدعاة الجدد، وأطروحاتهم المتعدّدة ظهرت على أيدي بعضهم أفكار “التدريب” و”دورات التدريب” التي تأخذ عناوين جذابة، يؤخذ بعضها من التراث مثل “دورات الرواحل” التي استقوا عنوانها من الحديث الشائع: “الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة” وبعضها أخذ من المعاصرة مثل “دورات التدريب القياديّ” و”دورات التنمية البشريَّة” وما شاكل ذلك. وصارت تقدَّم فيها برامج تتناول الإبداع والتفكير الخلاق The Creative Thinking وكيفية التغيير في سلوكيّات الناس، وعاداتهم نقلت من ثقافة الـ Business في الغرب إلى قضايا الأفكار ببعض التعديلات، واستخدمت فيها المعارف الإسلاميَّة.
وكعادة بلداننا وشعوبنا المأزومة الممزّقة بعد أن تقطع أشوطًا تطول أو تقصر في شيء ما ولا تحصل على نتائج عاجلة سرعان ما يدركها الملل، ويدبّ اليأس إلى نفوسها من جديد لتتركه وتبحث عن سواه؛ لأنَّ التخلّف والقلق وعدم وجود القيادات القادرة على تعليم الجماهير الأفكار والصبر عليها إلى أن تتجاوز المراحل الجنينيَّة، والحضانة والطفولة وتأخذ دورتها الطبيعيَّة في تدرُّج ملائم إلى أن تبلغ مستوى استقطاب طاقات الأمَّة وتفجيرها في وقت مناسب لإحداث حالة “الوعي بالإصلاح والتجديد، ثم ممارسة الإصلاح والتجديد، ثم التقويم والتسديد … إلى بلوغ المرحلة النهائيّة المشار إليها. وهنا تعلو بعض الأصوات من هنا أو هناك بطرح جديد في شكله أو أسلوبه أو موضوعه فيتعطف الناس إليه حتى حين. وهكذا..
وقد تنبَّه دعاة كثيرون من حركات إسلاميَّة سابقة ومستقلّون كذلك إلى أنّ مرجعيَّة القرآن المجيد –خاصّة لم تأخذ حظها من الاهتمام في بناء عقليّات حملة الدعوة. أملى محمد عبده (ت: 1905) دروسًا في التفسير جمعها رشيد رضا فكتب وأضاف عليها لتصبح “تفسير المنار” وكتب ابن بادريس “مجالس التفسير” وكتب آخرون منهم المودوديّ كتابه “تفيهم القرآن” للجماعة الإسلاميَّة في القارة الهنديّة. وكتب سيد قطب تفسيره “في ظلال القرآن” وتبعه سعيد حوّي في كتابه “الأساس في التفسير”. وكان لدروس الشيخ محمد متولي الشعراوي في التفسير أثر جعل الكثيرين يلقبونه بمقتضاه “بإمام الدعاة” و”مجدد القرن” وما تزال الفضائيات تستبق لتقديم تلك الدروس معادة لشدة اهتمام المستمعين، كما كتب الشيخ الغزاليّ تفسيرًا موضوعيًّا، وكتب الخولي، وكتبت بنت الشاطئ ومحمد المدني وغيرهم.
وفي الجانب الشيعي صدرت كتب كثيرة، منها كتاب محمد باقر الصدر “المدرسة القرآنيَّة” وكتاب المدرسي “من هدي القرآن تفسير كامل” و”الصادقي” وغيرهم.
وما ذكرنا وما لم نذكر يصنف في كتب التفسير، فهي كتب تفسير أعدت وفقًا لقواعد التفسير واتجاهات المفسرين، لكنّ أصحابها لم يعدموا الوسائل لتحميل تفاسيرهم كثيرًا من أفكارهم ورؤاهم الخاصّة. وإذا عرفت التصانيف السابقة في التفسير ستة أنواع من التفسير، هي: التفسير الآثاريّ، والتفسير الإشاريّ، والتفسير العقليّ، والتفسير البيانيّ، والتفسير الموضوعيّ، ثم التفسير العلميّ فقد تضيف إليها صنفًا سابعًا هو “التفسير الدعويّ أو الحركيّ” وهناك “التفسير الفلسفيّ” الذي حاول الجابريّ قبيل وفاته الكتابة فيه بطريقته هو، ويعتزم أبو يعرب المرزوقيّ إصدار تفسير فلسفيّ كذلك. وهناك تفاسير عدديّة ورقميَّة ورياضيّة صدرت عن بعض العلمييّن بصيغ متنوعة، ويعمل بعض الروحانييّن على إعداد وإصدار تفاسير وجدانيّة تقوم على نوع من التدبّر بطرق قريبة من طرق بعض مشايخ الطرق الصوفيّة في خلواتهم المتنوعة، لكن هذه الخلوات تركز على تدبُّر القرآن. وكثيرًا ما يكون هناك مرشد يوجه المتدبّرين للوسائل والطرق التي تجعل تدبُّرهم محققًّا للأهداف!! وتفاسير الصوفيَّة عمومًا تتّسم بالإشاريّة والرمزيَّة وتقوم على الذوق والوجدان، وما ينطلق من هذه المنطلقات لا يعد مما يصلح للتعميم.
ونحن نرحب بكل أنواع التدبُّر فأيّ فعل يؤدي إلى نبذ حالة القطيعة بين القرآن والأمَّة مرحبٌ به، لكنّ الموجهين والمرشدين الذين يشرفون على حلقات التدبّر ودوراتها مسئولون أمام الله ورسوله والقرآن عن إحكام عملهم وضبطه بضوابط القرآن المجيد، وذلك يقتضي ما يلي:
تعريف المتدربين بالقرآن الكريم وحقيقة تلاوته وترتيله، والفروق بين “التلاوة المجرّدة” و”التلاوة حق التلاوة” وقد وردت في القرآن مفرقة، وعلّمها رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلّم- لقراء جيل التلقي الذين كانوا يأخذون عنه مباشرة. ومعالم هذه التلاوة أن تكون منضبطة بضوابط تلاوة المتلقي الأول –صلى الله عليه وآله وسلّم-. وتلاوته –صلى الله عليه وآله وسلّم- لها جانب شكليّ، وجانب معنويّ: أما من حيث الشكل فهي تلاوة يأخذ كل حرف منها حقه من الصوت، ويحرص على إخراجه من المخرج الخاصّ به. وتلاحظ الوقوف المأثورة عنه صلوات الله وسلامه عليه- لما لذلك من علاقة وطيدة في إفادة المعاني، وكذلك الالتزام بالفواصل وقد يكون من الملائم الوقوف عند كل فاصلة، إلاّ عددًا يسيرًا ومحدودًا من الآيات التي تحتاج إلى الوصل بما يأتي بعدها لتفهم.
وإذا كان من الممكن معرفة نجوم السورة من مصادر موثوق بها فمن المفيد للمتدبّر معرفة ذلك النجم وما اشتمل عليه وأين نزل، وإلاّ فقد يكفي الكشف عن التناسب بين الآيات داخل السورة، وبين السورة وما قبلها وما بعدها، وإعطاء فكرة عامَّة عن موضوعاتها بعد تحديد عمود السورة الأساسي. وهذا ممّا يمكن الوصول إليه بالتدبُّر.
كذلك من المهم تعريف “المتدبّر المتدرِّب” بعادات القرآن وأساليبه عندما يذكر أخبار الأمم السابقة، وكيف يقود المتدبّر للكشف عن العبرة والدرس. وعاداته في عرض قصص الأنبياء ومواقف أممهم منهم، وعاداته في إرشاد النبيّ إلى ما يجعله قريبًا إلى قلوب المقسطين الحكماء من قومه: ]وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ[ (آل عمران: 159) و]جَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ[ (النحل: 125) و]وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ[ (آل عمران: 160)، ]قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ[(الأنعام: 90). وعاداته في مخاطبة سفهاء قومه الذين يواجهونه بالصد والعداء ]سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ[ (القصص: 55) وعاداته في عرض الأحكام ومشاهد القيامة، وعرضه لقضايا وعاداته مع الخائفين الألوهيّة والربوبيّة والتوحيد والصفات ففي كل جانب من هذه الجوانب: “نورد الآيات للقرآن عادات لابد لمن يتولَّىٰ تدريب المتدبّرين أن يعرفها ويتقنها ويحرص على تعليمها للمتدبّرين قبل أن يبدأوا خطواتهم الأولىٰ في ممارسة التدبُّر.
كما إنّ لسان القرآن، وإن كان لسانًا عربيًّا مبينًا فإنّه لسان يتصّل بالعربيّة وينفصل عنها فهو من حيث الجملة يتصل بالعربيَّة أوثق اتصال بيد أنّه ينفصل عنها بما يلي:
- أنّ القرآن المجيد نزل عن استعمال إلهيّ للسان العربيّ لا بشريّ وفرق كبير بين الكلمات حين يستعملها الله –تبارك وتعالى- لتكون معبّرة عن علمه المحيط بكل شيء، وحين يستعملها الإنسان النسبيّ “فالبيان” صفة وسمة لا تفارق اللّسان في الاستعمال الإلهيّ لارتباط العلم الأزليّ بالقدرة الأزليّة “يريد الله ليبيّن فما من بشر ولا جن ولا ملك يستطيع أن يجعل كلامه تبيانًا لكل شيء، أمّا الباريّ –سبحانه وتعالى- فقد جعل كلامه تبيانًا لكل شيء.
- ويترتب على ذلك إضافة للتحدي والإعجاز والتفرّد بالنظم والأسلوب والطاقات البيانيّة الهائلة، أنّه يجمع بين “التبيان والمكنون” فكونه تبيانًا لكل شيء لا يعني أنّه لا مكنون فيه. بل إنّ كونه كتابًا مكنونًا يعد سمة من سماته ففيه مكنون يتكشّف عبر الزمن ومكنون يتكشَّف مع الأحداث؛ ولذلك فإنّ من يدرّب الناس على التدبُّر لابد له من معرفة ذلك ولفت أنظار المتدبّرين إليه.
- إنّ القرآن قد نبّه إلى خطورة قراءة القرآن “عضين” أي أعضاء مجزّأة على طريقة “ويل للمصلين” ويسكت، فهذا النوع من القراءة يضر بالتدبّر فلابد من تحذير المتدبرين منه.
- إنّ في القرآن إحكامًا وتفصيلاً، لابدّ لمن يتولى التدريب على التدبر من معرفة كل منهما بصفاته وشروطه ومعالمه.
- إنّ في القرآن ما هو “مطلق وما هو نسبيٌّ”، وفي بعض الأحيان يتجاور المطلق والنسبي في آية واحدة. ولا يستطيع المتدبّر أن يتجاوز ذلك أو يتجاهله؛ لأنّ الفرق كبير بين النوعين. والجهل بشيء من ذلك يؤثر سلبًا على عمليَّة “التدبّر”.
- إنّ هناك أحاديث صحيحة يصدّق القرآن عليها ويهيمن. وهذه الأحاديث والسنن الفعلية وغيرها لابد “للمتدبّر والمدرّب على التدبّر” أن يعرفوها؛ لأنّ في بعضها بيانًا نبويًّا للقرآن لا يسعنا إلاّ الالتزام به وملاحظته عند التدبّر؛ لأنّه يعتبر ثمرة “تدبّر نبويّ معصوم” و”اتّباع نبويّ” للقرآن. ولا شيء يمنع من محاولة فهم منهج رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلّم- في اتباع القرآن وفهمه وتأويله عمليًّا؛ بل إنّ ذلك سوف يكون جزءًا هامًّا في مجال التدبر. يعود على المتدبّر بفوائد لا يمك الاستغناء عنها أو التقليل من شأنها.
- إنّ ما ذكرناه وما قد نذكره لاحقًا في هذا المجال قد يؤسّس “لعلم تدبّر” يمكن أن يبدأ بمثل هذه البدايات البسيطة أو “السهلة على أهلها والممتنعة على غيرهم” يجعل من “التدبُّر” الوسيلة الأساس في إعادة بناء “العقل المسلم” وجعله عقلاً فعَّالاً مؤيَّدًا بالقرآن المجيد ومسدَّدًا به. وإذا لوحظت الضوابط المذكورة فإنّ كل مدرّب مخلص على التدبّر سيضيف من خبراته وتجاربه ما يجعل من “التدبّر” علمًا قرآنيًّا لا يستغنى مؤمن مسلم عنه، بل لا يستغنى عنه قارئ للقرآن آيًا كان.
- وإذا استمرت هذه المحاولات الطيّبة تجرى في إطارها الفردي الوجدانيّ دون ضوابط فإنّني أخشىٰ أن نجد أنفسنا في فوضى جديدة يظنّها البعض ناجمة عن “التدبّر” وليس الأمر كذلك، لأنّ “التدبّر” بضوابطه الشرعيَّة لا يأت إلاّ بخير. أمّا هذا الذي قد يُشيع الفوضى فإنَّه “مجرّد تأمُّلات وجدانيَّة حرّة” تخضع للقدرات الإدراكيّة للمتأمّل وثقافته ولغته وسائر مؤثرات عصره وبيئته، فتعميمها في دورات أو كتب أو فضائيّات يعدّ تعميمًا لما لا يصلح للتعميم.وقد يؤدي –لا سمح الله- إلى بروز باطنيَّة جديدة، أو غنوصيَّة حديثة أخطر ما فيها أنّها تدور حول القرآن المجيد –كتاب الله الكونيّ الخالد.
- إنّني لا أخشى المحاولات الناقصة على القرآن ذاته، فهو كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا خلفه، ومنزله –جل شأنه- يغار عليه ويحميه ولن يسمح لأحد بمصادرة أنوار هدايته. ولكنني أخشى على أمتنا وهي في حالة “الوهن والغثائيّة” التي تعيشها أن تجتال عن القرآن وتصدّ عنه، وهي لم تؤت إلا من حالات صدّ قديمة آتت أكلها المر في الصد عن القرآن، ودفع المسلمين بعيدًا عنه.
- إنّ علماء الأمَّة قد اختلفوا في التفسير وعليه حتى صرح العديد منهم بأنّه يتمنّىٰ لو اختفت بعض أنواع التفسير، لأن بعضها وكثيرًا من أنواع “التأويل” تحولت إلى حجب ووسائل صدّ للناس عن القرآن المجيد. ولحد الآن وأهم العلم يناقشون مسألة “ما إذا كان التفسير يصلح أن يطلق عليه أنّه علم مع وجود آلاف الكتب والمصنفات فيه، وشيوع أهم أصوله” وذلك لشدة وحدَّة الاختلاف فيه.
ولذلك فإنّنا نتمنّىٰ أن لا يكون حظ “التدبّر” مثل حظ التفسير، بل نريد “التدبّر” علمًا منضبطًا في قواعده وأصوله وجزئيّاته سهلاً في تعميمه، وتعليم قواعده يؤدي إلى تيسير القرآن للذكر، وجعل “التدبّر” وسيلة أساسًا لبناء الوعي لدى الأمَّة والأخذ بيدها إلى معارج الخيريّة والشهادة من جديد. والله الموفق.