أ.د. طه جابر العلواني
إن الله تبارك وتعالى قد خلق الإنسان فسوّاه وعدله، وخلقه في أحسن تقويم وكرّمه بأعلى أنواع التكريم، وأسجد له ملائكته، وسخّر له مخلوقاته، وائتمنه على ما خلق، واستخلفه في الأرض وائتمنه على وحيه، وهداه النجدين، وأوضح له الصراط المستقيم. ومكّنه من توحيد ربه، وتزكية نفسه، وإعمار الأرض والكون، وقيادة قافلة التسبيح لله –جل وعلا. فلله الحمد في الأولى وفي الآخرة وله الحمد في السماوات والأرض وله الكبرياء سبحانه تعالى عما يصفون.
إن الله –جل وعز- إذ خلق الإنسان على ذلك الوضع القويم، زوده بكل ما يمكّنه من أداء مهامّه، والقيام بدوره وأحاط إنسانيّته بمجموعة كبيرة من الضمانات ليتمكن من توحيد ربه، وتزكية نفسه، وإعمار الأرض، وإقامة الحق والعدل فيها. وتلك الضمانات التي جاء الوحي الإلهيّ بها لو روعيت حق الرعاية، وتضافرت الجهود على إرساء دعائمها لشكلت درعًا حصينًا لحماية الإنسان وجودًا وقيمًا وحقوقًا؛ لكنّ البغي والاستعلاء، والرغبة في التسلُّط رغبات كامنة في طبيعة البشر، وشهوات عاتية قد يدفع الشيطان بعض الغافلين عن ذكر الله –تعالى- وعن الوعي بحقيقة إنسانيّتهم إلى الاستكبار في الأرض، والاغترار بأنفسهم، والاستعلاء على إخوان لهم في الإنسانيَّة والبشريَّة واحتقار نظرائهم وأشباههم فيها، يوهمهم الشيطان بذلك أنّهم يحقّقون ذواتهم، ويتميّزون عن النوع الذي ينتمون إليه. غافلين عن أنّ أكرم الخلق على الله –هم المتّقون- فأعلاهم كرامة، هو أكثرهم تقوى؛ أمّا الاستبداد والاستعلاء الكاذب فهو ذل وصغار عند الله، وبغض وحقد واحتقار لدى الناس.
و”حقوق الإنسان” بكل تفاصيلها أنبتها الله نباتًا في كينونته، وأحاطها بسياج من تكريمه واستخلافه وعهده وائتمانه وابتلائه.
وفي حصر عبوديَّة الإنسان بالله –جل شأنه- وهي عبوديَّة تكرّس الحريَّة الإنسانيّة وتدعمها، وترقى بالحقيقة الإنسانيَّة ارتقاءً يجعل من تلك الحقيقة الإنسانيَّة بكل دقائقها أعزّ وأعلى وأكرم من أيَّة حقيقة أخرى في الخلق. لا تعلو عليها إلا حقيقة “إلهيَّة” وذلك لا يمثل علوّ استلاب، بل علو ارتقاء بالإنسان وتكريم. وكثيرًا ما يعلّل الله –سبحانه وتعالى- بعض نعمه بتعليل يرفع الإنسان إلى مصافّ لولا لطفه تعالى ما كان للإنسان أن يبلغها في خياله. من ذلك ما جاء في قوله تعالى: [رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا] (النساء:165) فأن يجعل الله –سبحانه- للإنسان الحق بأن يحتج عليه لو لم يهده سبله، ويرسل إليه رسله، ويزوّده بقوى الوعي، وطاقات التمييز. ذلك –وحده- يدل دلالة قاطعة على أنّ عبوديَّة الإنسان لله –تعالى- هي تكريم لا استلاب، وتسديد وترشيد لا استبداد، وإعزاز له لا إذلال. وقد أوجب الله –جل شأنه على الإنسان واجبات، وحرّم عليه محرّمات، وحدّ حدودًا ونهى عن تجاوزها، كل ذلك لإصلاح شأن الإنسان، وتسديد مسيرته في هذه الحياة وإعانته، على القيام بحق الاستخلاف وحفظ الأمانة، لا لاستلاب الإنسان، وتجريده من طاقات باسم الإيمان بالغيب والتعبُّد او العبوديَّة لها.
إنّ “الاستخلاف الإلهيّ” يمنح الإنسان سيادة وحريَّة وحقًا لا يمكن استلابه بأيّ منطق في الحياة الدنيا، فالإنسان بطرفيه الذكر والأنثى مكرّمان وهذه الكرامة حق ثابت ليس لأحد أن ينقص منه شيئًا، فلا يمكن إقرار أي فكر أو عمل يؤدي إلى احتقار المرأة أو التقليل من شأنها. وإذا انحرف الإنسان فلا يعني ذلك تحقيره، أو وصفه بالدونيَّة عن سواه، فهو لم يفقد خصائصه الإنسانيَّة؛ ولذلك فإنّه عندما يتوب فإنّ التائب من الذنب كمن لا ذنب له. وإذا عوقب أو جوزي على ما فعل فتلك كفّارة وطهرة له لا تبيح لأحد تحقيره أو تعييره أو مصادرة أيّ حق من حقوقه، ولا يعامل كما تعامله بعض الإجراءات التعسُّفيَّة –اليوم- بأنّه من “أرباب السوابق”.
و”الاستخلاف ومقاصد العمران” تجبُّ أيَّة نظرة دونية للحياة، وترفضها، وترفض ذرائع الاستبداد والاستلاب والتمييز العرقيّ أو الطائفيّ أو اللونيّ أو أيّ نوع من أنواع التمييز التي قد تؤدي إلى استعلاء بعض البشر على بعض. كما أنَّ “تكريم الله –تعالى- للإنسان واستخلافه له يحول دون النظر إلى الحياة الدنيا على إنّها وليدة خطيئة وخطأ، وأنّ على الإنسان أن يتحمّل فيها سائر ضروب القهر والإذلال والحرمان والصبر على ذلك –كلّه- والاستسلام لها؛ لأن ذلك في نظر دعاة الاستلاب والاستسلام ثمن دخول الجنّة في الدار الآخرة. وهنا يقود أولئك إلى اضطراب كبير في مفهوم “الجنّة” ذاتها؛ لأنّها تصبح والحالة هذه ميدانًا للتنفيس عن أصحاب الغرائز المكبوتة، وحملة عقد الاضطهاد في الدنيا. في حين جعلها الله –تعالى- دار قرار للنبيِّين والصدِّيقين والشهداء والصالحين.
و”الصالحون” مفهوم واسع شامل للعلماء العاملين بكل تخصُّصاتهم، ولعباد الله الذين يمشون على الأرض هونا [وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا {63} وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا {64} وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا {65} إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا {66} وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا {67} وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا {68} يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا {69} إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا {70} وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا {71} وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا {72} وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا {73} وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا {74} أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا {75} خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا {76} قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا {77}] (الفرقان:63-77). وعباد الله –تعالى- الموصوفون بما ورد في سورة المؤمنون” من (1-11) [قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ {1} الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ {2} وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ {3} وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ {4} وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ {5} إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ {6} فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ {7} وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ {8} وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ {9} أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ {10} الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {11}] وغيرها من آيات الكتاب.
وأفضل نعيم الجنّة النظر إلى وجه الله الكريم. فكيف حوّلت الثقافة مفهوم الجنة إلى مكان للبلهاء “إنّ أكثر أهل الجنة البله” والمتقاعسين عن العمل لنيل حقوقهم، وتحقيق الحياة الطيّبة في ظلال الإيمان والتقوى. والكسالى المتبطّلين الذين لا يرجون لدفع ضرّ ولا لجلب نفع. أُثر عن الإمام عليّ قوله: “عجبت لمن عضّه الفقر بنابه كيف لا يحمل سيفه، ويخرج ليقاتل من حرمه” وأثر عنه أيضًا قوله: “ما أتخم غني إلاّ بجوع فقير”. فالحقوق إذا لم تجد من يطالب بها، ويأخذها ويحيطها بسائر ضمانات الحماية فإنّ مآلها إلى الضياع. وحين يعجز الإنسان عن الحصول على حقوقه أو حفظها وحمايتها بعد الحصول عليها فآنذاك قد تجب عليه مغادرة الدار أو الوطن الذي لا يستطيع الحصول فيها على حقوقه وحمايتها: [إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا {97} إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا {98} فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا {99}] (النساء:97-99) فأيّ حضّ وتحريض للمؤمن للمحافظة على حقوقه والمطالبة بها، وعدم التهاون أو التفريط بها. ولذلك فإنّ القرآن قد يتجاوز مفهوم “الحقوق” ليجعل من بعض “حقوق الإنسان” واجبات وفرائض يمتزج فيها حق الله وحق الإنسان، لأنّ الله –تبارك وتعالى- أعدل وأحكم من أن يكرّم الإنسان ثم يبيح لأحد أن ينال من تلك الكرامة التي منذ الله –تبارك وتعالى- عليه بها. لذلك فإنّنا أحوج ما نكون اليوم إلى بناء دعائم لا تنهدم لثقافة “حقوق الإنسان وواجباته” و”حدود كرامته” وجعلها في إطار مواثيق اجتماعيَّة لا يستطيع أحد الاقتراب منها أو المسّ بها سواء أكان حاكمًا أم محكومًا.