Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

آثار الاستبداد

د. طه جابر العلواني

إنَّ ما تمرّ به بلادنا العربية من أحداث، ليست مُستغربة؛ بل هي أحداث طبيعية. فبعد أن نشأت أجيال عديدة فى ظلِّ الكبت وتقييد الحرِّيَّات أو إلغائها، واستبداد أفراد بمصير شعب كامل استبدادًا شموليًّا ألغى الإرادة ودمَّر الفاعليَّة وصادر الحريَّة وألغاها من واقع الناس وفكرهم وحياتهم. وبالتالى فإذا سقط الاستبداد -بقطع النظر عن البديل الذي يأتي بعده- فلا بد أن تعقبه فوضى وتفكّك، وأن تجري عليه سُنَّة: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا﴾ (الفرقان:23) فكلّ ما صنعته الديكتاتوريّات السابقة، والحاشية التي تُسمّى حزبًا يُصبح هباءً منثورًا.

لكن التخريب الذى يفعله الاستبداد فى النفوس والعقول والقلوب تبقى آثاره المدمّرة فترات طويلة؛ ولذلك لا بد للعلماء وقادة الرأي ورجال الفكر والدعوة من بذل جهود منظّمة مدروسة متواصلة لا تهدأ لإزالة الاستبداد من نفوس الناس ومن عقولهم وقلوبهم؛ حتى يطمئنوا إلى أنَّ الشَّعب قد برئ، وتمّت عمليّة تنقيته من سائر آثار الاستبداد وتدمير الإرادة والطاقة لدى أبناء الأمَّة.

ولقد حفل القرآن المجيد بقصص كثيرة من قصص المستبدِّين وآثار استبدادهم فى أممهم وشعوبهم، والتي من أقلّها فقدان الفاعليَّة وتدمير الإرادة وتحطيم الدافعيَّة، وتحويل الشعب إلى طبيعة قطيع ليتبعهم، وعقليَّة عوام ليسهل التلاعب بها، وليسلس للمستبدين قيادتها، وجعل نفسيّة الشعب نفسيّة عبيد ليسهل على الحكّام إذلاله ولتسهل قابليَّته للاستحمار والاستذلال لتكون جزءًا من حياته؛ وبذلك يحافظون على استبدادهم. وقد يكون بنو إسرائيل مثلًا لا يمكن تجاهله ولا تناسيه، فهم نموذج للتأثير المدمر للاستبداد في الأمم، فهذا الشعب -الذي عاش قرونًا فى ظل استبداد فراعنة يذبحون أبناءه ويستحيون نساءه- رغم ما منَّ الله عليه بإغراق المستبدّ وجنده، وإنقاذ بني إسرائيل منه، ونقلهم إلى الأرض المقدَّسة، وإعلان الله نفسه ربًّا وإلهًا وحاكمًا لهم في أرض مقدَّسة، رغم كل ما سبق فقد ظلّت آثار الاستبداد فيهم، وبقيت مستمرَّة، لتُصادر حاضرهم وتدمِّر مستقبلهم: ﴿قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ (الأعراف:138)، وإذ صنع السامريّ لهم عجلًا: ﴿فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ﴾ (طه:88)، وسارعوا إلى عبادة العجل، مع علمهم أنَّه مجرَّد عجل ذهبيّ مصنوع لا يملك لهم شيئًا على الإطلاق، ولكنّ تلك طبيعة الاستبداد؛ يدمِّر كلَّ مقوّمات الإنسانيَّة.

نحن اليوم أمام ثورات، لا ثورة واحدة، علينا أن نقوم بها لإزالة آثار الاستبداد وإعادة المقوِّمات الإنسانيَّة لشعبنا، والتَّخلّص من عقليّة العوام، وطبيعة القطيع، ونفسيَّة العبيد، فى ثورات متَّصلة لا تتوقف حتى يحدث التطهّر التَّام من آثار الاستبداد فى العقول والنّفوس والوجدان. حيث إنَّ الاستبداد قد تغلغل في كلِّ شيء، وصنع لنفسه ثقافة تراكمت آثارها في النّفوس، وجعلتها تحنّ إلى الاستبداد، وأوجدت ميولًا ودوافع واتجاهات لتكريس أخلاق وسلوكيَّات الاستحمار والاستعباد -حين كان قائمًا- ولإعادته بعد سقوطه، فالتحدي الذي يواجه أمَّتنا اليوم هو كيف نطهِّر نفوسنا وعقولنا وقيمنا وأخلاقنا وأساليب حياتنا من طبائع الاستبداد المدمِّر. ألم ترَ إلى بني إسرائيل الذين كانوا يُنزَّل عليهم المنَّ والسلوى، قال تعالى: ﴿وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ (البقرة:57)، لكنّهم حنُّوا إلى حياة العبوديَّة في سبيل أكلة بصل وثوم ممَّا كانوا يتناولون في أرضها، قال تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ﴾ (البقرة:61).

 على النّاس أن يثوروا على الاستبداد ويقوموا لله مثنى وثلاث؛ ليُقسموا أنَّ لا عودة للاستبداد بأيِّ شكل وتحت أيِّ شعار، وأنَّ ثورتنا مستمرة حتى نُخرج العقول من السذاجة والسَّطحيَّة، ونحول بينها وبين مَنْ يعبثون بها، فلا نجعلها عقليَّة عوام، ونُخرج شعبنا من طبيعة القطيع ونفسيَّة العبيد، وذلك بترسّم خطى القرآن، قال تعالى: ﴿ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ (النحل:75)، و: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا﴾ (الطلاق:2)، فإذا تحلَّينا بالتقوى، وأصبحت التَّقوى لنا مَلَكة، حينها يفتح الله لنا أبوابًا من الخير؛ ومن بين هذه الأبواب أبواب الرِّزق، من حيث نحتسب ومن حيث لا نحتسب. قال تعالى: ﴿إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (الأعراف:128)، ومَنْ يدرى، فإنّ مَنْ أخرج الغاز والذهب من أرضنا، سيخرج معادن أخرى ويُبارك لهذا الشعب ويُنزل عليه بركاته، وذلك ليس من قبيل الأحلام، لكنَّه الحقيقة، فالله هو مالك الملك يؤتي الملك مَنْ يشاء وينزع الملك ممن يشاء.

أمّا إزالة آثار الاستبداد فهي ضروريَّة؛ سواء كانت آثارًا صغرى أم كبرى، والحكمة ضالّة المؤمن. وقد تساءل «لينين» قائد الثورة البلشيفيّة قبل وفاته أنَّه لا يشعر بأنَّ الثورة قد حققت أهدافها؟ فأجابه أحد المفكِّرين الرُّوس بقوله: أود أن أسألك عن مُوزّعي البريد وكنّاسي الشَّوارع فى عهد القيصر، أما يزالون حيث هم؟ فأجاب «لينين»: هذه فئات لا تأثير لها، وقد قمنا بتطهير الجيش وقوَّات الأمن، فما تأثير هؤلاء؟ فأجابه: إنّ عمال النَّظافة يستطيعون أن يُفجِّروا ثورة ضد الثورة إذا جعلوا الناس يقارنون بين نظافة المدينة فى عهد القيصر ووساختها بعد الثورة، فذلك يدفع العامة لتفضّل عهد القيصر على عهد الثورة. وكذلك عمّال البريد، إذا قصّروا ولم تعد الرسائل تصل فى مواعيدها فسيقول الناس: إنَّ عهد القيصر خير من عهد الثورة وهكذا… إذن لا بد من إزالة آثار الاستبداد بأسرع ما يمكن، فهم عبء على الشعب، ووسائل مصادرة وعرقله وتدمير للثورة وأهدافها، ولن يرضى هؤلاء أن يروا الشعب قد تخلّص من تلك الأمراض وسار ليشقّ طريقه نحو التحرّر وإعادة بناء الذات على تقوى من الله وهداية من كتابه وتأسٍّ واقتداء من رسوله الكريم صلَّى الله عليه وآله وسلّم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *