Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

الإسلاميُّون بين الدعوة والدولة

د.طه جابر العلواني

تمهيد:

في مرحلة الشباب الأولى من (18-35) من العمر كنت مثل كثيرين من أترابي، شديد الحماس لرؤية «دولة إسلاميّة»، أي دولة يرأسها خليفة، تطبِّق الأحكام الفقهيّة وتقيم الحدود (العقوبات)، التي يطلق عليها «الحدود الشرعيّة». لقد صوَّرت لنا ثقافة المسلمين في تلك المرحلة أنّ العيش في ظل نظام يحمل هذه الصفة يمثل طريقًا يبسًا إلى الجنَّة لا يخاف سالكه دركًا ولا يخشى؛ لتداول خبر شائع يحتاج سنده ومتنه إلى جهودٍ بحثيَّة للتأكد من مستوى الثقة به سندًا أو متنًا من عدمها، ألا وهو: «من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهليّة»([1])، وهذا الخبر شاع واشتهر لاتخاذه أصلاً استندت إليه أنواع كثيرة من البيعات للحكام وللمشايخ وللمراقبين والمرشدين وأئمة الدعوة، وعززت تلك الثقافة بحديث «التأمير»: «إذا كنتم ثلاثة فأمِّروا عليكم أحدكم»([2]). لقد كنَّا نرى أنَّ العيش في ظل أمير للمؤمنين من «الموقعين عن رب العالمين» يضمن لنا سبعين في المائة أو أكثر من الجهود المطلوبة لدخول الجنَّة. وأتذكر كذلك ذلك الحديث الذي جعلتنا كثرة ترديدنا له نستغني بها عن النظر في صحة سنده أو متنه، وهو: «المرأة نصف الدين فاتق الله في النصف الآخر»([3])، فإذا رزق الإنسان «الودود الولود» وخليفة يطبق الأحكام ويقيم الحدود فقد ضمن لنفسه الجنَّة!

ولقد دخلت في الرابعة والعشرين من عمري في جدال مع عبد الكريم قاسم، الذي حكم العراق بعد انقلاب ناجح قاده ضد الملكيَّة مع عبد السلام عارف، صيف ( 1958م) حول النظام الإسلاميَّ استغرق عدة ساعات، وكدت أفقد فيه حياتي بمسدس عبد الكريم لولا عناية الله ثم الأجل، فالرجل كان يهاجِم بشدة النظام الذي أسسه المسلمون في واقعهم التاريخي، وكنت أدافع عنه دفاع المستميت، معتبرًا أسوأ مَا فيه أحسن وأعدل مما أفرزه أيُّ نظام آخر، ومنها نظامه الجمهوري.

ثم تقدّمت السن وتكاثرت التجارب وتراكمت الخبرات، وازدادت القراءآت ، و تحولت العقليَّة من حالة «التلقي المستسلم» لكل مَا يُقرأ إلى حالة «النقد والتحليل» والتفكير بما يعرض من جوانب عديدة، فبدأت الطريقة المتسائلة والمنهج ينموان، فإذا بى أعيد النظر في كثير من تلك الأفكار وأراجع الكثير من تلك المسلَّمات، فاكتشفت الظلم الفادح الذي أوقعته الدولة بالدعوة، وذلك أنَّ الإسلام دين عالميّ يشتمل على الحنيفيَّة السمحاء كلها بحمله خطابًا عالميًّا شاملاً للبشريَّة كلها، لم يستثنِ ولا يستثني أحدًا منها؛ فالبشريَّة كلها مخاطبة به مدعوة لتلقيه بشموله وعمومه وعالميّته، فآفاق الدعوة لا تحدها حدود ولا تقيدها قيود إلا مَا يتعلق بحقيقتها وخصائصها وآفاقها الرحبة الواسعة.

أمّا الدولة أو الحكومة أيَّا كان نوعها فإنَّها أخص في حقيقتها ومقاصدها وأهدافها واهتماماتها من الدعوة، ويمكن للدولة أن تتبنَّى قيم دعوةٍ وأهدافًا منبثقة عنها دون أن تمزج بين الاثنين أو ترفع الفروق بين الجانبين، فذلك أمر يضر بالدعوة ويضيق ميادينها ولا يقدم للدولة الكثير، وحينما يمزج بين الأمرين فلن يمضى زمن طويل حتى يجد رجال الدعوة أنفسهم في حالة حرب أو عداء أو مواجهة مع رجال الدولة، فالدولة بمثابة جهاز استهلاكي ضخم ودولاب يحتاج إلى ألاّ يتوقف عن الدوران أو النشاط ولو للحظة، ويغلب أن تجد الدولة نفسها -شاءت أم أبت- في حاجة إلى تجاوز بعض مَا لا تستطيع الدعوة أن تتساهل فيه أو تتهاون، وهنا يحدث التصادم الحتمي بين الدولة والدعوة.

لمحات من تاريخ احتكاك الدعوة بالدولة:

وحين ننظر في تاريخنا نظرةً فاحصةً بدءًا من الفتنة الكبرى واستشهاد ذي النورين، ثم اغتيال علي بن أبي طالب، ثم انتشار الفرق، وحروب الصحابة ؛كمعارك الجمل وصفِّين، ثم ثورة أبي عبد الله الحسين رضي الله عنه وأرضاه، ومحمد ذي النفس الزكية، ثم ثورة القراء بقيادة عبد الرحمن الأشعث والصراع بين أهل السيف وأهل القلم، ثم بين أهل السيف أنفسهم، ثم أهل القلم في ميادينهم ومجالهم يتبيّن لنا أنَّ من أهم مداخل الفهم والتفسير لأجل مَا حدث من أحداث جسام يعود إلى ذلك الصراع بين حملة الدعوة ورجال الدولة، ولعلّ من آخر مَا عُرف صراع الملك عبد العزيز والإخوان الوهابيَّة بقيادة الدويش. ثم تلك الصراعات التي بدأت بعد الثورة في إيران بين رجال الدعوة والدولة، خاصّة حين كان رجال الدعوة يرون أنَّ لديهم فرصة مواتية عليهم أن يستغلوها لنشر الدعوة، في حين كان رجال الدولة يراعون مواقف سياسيّة معينة ويحاولون أن يدرؤوا عن سمعة الدولة الإيرانيَّة تهمة العمل على تصدير الثورة إلى الخارج، وكان ذلك الاختلاف بداية الانقسام إلى محافظين وإصلاحيّين، وقد جرت -مع جميع الاحتياطات الضروريَّة التي اتخذتها الدولة بتعدّد المجالس الضابطة لحركة الدولة والدعوة- احتكاكات لا يمكن إنكارها واستبعاد آية الله حسين علي منتظري وإبعاده عن موقع الولي الفقيه مع أنّه كان المرشح الوحيد لذلك بعد الخميني نموذج لتلك الصراعات التي لم تكن في نظرنا سوى أمور عادية لا بد أن تظهر إذا وضعت الدعوة مع الدولة في موقعٍ واحد.

كما أنَّ القلق الذي اتسمت به حركة الدولة أو الدول التي عملت على تبنّي توجهات المزج بين الدعوة والدولة نستطيع رصدها في سائر التجارب وفي مقدمتها التجربة الباكستانيّة، ومن أواخرها التجربة السودانيّة، مرورًا بتجارب الدولة السعوديَّة الأولى مع الدعوة السلفيَّة، والدولة الليبيّة مع الدعوة السنوسيَّة، والمهديّة في السودان وغير ذلك كثير.

وقد يكون لجوء بعض الحركات الإسلاميَّة إلى تأسيس أحزاب إلى جانب حركاتها وتيَّاراتها محاولةً لفك الارتباط بين الجهتين، «جهة الدعوة وجهة الدولة»، وإعطاء كل منهما الأفق الذي تحتاجه والمجال الخاص بها تلافيًا لأيّ صدام ومنعًا للوقوع في محذور تحجيم أي منهما للآخر.

إنَّ النموذج الوحيد الذي التقت فيه الدعوة مع الدولة -بشكل سليم- هُوَ نموذج الخلافة الراشدة، والخلافة الراشدة نجحت في عهد الشيخين وسنوات من عهد كلٍ من عثمان وعلي -رضي الله عنهم أجمعين- لأنَّها كانت خلافة على منهاج النبوَّة، يجتمع فيها عنصرا الدولة والدعوة في حاكم واحدٍ قادر على تجسيد الوظيفتين في مرحلة انطلاقٍ وإقلاعٍ لها ظروفها الزمانيَّة والمكانيَّة والمحليَّة والخارجيَّة؛ ولذلك مَا كان من الممكن أن يتكرر ذلك النموذج في أيّة مرحلةٍ من مراحل التاريخ الإسلاميَّ.

الداعية والعسكري والسياسي

إذا تبيّن مَا تقدم وفهم مَا أريد، فإنَّني أود أن أقول لرجال الدعوة في كل حركة إسلاميّةٍ إنَّ لهم الحق في أن يلتزموا بمتطلَّبات الدعوة وبسقوفها المعرفيَّة مهما كانت عالية، لأنَّها -والحالة هذه- تقدم السقف الذي ينبغي أن يحاوله الدعاة، فهي مثل قوله تعالى: ]إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ[(الأنفال: 65) فذلك السقف العالي الذي يمكن للداعية أن يحض المجاهدين أو المقاتلين على أن يرتقوا إليه ويحاولوا بلوغه ويصبحوا -وهم ينادون به- بمثابة الخزانة التي ترفد معنويّات أبناء الأمّة بالسمو والطموح الذي تشتد حاجتهم إليه.

أما العسكري في الميدان فإنه لا يستطيع أن يتجاوز الطاقة الواقعيَّة لجنده كثيرًا ليبلغ إلى المثال أو إلى السقف الأعلى مع وجود طاقة بشريّة محدودة، فيأخذ بقوله تعالى: ]الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ[ (الأنفال:66)، وذلك يعني أنَّ مَنْ هُوَ في الميدان في مجال سياسي أو عسكري في حاجة إلى مرونة وقواعد تقربه إلى الواقعية بشكل شديد؛ ليستطيع أن يستجيب للحاجات الدوارة السريعة المتجددة للدولة، في حين أنَّ الداعية يستطيع أن يرسم الآفاق العليا انطلاقًا من مثاليَّة الدعوة وقواعدها المذهبيَّة، في هذه الحالة لن يقع تصادم بين الداعية والسياسي، فالداعية سوف يتفهم موقف السياسي والعوامل التي تحكمه، والسياسي سوف يتفهم موقف الداعية والعوامل التي تحكمه، فلا يضغط على الداعية ليبحث له عن رخص وتأويلات وتنازلات لا شك أنَّها ستعود بكثير من الأفكار السلبيَّة على الدعوة. وقد تعرّض كثيرٌ من الثوابت لمحاولات الإلحاق بالمتغيِّرات تحت ضغوط الممارسات اليوميَّة، في الوقت نفسه لن يجد الداعية نفسه مضطرًا إلى الضغط على رجل السياسة الذي هُوَ شقيقه وأخوه -لا يفصل بينهما إلا اختلاف طبيعة العمل- ليضغط عليه باسم الدعوة لتبنِّي أو تمثيل أو اتخاذ سياسات قد تؤدى إلى إحراج الدولة ورجال السلطة.

لو نجحت هذه المعادلة فإنَّ الفريقين سيسيران في خطين متوازيين إلى الهدف المشترك والمقاصد العليا المشتركة دون أن يحرج أيٌّ منهما الآخر ودون أن يقعا في حالة تصادم.

فهم ما سبق ضروري لتناول مَا سنتعرض له من اجتهادات معاصرة مرّت أو محاولات اجتهاد منتظرة نسمع فيها ونقرأ اختلافات كبيرة بين دعاة وسياسيّين أو رجال حكم كثيرًا مَا نجد الناس منقسمين حولهم على مستوى الحزب الواحد والحركة الواحدة.

من تجربتي السياسيّة:

لقد اشتركت في مقتبل العمر في تجربة سياسيّة، وذلك حين سمحت ظروف العراق في عهد عبد الكريم قاسم في ستينيات القرن الماضي بتشكيل أحزاب سياسيّة، وقام عدد من حملة الدعوة والهم الإسلاميَّ بتأسيس «الحزب الإسلاميَّ العراقي»، الذي أُعلن أنَّه سيؤسسه عدد من الإسلاميّين المستقلين، وكنت من بين هؤلاء المستقلين، واتضح فيما بعد أنَّ من رَوَّجوا لتأسيس هذا الحزب في بادئ الأمر كانوا «الإخوان المسلمون في العراق»، الذين كانوا يعملون في إطار تنظيم سريّ، فقرروا تأسيسه ليكون واجهة علنيَّة لهم، ووضع المستقلون أمثالي في إطارٍ جعلهم يشعرون بأنّهم أهل هذا الحزب وأصحابه ومؤسّسوه وأنَّ الآخرين هم إخوان قرروا تجاوز العمل السري إلى العلن، فأصبح كل منهم لا يختلف عن أيّ إسلاميَّ مستقل يمارس التحرك والعمل السياسي؛ انطلاقًا من مرجعيَّة الإسلام ولتحقيق مقاصده وغاياته.

وبعد قيام الحزب وبدئه ممارسة نشاطه العلني فوجئ المستقلون أمثالي بأنَّ القيادة الحقيقيَّة للحزب إنَّما هِيَ القيادة السرية لجماعة الإخوان العراقيّين، أمَّا قيادة الحزب فلا تستطيع أن تمرر قراراتها أو تنفذها إلا إذا صادقت عليها قيادة الإخوان السريَّة، وكان ذلك أول الوهن وبداية الفشل الذي أدّى بعد ذلك إلى توقف نشاط الحزب تمامًا، إلى أن قام قادة الحزب المعاصرون -بعد انضمامهم إلى المعارضة العراقيَّة- بنفض الغبار عنه وتنشيطه في إطار المعارضة العراقيّة التي تسلمت السلطة بعد أن أسقط الأمريكان نظام صدام وأعوانه من «البعثيّين اليمنيّين» كما كان يطلق عليهم.

هنا أود أن أقول إنَّ علماء الدعوة ورجال الفكر الدعويّ ليسوا بحاجة إلى أن يسارعوا في الاجتهادات التي نسمع الجديد منها في كل يوم حول «الديمقراطيّة والتعددية الليبراليَّة والحزبيَّة» إلى آخر المنظومة، والمتصدون للفتوى من مشايخ تلك الجماعات لا ينبغي أن يسترسلوا في ذلك النوع من الاجتهادات التي كانت لها آثار سلبيّة في عصر بروز فكر «المقاربات والمقارنات» في القرنين التاسع عشر والعشرين، وقد تكون لها آثار سلبيّة في مقبل الأيام وسأستعرض فيما يلي شيئًا من هذه الاجتهادات محاولاً بيان مَا فيها من استعجال لأؤكد أنَّ الأولى هُوَ أن نفصل بين مؤسّسة الدعوة ونحافظ على مثاليَّتها والمؤسّسة السياسيَّة لنحافظ على مرونتها وعمليَّتها.

الجدل السياسي الدائر بعد الثورات العربية

منذ أن تغيَّر النظام السابق في جمهورية مصر العربيّة والجدل شديد بين المثقفين والمعنيّين بالشأن العام حول «الدولة الدينيّة والدولة المدنيّة» أو «المواطنة والذمّة» وما إلى ذلك.

يشتد هذا الجدل وتعلو فيه الأصوات ويشتد فيه صرير الأقلام أحيانًا وتضطرب فيه الأصوات وتختلط في الاعتصامات وأماكن التجمعات العامّة، ومن الواضح أنّ هناك رفضًا لا يستهان به لما يُسمى «بالدولة الدينيَّة» أو «الثيوقراطيَّة»؛ بل إنّ هناك تخوفًا لا يهدأ من الليبراليّين على اختلاف مستوياتهم، وقد يلحق بهم -بمستوى أو بآخر- بعض المنتمين إلى الأقليّات الدينيّة المذهبيّة؛ لأنّ الصورة المتبادرة إلى الأذهان صورة إنسان أو موظف حكوميّ يجلس على كرسي عالٍ يوحي بكل معاني التسلُّط وأمامه شخص آخر كل ذنبه أنّه لم يوفّق للانتماء إلى ديانة الأكثريّة فيكون جزاؤه أن يحكم عليه بأنّه إنسان طارئ على الوطن الذي ينتمي إليه وعليه أن يدفع «الجزية عن يد وهو صاغر ذليل»[4]، ومَنْ ذا الذي يرتضي لنفسه الذلة والصغار أو يختار مَا هُوَ أقسى على نفسه من ذلك، وهو تغيير الدين بالقوة؟!

ولذلك فقد ارتفعت أصوات كثيرة تنادي بإلغاء الأحكام المتعلّقة «بالجزية» وجميع الأحكام المتعلقة بأهل الذمَّة، وإذابة الفوارق بين الناس على أيّ أساس دينيّ أو مذهبيّ. وإعلان علمانيّة الدولة وليبراليّة الاتجاهات والاحتكام إلى الديمقراطيّة وقيمها وأعلاها قيمة «الحريّة»، ونجد المهمومين بهموم العمل السياسيّ بمرجعيّة إسلاميّة في موقف دفاع دائم وانسحابات وتراجعات؛ فمرة ينفون وجود الجزية، أو يؤولونها ويحملونها على أضيق المحامل، ومرة ينادون بتجميد الحدود الشرعيّة.

خطورة استعارة المفاهيم

إنّ استعارة مفاهيم من نسق حضاريّ مختلف له جذوره وأصوله الوثنيّة وقواعده المغايرة ليس كاستعارة ألفاظ عاديّة أو ترجمة مصطلحات ميكانيكيّة؛ زراعيّة أو صناعيّة أو وسائل وأدوات حضاريّة، وإن كنّا نرى أنّ في هذه المصطلحات -أيضًا- أمور لا بدّ من ملاحظتها؛ لأنّ وراء كل من الآلة والأداة والمصطلح الذي يعبر عنها أفكارًا لا يسعنا تجاهلها أو إهمال دورها في التأثير الفكريّ والعمرانيّ، لكن الأمر في هذه قد يكون أهون خطرًا أو أقل شأنًا من عمليّة استعارة مفاهيم مشحونة بجملة من الأفكار والتحيزات متصلة بكثير من القواعد ومؤدية إلى كثير من الآثار في مختلف جوانب الحياة؛ مثل «المواطنة» و«الديمقراطيّة» ونحوها.

ولعلّ في الملاحظات القليلة التالية مَا ينبه إلى بعض مخاطر استعارة المفاهيم الحضاريّة من الأنساق المغايرة، بحيث يتنبه المستعيرون إلى وجوب وضع الضوابط المناسبة، والمعايير الضروريّة لهذا النوع من الاستعارة؛ لئلا تنهدم السدود بين الثوابت والمتغيِّرات في إطار الحوارات السياسيّة التوافقيَّة:

أولاً: إنّ كلمة «مواطن» تعبير لم يظهر ولم يجر تداوله إلا بعد الثورة الفرنسيّة (سنة:1789م)، أمّا قبلها فكان الناس مللاً وشعوبًا وقبائل لا تعتبر التراب إلا وسيلة من وسائل الارتباط.

ثانيًا: إنّ العلمانيّة الدنيويّة -بعد ظهورها وبروزها- كتيّار فكريّ ومنهاج حياة يقابل الدينيّة بالتقاطع أحيانًا، والتلافي والتحجيم والتجاوز أحيانًا أخرى، استهدفت فيما استهدفته إذابة الفوارق والخصوصيّات -دينيّة كانت أو عنصريّة أو إثنيّة- ولا تسمح لها أن تعرقل مسيرتها، أو أن تحدَّ من فاعليّتها في إذابة الفوارق وإقامة النظم الشاملة القائمة على المصلحة واللذّة والمنفعة الدنيويّة لا غير؛ لأنّها كرّست هذه الأمور باعتبارها البديل عن القيم الدينيّة والخلقيّة.

ثالثًا: إنّ نصوص القرآن العظيم المتعلقة بهذا الموضوع، وما ورد تطبيقًا لها وتنزيلاً لأحكامها على الواقع، مثل «ميثاق المدينة»([5]) وما بُني عليه من تصرفات الخلفاء الراشدين وقيادات الصحابة والتابعين في الميادين المختلفة، كانت تشير كلّها -بوضوح شديد- إلى حرص الإسلام البالغ على مساعدة سائر أولئك الذين لم يقتنعوا بعد بالدخول في حظيرة الإسلام على حماية خصوصيّاتهم الدينيّة والعرقيّة والمحافظة عليها؛ فبالإسلام يستحق المسلم حماية ضروريّاته الخمسة وحاجاته وكمالياته، وبعقد الذمَّة يستحق غير المسلم ذلك كلّه مع الاعتراف له بخصوصيّته المليّة والعرقيّة وحمايتها والدفاع عنها إلى حد القتال إذا هددت من مسلمين أو غيرهم. وبذلك يأخذ غير المسلم نصيبه الكامل من حريّة التفكير والتدبّر والتأمّل والمقارنة، فيأخذ قراره بالبقاء على مَا هُوَ عليه أو التحول إلى الإسلام بحريَّة تامَّة، بل إنّ الإسلام قد نظر إلى غير المسلم من منظور رسالة عالميَّة تنفي الإكراه بكل أشكاله وترفضه في الأصول والفروع: ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ…﴾ (البقرة:256). فالتشريع الإسلاميّ قام بحماية غير المسلم مرتين: مرة حين بسط عليه ظلَّه الوارف كبقيّة المسلمين، ومنحه مثل مَا منحهم من حقوق، ثم نظر إليه مرة أخرى لحماية خصوصيّاته المليّة والعرقيّة من الذوبان أو الإذابة والدفاع عنها بالقوة نفسها التي يحفظ فيها للمسلم ذلك، فكأن لغير المسلم ميزة على المسلم في هذا الإطار، فكيف ينظر إلى الميزة أنّها امتهان لمن مُنِحَها؟! إنّه لا غرابة في أن يمنح الإسلام «الذميَّ» هذه الميزة وهذه الكرامة، فإنّ الإسلام دين عالميّ، ينظر للبشر نظرة واحدة، وينظر إلى مستقبل البشريّة -كلّها- نظرة تفاؤل وأمل بأنّ يومًا مَا آت لا محالة، تتحد فيه هذه البشريّة وتدرك أنّها -كلّها- لآدم وآدم من تراب، وأنَّ كل الخصوصيّات المتمايزة إنّما هِيَ خصوصيّات تنوّع وتعارف؛ ولذلك فإنَّ من أهم خواص هذا الدين تلك الأرحام والقرابات والصلات التي يحاول الحفاظ عليها بين الأديان السماويّة من ناحية، وبينها وبين سواها من ناحية أخرى، حتى يأتي الوقت المناسب ليجعل من كل هذه الأمور التي تبدو متناقضات أشكال تنوّع يحتويها في إطاره، ويضمها تحت جناحيه، ويهيمن عليها باعتباره «الهدي الكامل، ودين الحق»، الحق المحتم ظهوره على الدين كله، بعد أن توجد الصيغ الفكريّة النابعة من منهجيَّة القرآن العظيم المعرفيّة، والتي تمكن البشر بشعوبهم المتنوّعة وعروقهم المختلفة وسائر وحدات الانتماء الأخرى لديهم من إيجاد الصيغ والقنوات المستوعبة لحركة البشريّة، وتحويل ذلك التنوّع إلى وسيلة تعارف وتأليف بين أبناء آدم/أبناء التراب.

رابعًا: لا مانع يمنع أهل الاجتهاد من علماء المسلمين من أن يجتهدوا في كل أمر من الأمور التي يجوز الاجتهاد فيها، ولا بد من أن يبدع علماء الاجتماعيّات المسلمون في سائر المجالات ليسهموا في بناء «المشروع الحضاريّ الإسلاميّ». فالاجتهاد في الشرعيّات والإبداع في الاجتماعيّات هما طرفا الديناميكيّة في حركة الإسلام وعمليّة بناء مشروعه الحضاريّ، لكنّنا شديدو التوجس من قبول أفكار لا يضبطها منهج وقانون كليٌّ صارم، ولا تقوم الحجة والبرهان على مشروعيّتها، أو التساهل في إطلاق اجتهادات المواءمة بين الإسلام وسواه، واعتبار أي اجتهاد بشريّ -مهما كان- ممثلًا لجوهر الإسلام أو معبرًا عنه بشكل لا يحتمل سوى ذلك، فسائر الاجتهادات البشريّة يمكن أن يعتريها من النقص مَا يعتريها، وذلك لنسبيّة الإنسان وقصور أدواته ووسائله؛ ولذلك فإنّ من الخير لعلماء المسلمين ومفكّريّهم التأكيد الدائم على هذه النقطة، وقد بينا في أكثر من دراسة أنّ مَا يجتهدون فيه لمواجهة متطلبات العمل السياسيّ اليومي المتحرك المتغيّر لا يلغي مَا استقر من أحكام أو فقه سابق، بل هُوَ إضافة له وإنماء وبناء عليه إذا كان مستوفيًا لشروطه، وهو قبل ذلك وبعده قابل للتصويب وللتخطئة والله أعلم.

كما أنّه في الوقت نفسه لا يصادر على مَنْ يأتي بعدهم، ولا يحول بينهم وبين أن يجتهدوا لزمانهم في إطار تلك الثوابت وانطلاقًا من تلك الأصول.

خامسًا: إنّ فكر «المقاربات» الذي عمل -منذ بدأ احتكاكنا بالغرب حتى عقود قليلة- على ردم الهوّة بين فكر المسلمين ومعطيات الفكر والحضارة الغربيّين قد أدى دوره وانتهت مرحلته، وعبر عن عمق الصدمة الحضاريّة الأولى التي تعرضنا لها أول احتكاكنا بالثقافة والحضارة والفكر الغربيّ، وقد غلب جانب السلب فيه على الإيجاب، وتجاوزت الأمّة مرحلته بفضل الله، وثبت فشله.

كما أنّ فكر «المقارنات» بين قضايا الفكر الإسلاميّ ومعطيات الفكر الآخر في القضايا نفسها ومَا شابهها قد تجاوزت الأمّة مرحلته بما له وما عليه. وإذا كان فكر «المقاربات» قد ساعد على ثلم شخصيّتنا وتهيئة نفوس الملايين من أبنائنا لحالة الاستلاب الفكريّ والثقافيّ والحضاريّ في جانب منه، فإنّ فكر «المقارنات» قد ساعد وهيَّأ نفوس الكثيرين للاستلاب إلى الماضي، وتحقيق حالة ارتجاع إليه يمكن تسميتها بحالة «التقدم إلى وراء»، أو «استلاب إلى التاريخ»، وتوسيع الهوَّة بيننا وبين عصرنا، وبيننا وبين معاصرينا كذلك.

وكل فكر لا يؤدّي إلى تحقيق تقدم في إطار إيجاد حالة «الاجتهاد والإبداع» لدى الأمّة، وإخراجها من حالة الجمود والجحود والتقليد، فإنّه فكر لا يضيف الكثير إن لم يُحكم عليه بالفشل بقطع النظر عن أيّة إنجازات يمكن أن يحققها في أطر جزئيّة.

القرآن ومفهوم المواطنة:

إنّ القرآن المجيد لم يتحدث عن «مفهوم المواطنة»؛ بل تحدث عن مفهوم الدار ومفهوم البيت وما إليها، وذلك انسجامًا مع رؤيته الكليّة للحياة ومراحلها العديدة، فالحياة الدنيا مَا هِيَ إلا مرحلة من مراحل الحياة الإنسانيّة الممتدة من بدء الخليقة إلى وصول الإنسان إلى الجنة أو النار، وبالتالي فما هِيَ بدار قرار متصل بالخلود؛ لأنّ الدار الآخرة هِيَ الحَيَوان وهي موقع الخلود، لكن الدار الآخرة لا يمكن الوصول إليها بسلام والحصول على الجزاء الأحسن فيها إلا بعد المرور بمرحلة الحياة الدنيا وممارسة الدور الإنسانيّ فيها بخيره أو غيره.

و«مفهوم الدار» فيه معنى الانتقال أو التغيير، كما يتضمن الإشارة إلى أنّ الأرض كلّها ميدان للإنسان ليمارس فيه دوره الاستخلافيّ.

إنّ موضوع «المواطنة» قد مثّل جزءًا من مشكلة «الهويّة» والمفاهيم المختلفة التي ارتبطت بها منذ احتكاكنا الفكريّ والثقافيّ والسياسيّ والعسكريّ بالغرب في القرن الماضي.

وإذا كانت المسألة قد حُسمت على صعيد الواقع منذ أن تمزقت الدولة العثمانيّة وتحولت أشلاؤها العربيّة وغيرها إلى دول وحكومات قوميّة وإقليميّة، فإنّ المسألة لم تنتهِ على المستوى الفكريّ والثقافيّ، بل بقيت سؤالاً كبيرًا يُطرح بشكل تحدٍّ أحيانًا وبشكل عذر أو ذريعة أحيانًا، كما يُطرح بشكل تساؤل أحيانًا أخرى، وأيًّا كان الشكل الذي يُطرح الموضوع به فقد بقي موضوعًا شديد الحساسيّة كبير الخطر. حتى إذا بدأت مظاهر الشيخوخة والكبر والفشل تبدو على قواعد الدولة القوميّة والدولة الإقليميّة الوطنيّة في بلاد المسلمين بدأ البحث يشتد حول صيغ جديدة للهُويّة والانتماء وأفضل أساليب تنظيم العلاقات بين شعب كل قطر من ناحية، وبينهم وبين الحكومات المهيمنة على مقدراتهم -حزبيّة كانت أو عسكريّة أو غيرها- من ناحية أخرى، وتضاعف حجم ذلك السؤال كثيرًا ونما بشكل هائل.

وحين بدأ الاتجاه الإسلاميّ في الأمّة يتحرك، وتُرَشِّح بعض فصائله نفسها بديلاً سياسيًّا، وتؤكد أنّ «الإسلام هُوَ الحل» حُوِّل السؤال إلى مشكلة كبرى تطرحها بوجه العاملين -في الحقل الحركيّ والسياسيّ الإسلاميّ على اختلافهم- سائرُ الفصائل الليبراليّة العلمانيّة والدنيويّة الأخرى، وأصبحت هذه القضيّة أداة من أدوات الصراع السياسيّ في العالم الإسلاميّ الحديث. وكثير من الحكومات السائدة في بلاد المسلمين تحتج بوجود أقليات غير مسلمة لحرمان الأكثريّة المسلمة التي قد تبلغ 98% أو تزيد من حقها في اختيار الشريعة التي تتحاكم إليها، وكثير منها تتهم الحركات الإسلاميّة بأنّ وجودها -وحده- فضلاً عن مبادئها ومطالبها وأهدافها يعتبر تهديدًا «للوحدة الوطنيّة» يقتضي سن «قوانين طوارئ» وتعطيل القوانين المدنيّة.

لقد كانت «المواطنة» أساس الانتماء الذي أكد على «الوطنيّة» هويّة للدولة الحديثة. و«المواطنة» انتماء إلى تراب تحده حدود جغرافيّة، فكل مَنْ ينتمون إلى ذلك التراب مواطنون يستحقون مَا يترتب على هذه المواطنة من الحقوق والواجبات التي تنظم بينهم -(بمقتضى هذه النسبة) لا بشيء آخر- سائر العلاقات. فالرابطة بينهم رابطة علمانيّة دنيويّة. وكذلك الرابطة بينهم وبين حكوماتهم رابطة علمانيّة دنيويّة تخضع لمقاييس النفع والضرر، نفع الوطن ونفع المواطن، ولا بد من انصهار المواطنين -جميعًا- بكل أديانهم ومذاهبهم ومللهم ونحلهم وجذورهم العرقيّة في هذه الرابطة الترابيّة النفعيّة، وكذلك تنازلهم عن أيّة خصوصيّات تتعارض مع هذا الإطار. ولأنّ هذه الرابطة تهن وتقوى بمقدار مَا يتحقق من نفع لشركاء التراب الواحد، ولا تمثل للإنسان ميزة يختص بها، بل هِيَ نزعة مشتركة بين الإنسان وكثير من فصائل الحيوانات والطيور، فقد أوجد نوع من التلازم بين «المواطنة والعلمانيّة؛ أي الدنيويّة، لتكون العلمانيّة الدنيويّة مضمونها الفكريّ». فالمواطنة بمفهومها المذكور لا تتحقق عند أهلها إلا في ظل العلمانيّة الدنيويّة، وفي إطار سيادة مفاهيمها ونظمها ومنهجها في الحياة. ومن هنا ظنّ العلمانيّون الدنيويّون في العالم الإسلاميّ أنّ هذه الحجّة -المتمثلة بوجود أقليات غير مسلمة- عصا موسى القادرة على وقف ومصادرة كل مَا ينادي به أصحاب المشروع السياسيّ الإسلاميّ، فتعالت الأصوات برفض المشروع الإسلاميّ والتنديد به والتأكيد على وجوب بناء «المجتمع المدنيّ» الذي هُوَ نقيض المجتمع الدينيّ في نظرهم([6]).

ولقد حاول كثير من قادة «المشروع السياسيّ الإسلاميّ» احتواء ذلك الضجيج والتأكيد على أن المشروع الإسلاميّ كفيل بتحقيق «المجتمع المدنيّ» المطلوب -في إطار إسلاميّ- وأنّهم مستعدون لتأصيل كثير من دعائم المجتمع الغربيّ الذي يصر العلمانيّون الدنيويّون على أنّه النموذج الأوحد «للمجتمع المدنيّ»، ولكن ذلك كلّه لم يقنع الفصائل العلمانيّة الدنيويّة بذلك ولم يعانوا محاولة قبولهم أو رضاهم، أو تركهم «المشروع السياسيّ الإسلاميّ» يمر. وما يزال القادة والمفكّرون الإسلاميّون يجتهدون ويواصلون اجتهاداتهم في كل مَا طرحه العلمانيّون على المشروع السياسيّ الإسلاميّ من إشكالات، لكن بعض العلمانيّين يرفضون الاستماع إليهم أو تصديقهم، فلقد اجتهد كثير من قيادات «المشروع السياسيّ الإسلاميّ» في مفهوم «الديمقراطيّة» وأعلنوا قبولهم لها وأصّلوا لها دون تحفظ، وشاركوا فيها. كما اجتهدوا في «التعدديّة السياسيّة» وأعلنوا قبولها كدعامة من دعائم الديمقراطيّة. وأعلنوا قبولهم لفكرة ومفهوم «الحريّات العامّة»، فأعلن بعضهم ذلك دون تحفظ وقبلها بعضهم بتحفظ بسيط.

وقد أعلن جلّ القادة السياسيّين من الفصائل الإسلاميّة اتساع الإسلام لقبول مفهوم «المواطنة» كما هُوَ في الوعي المعاصر، ويدلّل لهذا القبول ويعلّل له ويؤصله ليكون اجتهادًا معتبرًا شرعًا، تستجيب له القلوب المسلمة وتقبله العقول.

ومع ذلك ما تزال العديد من الفصائل العلمانيّة الدنيويّة على مواقفها من رفض المشروع السياسيّ الإسلاميّ وتخوفها منه، وشكِّها في أصحابه، بل إنّ بعضهم يفضل العيش في ظل الاستبداد والدكتاتوريّات السافرة والمقنَّعة على قبول أيّ مشروع سياسيّ إسلاميّ مهما أدخلت عليه من تعديلات.

أهل الذمة

 إنَّ من أكثر الأحكام التي تعرّضت لسوء الفهم ولسوء القراءة في عصرنا هذا، وفي الماضي، أحكام «أهل الذمة» والأحكام المتعلقة بتقسيم العالم في النظرة الإسلاميّة في إطار عالميّة الإسلام الأولى؛ ففي الماضي أساء الكثيرون فهم تلك الأحكام وخرجوا من النصوص الواردة في هذا المجال بما لم يأذن به الله، خاصّة مَا يتعلق بفهم البعض قوله تعالى: ﴿… وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ (التوبة:49)، حيث أخرجها بعض الفقهاء المتأخّرين من معناها البسيط الذي يُشير إلى الالتزام بالنظام والخضوع لما تبنّته الجماعة، إلى ربطها بنوع من الإذلال قد يكون هُوَ الذي أوجد كثيرًا من تلك الرواسب التي بعثت على كثير من التساؤلات المتعلّقة بهذا النوع من التشريع في عصرنا هذا.

وفي الحاضر تعرّضت هذه الأحكام لسخط العلمانيّة الدنيويّة بكل فصائلها وتوجهاتها، فرمتها تلك الفصائل بكل مَا لديها من تهم التمييز والتجنّي، ولو أنّ هذه الأحكام أعيدت قراءتها قراءة متأنية واستفيد في هذه القراءة بمعطيات العلوم الاجتماعيّة المعاصرة لوجد أنّها يمكن أن تكون ضالّة البشريّة التي تنشدها، وأنّها هِيَ أو نحوها التي قد تحقق للبشريّة اليوم الانسجام بين التوجيهات نحو بناء الكتل والقوى الكبرى، والمحافظة على خصوصيّات محترمة تتحول إلى مصدر قوة وتنوّع في إطار المجموع، دون أي تهديد بانفجار كالذي تعرضت له الولايات المتحدة بين السود والبيض قبل عدة عقود ويمكن أن تتعرض له في أيّ وقت بين العروق والأديان والمذاهب الأخرى التي ألّفت هذه الأمّة الكبرى في ضوء أفكار فيها من الثغرات الشيء الكثير([7]).

إنّ هذا السلام والاطمئنان الذي نلحظه في نموذج الولايات المتحدة وكندا، وهذا التعايش الملحوظ بين الجذور المختلفة والأديان والمذاهب المتباينة التي تعتمد على مفهوم أنّ حريّة الفرد تنتهي عند بداية حريّة الآخرين.. وأن احترام الخصوصيّات من خلال القناعة والتسليم بأنَّ لكل إنسان خصوصيّته أو خصوصيّاته وله أن تُحترم كجزء من حقوق الإنسان؛ هذا التصور تصور خاطئ للحريّة، وكذلك تصوّر -أو تجاهل- «حقوق الإنسان» بهذا الشكل فيه من الثغرات مَا فيه، كما أنّ تصوّر انعدام هذا التمايز خطأ آخر. كذلك تصور أنّ عدم تقنينه كفيل بإنهائه، وأنّه أفضل من تقنينه يمثل خطأً آخر، فالتوازن القائم في المجتمع الأمريكيّ وأمثاله من المجتمعات توازن يمكن أن نسميه بـ«توازن النمور»([8])، وتوازن النمور هذا يصلح لأن يكون مدخل تحليل وتفسير لكثير من القضايا الموجودة في المجتمع الغربيّ.. فطبيعة الفكر الغربيّ والفلسفة الغربيّة طبيعة ثنائيات صراعيّة جدليّة، تقوم على نفي الآخر والقضاء عليه، فعمليّة التوازن حين توجد تعتبر عمليّة طارئة لا تتحقق إلا في حالة وجود قوى متعادلة أو مصالح متعادلة؛ فالأبيض في بادئ الأمر قد نفى الهنديّ الضعيف وأباده وحلَّ محله([9])، واتبع سياسة التمييز مع الملَّون والمرأة وسائر الأقليّات الأخرى.. وحين يقيم توازنًا أو يفكر فيه فذلك في إطار الحلول الآنية التي تفرضها مصالح راجحة مؤقتة، وبالتالي فهذا التوازن مهدَّد على الدوام بالاختلال والاضطراب.. وإذا كان مَا عُرف بالاتحاد السوفيتيّ قد انهار وعاد إلى دول عديدة، ولا تزال عمليّات الانشطار جارية، وفُسِّر ذلك بأن الإطار الفلسفيّ الماركسيّ القائم على الصراع الطبقي والضغط ودكتاتوريَّة (البروليتاريا) لم يستطع أن يكبت المشاعر الإنسانيّة في التطلع إلى تحقيق الذات، فإنَّ النموذج الغربيّ الآخر يحمل (ميكروبات) مماثلة، و«فكرة الحريّة» وحدها سوف تتحول إلى مجرد نموذج للتوازن المؤقت القابل للانهيار في حالات الضغوط والاحتقان التي قد تجعل الحريّة وسيلة سلبيّة تُسخَّر في تدمير التوازن في الفئات المختلفة التي تكوِّن حصيلة تآلفها، ووسيلته الأساسيّة إحساسهم بأنهم قوم اجتمعوا من سائر بقاع الأرض ليتوازنوا ويشكِّلوا رابطة فيما بينهم هِيَ عبارة عن عقد اجتماعيّ أو رابطة تقوم على كونهم جميعًا (دافعي الضرائب)، وأن «صفة المواطن» الصالح هِيَ أن يكون ملتزمًا بدفع ضريبته في وقتها ودون نقصان.. وفي الوقت نفسه هناك مستفيدون من هذه الضريبة تجمعهم صفة الاستفادة بها..

إنّ الماركسيّة كانت محاولة تصحيح لأمراض الفكر والحضارة الغربيّين، وقد سقطت، فإذا سقط العلاج فذلك لا يعني أن المريض قد صحَّ وعوفي، بل يعني أنّ المريض قد تفاقمت علَّته وأصبح في حاجة إلى منقذ آخر وعلاج جديد وإلاّ كان الهلاك مصيره.

أمّا الإسلام، فمن خلال النظام الملِّي وتقنين وضع كل فرد في إطار المجموع قد لبَّي الحاجات النفسيّة والتطلعات والأشواق الروحيّة لكل مقيم على أرضه، فليس للأكثريّة الحق في أن تمحو شخصيّة الأقليَّة أو أن تزيل مزاياها وتذيب خصائصها.. وفي الوقت نفسه ليس للأقلية أن تعمل على إثبات خصوصيّاتها من خلال الانتقاص من حقوق الأكثريّة أو تدمير خصائصها أو استنكار تمتعها بخصوصيّاتها ومزاياها. فالتوازن في المجتمع الإسلاميّ يقوم على عمليّة الاعتراف بالخصوصيّات والمزايا لسائر المنتمين إلى هذا الكيان، وتقنين هذه المزايا والخصوصيّات بشكل يسمح للأكثريّة والأقليات بالنمو والازدهار، لتتحول المزايا والخصوصيّات المختلفة إلى وسائل تنوّع إيجابيّة في الكيان الاجتماعيّ.

أمّا العلمانيّة الدنيويّة المعاصرة فتستهدف إذابة كل الخصوصيّات لصالح فلسفتها؛ ولذلك فإنّها تنتهي عادة لصالح الأكثريّة المتصوَّرة التي يمكن أن تتحقق بأيّ جزء فوق النصف (فتصويت فرد بعد الخمسين في المائة) يسقط شرعيّة وقانونيّة مَا يذهب إليه الباقون في هذا الأمر، ذلك لأنّ العمل السياسيّ في إطار هذه -العلمانيّة- يقوم على فكرة الحزبية التي انبثقت في بادئ الأمر عن نظم الشركات التي كانت تستخدم عمليّات التصويت لتعالج بعض مشكلاتها، وتحتوي عوامل الصراع بين العمال وأصحاب رؤوس الأموال، كما تستخدم الشخصيّة المعنويّة كوسيلة وأداة لحفظ حقوقها في صراعها مع الشخصيّة الحقيقية، أو للتوازن معها.

إنَّ نظام أهل الذِّمَّة في الإسلام حينما يوضع في إطاره الصحيح ولا يُساء استعماله، فإنّه -باعتباره فكرة- يمثل حلاًّ لكثير من الأزمات الكامنة في المجتمعات المعاصرة، وخاصّة في مجتمع مثل المجتمع الأمريكيّ، فهناك أزمات كامنة لن يستطيع النظام الغربيّ حلّها بشكل سليم دون تقنين التنوّع بصيغة من الصيغ المناسبة، ووضعه في إطاره الإنسانيّ الصحيح في وقت قريب. إنّ الأقليّات في العالم الإسلاميّ استطاعت أن تبقى وتستعصي بكل ثقافاتها وخصائصها على الإذابة؛ لأنّ هذا النظام قنَّن لها هذه الخصوصيّات وحفظها، فاستطاعت أن تعيش كل هذه القرون، بل واستطاعت أن تؤدي أدوارًا هامة في سائر البلاد التي عاشت فيها، ووصل أبناؤها في بعض الفترات إلى مراكز مرموقة جدًّا، وقلّ أن تجد مدينة إسلاميّة ليس فيها وجود متميّز ملحوظ لأقليّات دينيّة تتمثل في أحياء كاملة تحمل كل السمات الدينيّة والاجتماعيّة لتلك الأقليات؛ مثل «حارات أو أحياء اليهود والنصارى وسواهم». أمّا في الغرب فهناك هجرات كثيرة ومهاجرون كثيرون قد ذابت خصوصيّاتهم الدينيّة وغيرها في ظل العلمانيّة الدهريّة التي خلعت القداسة عن كل شيء([10]).

إنّ الهجمة الاستعماريّة على العالم الإسلاميّ استطاعت أن تغزو أفكار الناس مسلمين وغيرهم، وأن تُعطي قراءتها الخاصّة لكثير من المفاهيم، وتُلبِّس على النَّاس دينهم، فاعتبرت هذا التقنين «الـمِلّي» في داخل المجتمع قضيّة مهيمنة، وتفريقًا بين المواطنين، واندفع بعض أبناء الأقليّات في العمل على هدم هذا النظام؛ لأنّهم تصوّروا أن هدمه سوف يضر بالأكثريّة وحدها، ولكن ها هُوَ الضرر قد عمّ الأكثريّة والأقليات في بلاد المسلمين، فأُذيبت خصائص الجميع لصالح المشروع «العلمانيّ الدنيويّ» وما أفرزه من أُطر عرقيّة وترابية، وتسلط الحاكمون واستبدّوا بأمور الجميع، فتساوى الكل في البؤس والشقاء في هذه الوضعيّات البشريّة.

ولذلك فإنَّنا ندعو جميع الأقليَّات والأكثريّة إلى مراجعة هذه الحقائق قبل رفع الأصوات برفض هذه التشريعات الحكيمة أو التنديد بها دون وعي بطبيعتها وأهدافها.

دار الإسلام ودار الحرب:

الدولة -أيّ- دولة تتقيّد بضوابط وقيود تحكم العلاقات الدوليّة عادة، وقد لا يكون في مقدورها تجاوز تلك القيود والضوابط، ولو أرادت ذلك أو رغبت فيه. في الوقت نفسه هذا لا ينفي علاقاتها بدينها ومذهبيّتها، أو أيديولوجيّتها. ويُفترض أن تكون الأمّة -أو منها- مؤسّسة للدعوة مستقلة عن الدولة، لا تحكمها تلك القواعد والضوابط، ولا تؤاخذ الدولة بما تفعل. فالغرب -اليوم- قد تتناول صحافته مَا تشاء وكما تشاء، وعندما يحتجّ الآخرون يُقال لهم: إنّها حريّة الصحافة في بلادنا! فالدولة قد تعتمد تصنيفات فقهيّة وقانونيّة، وتبني بمقتضاها نظم علاقاتها. أمّا «مؤسّسة الدعوة» فتقوم على الرؤية الكليّة للأرض، والتي -لا شك- أنّها ستكون مختلفة عن «نظام العلاقات الدوليّة» للدول في كثير من القضايا والمواقف. وينبغي أن يتم تحديد الفواصل بين الاثنين بدقة لئلا تتداخل الأمور، وتقع انشقاقات واختلافات داخليّة تؤدي إلى تصادم أو شقاق بين الدولة والدعوة أو المؤسّسات التابعة لكل منهما.

وتقسيم الفقهاء -فقهاء الدولة للمعمورة- إلى «دار حرب» و«دار إسلام» و«دار عهد» لا يُضير فقهاء الدعوة ولا يتقاطع مع رؤيتهم، فالتقاطع أو التعارض إنّما يحدث بين حقول ومجالات الاهتمام فحسب. ففقه الدعوة يتسع لجعل المعمورة كلها دار دعوة غير قابلة للقسمة إلى دور عديدة إلا بشكل محدود واعتباريّ، كأن يُقال لدار قبل أهلوها الإسلام، وسادت فيها أحكامه، ويدخلها الناس ويخرجون منها بأمان المسلمين، وهي التي يطلق «فقهاء الدولة» عليها «دار الإسلام»، يُسميها فقهاء مؤسّسة الدعوة بـ«ـدار الإجابة» بناء على كونها دارًا «للذين استجابوا لله وللرسول».

ودار لم يستجب أهلها للدعوة، لكنهم رحّبوا بتوقيع اتفاقيات تجعل منها «دار عهد» بأيّ مستوى من المستويات، فهي «دار دعوة» وميدان من ميادينها.

ودار لم تستجب ولم تُعاهد وآثرت أن تكون في موقف عدائي، وذلك لا يُغيّر من كونها -في نظر فقهاء الدعوة- «دار دعوة»، لكنه قد يجعل فقهاء الدولة يسمونها «دار حرب».

وقد يقول قائل: إذا كان القرآن الكريم يحمل هذه المؤشِّرات، ويدعونا إلى تبنِّيها، ويعلّم الناس بأنّ الأرض -كلّها- بيت للإنسان، فلِمَ قسَّم المسلمون الأرض في القرن الهجري الثاني إلى «دار حرب ودار إسلام ودار عهد» ؟ فأقول: إنَّ هذه القسمة لم تكن قسمة قرآنيّة، ولم تكن قسمة نبويّة، بل هِيَ تقسيم فقهيٌّ يمثّل الواقع في المعمورة في زمن معيَّن جاء به الإمام مُحَمَّد بن الْحَسَن الشيباني([11]) (ت:189) وهو يحاول أن يبيّن لهارون الرشيد([12]) (ت:193) -رحمهما الله- مواقف الدول المعاصرة لدولة المسلمين- آنذاك- والمواقف التي ينبغي لدولة المسلمين أن تقفها بناءً على تلك المواقف. فقام بتقسيمها وفقًا لذلك التصور، ليقدم للخليفة برنامجًا لرسم سياسات في مجال العلاقات الدوليَّة يتبيّن الخليفة من خلاله الدول المعادية، والدول التي يمكن أن تكون صديقة، وأيّ البلدان يمكن أن يأمن جانبها، وأيها لا يأمن. ومع ذلك فإنَّ كثيرًا من أئمتنا قد انتقدوا هذا التقسيم، فالقفال الشاشي([13]) -رحمه الله- وكثير من العلماء الذين جاءوا بعده، قدّموا بدائل عن هذه القسمة لإدراكهم أنّها قسمة «آنيَّة»، لاحظت واقعًا معيّنًا، فإذا أُعْطِيَت صفة الإطلاق تصبح متعارضة، بل مناقضة لموجّهات القرآن الكريم حول الأرض، ولتوجيهات رسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلّم- في النظر إليها؛ ولذلك قالوا: لا ينبغي أن تُقسّم الأرض إلى «دار حرب ودار إسلام ودار عهد»، وهو مَا أضافه الإمام الشافعيّ فيما بعد؛ بل يُقال: «دار إجابة ودار دعوة»، فدار الإجابة هِيَ الدار التي يسكنها المسلمون أخذًا من قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ (آل عمران:172)، فتُسمَّى «دار إجابة»، وهذا تعبير دقيق وصحيح ليس فيه اعتداء على أحد، وهو غير محمّل بتحيُّزات معادية أو تحريضيَّة، وليس فيه تقليل من أهميّة أحد، وأمّا الدار الأخرى التي كان يُسمّيها الشيبانيُّ «بدار الحرب» فقالوا ينبغي أن يُطلق عليها «دار دعوة»؛ لأنَّ مسؤوليَّة المسلمين أن يُوصِّلوا هذا النور والخير الَّذِي فيه إليها، ويشركوها بنعمة القرآن والإيمان. فالأرض إذن داران: «دار دعوة، ودار إجابة»، وقال الشاشيّ: لا ينبغي أن يُقال «أمَّة حرب»، فالأمّة المسلمة يُقال لها: «أمة إجابة»؛ لقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ (آل عمران: 172)، و«أمّة دعوة» للذين لا يزالون على غير الإسلام، وهم أهل لأنَّ يوصَّل الإسلام إليهم..([14])

إنَّ هدى القرآن -في هذا المجال المستنبط من تدبّره، وتوجيه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم- لا يتّسع لتلك القسمة التي بقي أثرها السلبيُّ للأسف الشديد عند الكثيرين من الفقهاء، -الذين أخذوها على إطلاقها- وما زال أثرًا خطيرًا. والفخر الرازي([15]) -عليه رحمه الله، قد توفي سنة (606)ه-ـ كان يؤكد أنّه ينبغي أن لا تُسمّى الأرض إلا بمثل مَا ذهب الشاشيّ إليه بناءً على قوله صلَّى الله عليه وآله وسلّم: “جُعِلَتْ ليَ الأرضُ مسجدًا وطهورًا”([16]) تفسيرًا لقوله تعالى: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ﴾ (هود: 61)، وأنَّ البشر لا ينبغي أن يُقَسَّمُوا إلى تلك القسمة، بل يُقَسَّمون إلى «أمَّة إجابة» و«أمَّة دعوة»، والله أعلم([17]).

ومما ينبغي الوعي به أنّ الدول والحكومات لا تنفك تُقسِّم الدولَ الأخرى إلى دول صديقة ومعادية ومحايدة، وستظل تُقسِّم مَا جاوز أراضيها إلى أراضٍ معادية وأراضٍ محايدة وفقًا لحالات السلم والحرب والعداء والصلح والهدنة فيما بينهم. أمّا اعتبار الأرض واحدة، والناس جميعًا ينتمون إلى أسرة واحدة ممتدة فذلك موقف الإسلام باعتباره دينًا ودعوة. أمّا على مستوى السياسة والواقع السياسيّ فالأمر مختلف.

وعلى هذا فإنّ المنظمات الساعية لحل الخلافات، ومعالجة المشكلات بحاجة إلى مرجعيَّة؛ لتكون فاعلة أو أكثر فاعليَّة، هذه المرجعيَّة هِيَ التي تقدم لها المؤشّرات الأساسيّة، والتي تُعينها على رأب الصدع، والتخلّص من الآثار والمشكلات التي نشأت بعد ظهور الدول القوميَّة والدولة القطريّة، فَفِكْرُ الأنثروبولوجيّين الَّذِي سيطر على الكثيرين، وقسَّم الشعوب قسمة ظالمة؛ إلى شعوب ملوّنة تعتبر أقل ذكاءً من شعوب أخرى، وشعوب تعيش في مناطق باردة تتمتَّع بمزايا خاصّة في كينونتها، وشعوب أخرى تعيش في مناطق حارَّة لا تتمتّع بتلك المزايا، تلك التقسيمات -كلّها- تقسيمات لا تخدم عمليّات الائتلاف والتعاون بين البشر، بل تخدم عمليّات التمزّق والصراع بينهم, واستعلاء بعضهم على بعض.

نحو منهجية القرآن المعرفية

إنّنا نشكو من تصدّع هائل في حياتنا الفكريّة والثقافيّة، وتشتُّت في رؤانا الحضاريّة، وحرب فكريّة بين فصائل الحداثة والعلمنة والدهريّة وبين فصائل التراث والمحافظة والأصالة. والأمّة -إذا كان من الجائز أن نقول إنّ هناك أمّة- ليست بحاجة إلى الانحياز لهذا الفصيل من أبنائها أو ذاك، أو تراجع هذا الفصيل أو سواه عن بعض مَا يدعو إليه لتحقيق موازنات سياسيّة آنيّة، بل هِيَ بحاجة إلى إدراك ذاتها المتميّزة، وتحديد إطارها المرجعيّ الذي تستمد منه كل فصائلها أصولها الفكريّة وشرعيّتها ومعايير التحكم لديها، وكيفيّة تحديد الخطأ والصواب، والصالح والضار لدى الجميع، فقد تتفق سائر فصائل الأمّة سياسيًّا على ضرورة «الحريّة» و«الديمقراطيّة» و«النهضة» و«المواطنة» وغيرها، ثم تختلف حول التصوّرات التي تستدعيها هذه المفاهيم والوسائل والأدوات. ألا ترى كيف رُفضت «الديمقراطيّة» في كل من تونس والجزائر حين جاءت صناديق الاقتراع بنتائج لصالح الإسلاميّين في الماضي؟ لاختلاف المقاييس وتعدد الموازين، وظاهرت على هذا الرفض قوى علمانيّة دنيويّة كثيرة، مفضِّلةً الدكتاتوريَّات العسكريَّة على حكم الإسلاميّين؛ ولذلك فإنّ حاجة قوى الأمّة إلى الاتفاق على مقياس واحد، وإطار مرجعيّ واحد، وإصلاح مناهج الفكر، وتصحيح القراءة، وإصلاح الأسس الفكريّة والثقافيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، أكثر من حاجتها إلى مقاربات وموازنات سرعان مَا تنتهي بعدم وجود مَا يسندها ويقويها من البنى الفكريّة والثقافيّة الموحدة والرؤى الحضاريّة المشتركة([18]).

إنَّنا لا نريد أن تضغط علينا متطلّبات الحوار بين المتقابلين السياسيّين؛ الدينيّ والقوميّ، أو الإسلاميّ والوطني الذين يريدان الاتفاق على حل وسط يأخذ الإسلاميّ فيه شيئًا من القومي أو الوطني، ويأخذ القوميّ أو الوطني فيه شيئًا آخر من الإسلاميّ. فنحن ندرك أن هذه المحاولات تجري في إطار سيادة ثقافة دنيويّة غربيّة فرضت نفسها عالميًّا بكل خلفيّاتها وظلالها وانعكاساتها، ومواقفها من الدين؛ كلاًّ وتفاصيل. ثقافة علمانيّة دنيويّة استبعدت الدين تمامًا من فلسفة العلم ونظريّاته وقوانينه ومعالجاته، وهذه الثقافة تحظى بتعميم وتكريس عالميّين، والمركز العالميّ الجديد (الولايات المتحدة) يرى أن سيادة هذه الثقافة واكتساحها لكل مَا عداها شرط ضروريٌّ ودعامة أساسيّة لما سمّاه «بالنظام العالميّ الجديد» الذي أقامه على «قواعد تفكير مشتركة» أفرزتها الحضارة المهيمنة الآن. لو جرت هذه الاجتهادات في «المواطنة» و«الديمقراطيّة» والقضايا الأخرى المماثلة في إطار عالميّة إسلاميّة أو مركزيّة حضارة إسلاميّة أو تكافؤ حضاريّ وثقافيّ -على أقل تقدير- لأمكن تجاوز كثير من الملاحظات، أو لوجدنا على كثير منها جوابًا ملائمًا. أمّا الوضع بالشكل الذي نعرف فإنّ الحذر ضروريٌّ، حيث إنّ طوائف العلمانيّين الدهريّين الدنيويّين الفكريّة في العالم الإسلاميّ والعالم العربيّ بصفة خاصّة هي مجرد مجموعة من المترجمين للنقد الغربيّ للفكر الدينيّ اللاهوتي ّ في أوروبا، وهم يعيدون صياغة ذلك النقد بلغة عربيّة، ويسقطونه على النصوص القرآنيّة والأحاديث النبويّة والأحكام الفقهيّة، ولا إبداع لديهم في شيء مما يقولون. فليس من المناسب أن تشغل القيادات الإسلاميّة الفكريّة نفسها وثمين أوقاتها المطلوب لبناء منهجيّة القرآن العظيم المعرفيّة والمشروع الحضاريّ الإسلاميّ العالميّ المتكامل المنبثق عنها والتقدم به إلى الدنيا كلّها بمناقشة ترجمات أطروحات هؤلاء اللاهوتية. فمثل الإسلاميّين والرفاق والعلمانيّين الدنيويّين كمثل قول القائل:

بِكلٍّ تَدَاوَيْنا فلم يَشْفِ مَا بنا لأنَّ الذي نهواه ليس بذي وُدِّ

فهؤلاء الدنيويُّون العلمانيُّون حين يأخذ الإسلاميّون هذه المواقع الاجتهاديّة التأويليَّة المتقدمة يسارعون هم إلى احتلال مواقع الماضوييّن والتمترس بذات النصوص التي يتمترس الماضويُّون وراءها، يقول أحدهم: “… كنّا نعرف بالطبع أن المساواة المطلقة التي يتحدث عنها التيار الإسلاميّ الثوريّ غير صحيحة شرعًا، والآيات والأحاديث تتحدث بوضوح عن تفاوت الدرجات.. “([19]).

وحين حاول الشيخ نديم الجسر -رحمه الله- إيجاد علاقة (تصوّريّة) بين نظريّة الضوء ووجود الملائكة والجن -في مقالة نشرتها صحيفة «النهار» اللبنانية في ملحقها الأسبوعي في بيروت (12/3/1967)- ردّ عليه د.صادق جلال العظم في كتابه «نقد الفكر الدينيّ» مؤكدًا على أنّ نصوص القرآن ومعانيه غير قابلة لأيّ تأويل عصريّ يسحب معانيها إلى خارج عصر التنزيل والمفاهيم السائدة فيه، وأكّد على حصر مفهوم العلم الذي أمر الكتاب الكريم به، وجاءت السنّة بحثِّ الناس على طلبه في العلم الشرعيّ، مستشهدًا بتعريف الغزالي المتوفي سنة 505هـ الموافق (1111م) للعلم في كتابه «الإحياء»([20]). لو تتبَّعنا هذه النماذج من مواقف الدنيويّين العلمانيّين لاحتجنا لدراسة خاصّة بها؛ ولذلك فلا نتوقع أن يقابل هؤلاء مثل هذه الاجتهادات التي يقدمها الإسلاميّون بما تستحقه من اهتمام، لكن ذلك كلّه لا يقلّل من أهميّة هذه الاجتهادات والحاجة إلى مثلها إذا وُضعت في سياقها ووُظّفت في نسق منهجيّ معرفيّ يهدف لإخراج العقل المسلم من دوائر التقليد وتدريبه على الاجتهاد والإبداع، ولكل مجتهد نصيب إن شاء الله تعالى.

 

إنّ المرحلة التي نحن فيها -الآن- هِيَ مرحلة «المنهجيّة المعرفيّة القرآنيّة»([21]). وأهم خصائص هذه المرحلة أنّها تجعل من مجرد محاولة العودة إلى فكر «المقاربات» و«المقارنات» محاولة تراجعيّة تُجرى خارج إطار «المشروع الحضاريّ الإسلاميّ» الكامل، وإن كان من الممكن إدراجها في إطار «مشروع سياسيّ محدود إقليميّ أو قوميّ»، والفرق كبير بين قواعد وأطر وتطلّعات المشروعيّن.

لا يظنَّن ظانّ أنّي فيما ذكرت من جوانب إيجابيّة للفقه المتعلق بقضايا «أهل الذمة» كنت أدافع عن فقه قديم موروث، أو أحاول تكريس ذلك الفقه، كلا، فذلك مما لم أقصده ولم أرم إليه حتى لو أفاده بعض مَا ذكرت لأول وهلة، لكنَّني قصدت إلى التأكيد على وجود مداخل منهاجيّة أخرى للإبداع والاجتهاد في هذا المجال وغيره يمكن سلوكها لبيان قدرة الإسلام الفائقة على استيعاب التعدديّات، وبناء قواعد عالميّة الهدى والنور والرحمة ودين الحق القادرة على استيعاب التعدديّات على مستوى المعمورة كلها لا على مستوى إقليم معين أو قوميّة محدّدة. هذه القدرة والقابليّة الكامنة في كتاب الله وفيما صحَّ عن رسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلّم- من سنته وهديه وسيرته وبيانه، تتمثل في منهاجيّة معرفيّة قرآنيّة نبويّة تُشكّل القاعدة الأساس لإعادة بناء الأمّة المسلمة الخيّرة الوسط الشاهدة؛ لتكون قطبًا ونموذجًا للبشريّة كافّة، بمنهج قرآنيّ يؤدّي إلى ضبط الأفكار وحمايتها من التوجّهات الانتقائيّة والتوفيقيّة.

وهذه المنهجيّة هِيَ التي مكنتْ الإمام الرازي من تبني القول بتجاوز تقسيمات الفقهاء الأقدمين للأرض إلى دارين: «دار إسلام» و«دار حرب»، أو ثلاثة ديار بإضافة دار ثالثة هِيَ «دار العهد»؛ ليقرر -عليه رحمة الله- أنّ الأرض -مرحليًّا- داران (أي في المرحلة التي كان فيها): «دار إسلام» و«دار دعوة»، وكأنّه -بذلك- أراد أن ينبّه إلى أنّ البشريّة قد تتجاوز حالة الصراع الدمويّ والإكراه الإنسانيّ إلى حالة التدافع الحضاريّ لتتم حماية دين الحق والهدى والنور، أو الاحتماء به في إطار تدافع حضاريّ يحمي الصوامع والمساجد والبيع والصلوات معًا في ظلّ قيم دين الحق والهدى الظاهر لا محالة على الدين كله، البالغ مَا بلغ الليل والنهار، المستوعب لكل التعدّديّات، الداخل لكل بيت، على نحو إنسانيّ مهتدٍ مناقضٍ لمناهج الحضارات السابقة واللاحقة في إبادتها لشعوب بأسرها أو إجبارها على قبول قيم وأفكار المتسلّطين عليها تحت مختلف الأسماء وشتّى المسمّيات، ومنها مَا سُمِّي بـ«ـالنظام العالميّ الجديد»؛ ولتكون الحوارات الإنسانيّة المتصلة وسيلة لنقل الأفكار وتبادلها.

ولعلّ هذه المنهجيّة المعرفيّة هِيَ التي أملت على شيخ الإسلام ابن تيمية تصنيفًا للعلوم لعلَّه انفرد به على أهل زمانه، حيث صنّفها إلى علوم «عقليّة وشرعيّة ومليّة»، و«حدّد -من خلال ذلك التصنيف للعلم- مواضع الإطلاق والعموم في العلوم التي يمكن أن تتناقلها الأمم دون حرج أو إخلال بهويّتها، كتلك التي يمكن أن تشكل رصيدًا حضاريًّا مشتركًا، ووضَّح الفرق بين النسبيّة والخصوصيّة، ووجَّه النَّظر إلى قاعدة معرفيّة وفكريّة تتيح قدرًا معلومًا من التنوّع والتمايز بين جماعة وأخرى، حيث إن التنوّع من سنن الله في خلقه، ولها مَا لها من حكمة ونفع، تمامًا كما أنَّ الوحدة من تلك السنن، وما بين الإطلاق والنسبيّة، والعموم والخصوص في تحديد قاعدة العلوم وتصنيف محاورها ودوائرها. كما توجد أيضًا المساحات المتداخلة والمتشابكة بين تلك التي لا هِيَ بالعقليّات المحضة ولا بالمليّات كليّة، والتي يمكن أن تتمثل في الشرعيّات من حيث مَا تجمعه من وحدة الأصول وتعدد وتنوّع في الفروع.

وهنا نلحظ المرونة والإحاطة والدقة والشمول ووضوح الرؤية ونفاذها في المجال المعرفيّ الذي يستمده صاحبه من تمثله للإطار المرجعيّ القرآنيّ، وإلمامه بمقدمات وأولويّات البيئة الاجتماعيّة الحضاريّة الإسلاميّة التي تتسع للتعامل مع الظواهر الاجتماعيّة والإنسانيّة والظاهرة الحضاريّة والعمرانيّة بكل مَا تتسم به من تعقّد وتعددّ في أبعادها وعمقها»([22])، مقدّمة حتى تصل إلى بناء عالميّتها المباركة.

إنَّ الالتزام بـ «منهجيّة الوحي المعرفيّة» سيقدم لنا الوسائل الضروريّة لضبط مناهج التفكير، وتقنين الأفكار. وينقل معالجتنا من الأطر الجزئيّة إلى الإطار الكليّ، ومن ساحات الخصوصيّات الضيقة إلى ميادين المأزق الحضاريّ العالميّ. ويُخرجنا من حالة الدفاع عن النفس أمام تحديّات الحضارة المعاصرة العالميّة بالتعامل مع الظواهر الجزئيّة المنعكسة عن الحضارة العالميّة فيما يتعلق بالأشكال الدستوريّة لأنظمة الحكم أو المؤسّسات الاقتصاديّة أو مظاهر السلوك الاجتماعيّ والأخلاقيّ([23]).

كما أنّ ذلك سيمكّننا من إنتاج الأفكار المنضبطة منهجيًّا، والمفاهيم والنظريّات الإبداعيّة الاجتهاديّة التي نواجه بها متطلبات شهودنا الحضاريّ، وعالميّتنا المرتقبة.

إنّ القرآن الكريم يقدّم لنا العلاج على مستوى أزماتنا، إذا ثوَّرناه واستنطقناه، وتدبّرناه وتَلَوْنَاه «حق التلاوة»، إنّ أزماتنا كثيرة، ومقاربة القرآن من «مدخل الأزمة» يحتاج إلى الفهم الشامل للقرآن وللأزمات، ودراستها بمنتهى العناية، ومحاولة عرضها على القرآن الكريم من قبيل تنزيل السؤال الجزئيّ على المصدر الكليّ، ألا وهو القرآن الكريم، وليس كما كان الحال في عهد النُّبوة وجيل التلقي -أن تفرز البيئة السؤال أو الإشكاليّة، ثم يأتي الوحي بالحل، أو بالإجابة عنها- بل نصوغ مشكلات عصورنا صياغات منطقيَّة عقليّة دقيقة، ثم نذهب بها إلى القرآن المجيد نستلهمه الحل والجواب الصحيح. وبقدر مَا نكون قادرين على «التدبُّر» وعلى صياغة إشكاليّاتنا نكون قادرين على الحصول على الإجابات الدقيقة.

هذه بعض ملاحظات عامّة وددت أن أطرحها بين يدي المثقفين من أبناء أمتي، خاصّة في الأقاليم التي شهدت ثورات ناجحة، وتغيُّرات لها مَا بعدها، والتي تشتد حاجة الناس فيها إلى الأفكار الأصيلة الحية التي تشكل دافعيّة وتُحَاط بمقوِّمات الشرعيّة.

سائلاً العليَّ القدير أن ينفعني بما سطرتُ، وأن ينفع أمتي بجهدي واجتهادي هذا، إنّه سميع مجيب.

([1]) المعجم الكبير للطبرانيّ؛ باب من اسمه معاوية، رقم (769).

([2]) السنن الكبرى للبيهقيّ؛ باب ما جاء فيمن مر بحائط، رقم (20141)، ورد بلفظ «وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَلِىٍّ الرُّوذْبَارِىُّ وَأَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ بِشْرَانَ قَالاَ أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّفَّارُ حَدَّثَنَا سَعْدَانُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ قَالَ عُمَرُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ : إِذَا كُنْتُمْ ثَلاَثَةً فَأَمِّرُوا عَلَيْكُمْ وَاحِدًا مِنْكُمْ فَإِذَا مَرَرْتُمْ بِرَاعِى الإِبِلِ فَنَادُوا يَا رَاعِىَ الإِبِلِ فَإِنْ أَجَابَكُمْ فَاسْتَسْقُوهُ وَإِنْ لَمْ يُجِبْكُمْ فَأْتُوهَا فَحُلُّوهَا وَاشْرَبُوا ثُمَّ صُرُّوهَا. هَذَا عَنْ عُمَرَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ صَحِيحٌ بِإِسْنَادَيْهِ جَمِيعًا وَهُوَ عِنْدَنَا مَحْمُولٌ عَلَى حَالِ الضَّرُورَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ».

([3]) شعب الإيمان للبيهقيّ؛ فصل في الترغيب في النكاح، رقم (5100)، ورد بلفظ: «أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، نا أَبُو الْعَبَّاسِ هُوَ الْأَصَمُّ، ثنا يَحْيَى بْنُ أَبِي [ص:341] طَالِبٍ، ثنا يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ الْحَضْرَمِيُّ، ثنا الْخَلِيلُ بْنُ مُرَّةَ، ثنا يَزِيدُ الرَّقَاشِيُّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا تَزَوَّجَ الْعَبْدُ فَقَدْ كَمُلَ نِصْفُ الدِّينِ، فَلْيَتَّقِ اللهَ فِي النِّصْفِ الْبَاقِي»»

[4] الصغار: من الصغر في السن أو في الحجم أو في المكانة، وقد يقال للرجل صَغُر إذا استبدل الذي هُوَ أدنى بالذي هُوَ خير وقد جاء في القرآن المجيد بصيغة اسم الفاعل في آية الجزية: ]حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ[ (التوبة:29)، وفي الآية (37) من سورة النمل: ]وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ[. فجُلّ المفسرين انصرفت أذهانهم إلى أنّ الصغار هنا هُوَ الذلة. ونظرًا لامتناع الترادف والاشتراك في القرآن المجيد، فإنّ من غير الممكن أن يكون المراد «ولنخرجنهم منها أذلة وهم ذليلون» فإذا كان الإنسان ذليلا في الأصل فلماذا يقال ذلك المعنى مرتين؟ إنّه لا يتناسب وبلاغة القرآن المجيد أن يقال: إنّ المعنى «لنخرجنهم أذلة وهم أذلة»، فلا بدّ أن يكون المراد بالصغار هنا شيئًا آخر، ومن الممكن أن يكون مرادًا هنا الالتزام بالحكم الصادر عليهم بدفع الجزية، فالالتزام والتكليف فيه معنى الكلفة والخضوع؛ فقوله: «فلنخرجنهم منها أذلة وهم خاضعون نازلون على الحكم الذي أخضعناهم له وأنزلناهم عليه بعد أن نكثوا عهودهم ونقضوا التزاماتهم»، وكذلك قوله جل شأنه: ]حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ[ (التوبة:29)، فيكون المراد حتى يعطي أولئك الناقضون لعهودهم غير الملتزمين بها الذين لا يؤتمنون على عهد ولا ميثاق ينبغي أن يقاتلو لدرأ خطرهم حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون أي: خاضعون لهذا التشريع نازلون على حكم الأمّة المسلمة هذا، فالآية في الناكثين أيمانهم من بعد عهودهم وأيمانهم الطاعنين في الإسلام المعاديين للمسلمين المتآمرين عليهم الذين لا أيمان لهم لعلّهم ينتهون ويتوقفون عن نقض العهود وخيانة الاتفاقات ونكثها؛ وقوله تعالى: ]عَنْ يَدٍ [يجعلها خاصّة بالقادرين منهم على الدفع.

([5]) راجع البحث القيم «المجتمع المدنيّ في عهد النبوة، أو بالسيرة النبويّة الصحيحة» الذي جمع متفرقات هذا الميثاق وحققها وبني عليها الكثير من الاستنباطات والدروس المستفادة لمؤلفه الدكتور أكرم ضياء العمريّ، طبعة المدينة وقطر وترجمته الإنجليزيّة نشرها المعهد العالميّ للفكر الإسلاميّ 1991م.

([6]) انظر مَا يتعلق بمفهوم «المواطنة» ونشأته بحثنا في «التجنس بجنسيّة البلاد غير المسلمة» المقدّم باللغة الإنجليزيّة للمؤتمر الحادي والعشرين لجمعيّة علماء الاجتماعيّات المسلمين، المنعقد بإيست لانسنج، ميشيجان، الولايات المتحدة الأمريكيّة، أكتوبر 1992.

[7])) راجع بحث الدكتور عبد الوهاب المسيري «الفردوس الأرضيّ» ومقالاته الأربعة التي نشرت بمجلة المصور بعنوان «هكذا تضيع الأحلام» عن أحداث (لوس أنجيليس) وقارن بما كتبه الأستاذ فهمي هويدي حول الأحداث نفسها.

([8]) اصطلاح استعمله الشهيد الفاروقي في محاضرته «نحن والغرب».

([9]) انظر أمريكا والإبادات الجماعيّة لمنير عكش.

([10]) يراجع البحث القيم عن العلمانيّة ومفهومها وآثارها في النموذج المعرفيّ والأخلاقيّ للدكتور عبد الوهاب المسيري الذي سيصدره المعهد في إطار المقدمات النظريّة لموسوعة «المفاهيم والمصطلحات الصهيونية» كما صدر ملخص لها في مجلة (منبر الشرق) القاهرية.

([11]) – محمد بن حسن بن فرقد الشيباني: نشأ بالكوفة وتتلمذ على أبي حنيفة وروى عنه وعن أبي يوسف ومسعد بن كرام وسفيان الثوري، وعمر بن در ومالك بن مقول، ومالك بن أنس والأوزاعي وربيعة بن صالح والربيع بن صبيح وابن المبارك وغيرهم، وروى عنه الشافعي وقال عنه: كنت أظن إذا رأيته يقرأ القرآن كأن القرآن نزل بلغته، وقد ولى القضاء بالرقة أيام الرشيد، مات بالري سنة 189. أنظر: ابن خلكان، وفيات الأعيان (بيروت: دار صادر، د.ت.) 3/ 325.

([12]) – هارون الرشيد (149- 193هـ = 766- 809م) هارون (الرشيد) ابن محمد (المهدي) ابن المنصور العباسي، أبو جعفر: خامس خلفاء الدولة العباسية في العراق، وأشهرهم. ولد بالري، لما كان أبوه أميرا عليها وعلى خراسان. أنظر ترجمته في الموسوعة العربية العالمية (الرياض: مؤسسة أعمال الموسوعة للنشر والتوزيع، 1996)26/26.

([13]) – القفال الشاشي الإمام العلامة، الفقيه الأصولي اللغوي، عالم خراسان، أبو بكر، محمد بن علي بن إسماعيل بن الشاشي الشافعي القفال الكبير، إمام وقته، بما وراء النهر، وصاحب التصانيف.توفي سنة ست وثلاثين. انظر: الشيرازي، طبقات الفقهاء (بيروت: دار القلم، د.ت.) 209.

([14]) – الرازي، التفسير الكبير، في مواضع عدة. وشرح الفاكهي على لقطة العجلان في أصول الفقه للقاضي زكريا الأنصاري ص7 .

([15]) – محمد بن عمر بن الحسين بن الحسن بن على الإمام فخر الدين الرازي القرشي البكري، (544- 606- 1150- 1210م) من ذرية أبي بكر الصديق رضي الله عنه. الشافعي المفسر المتكلم. له التفسير الكبير والمحصول في أصول الفقه. انظر ترجمته في السيوطي، طبقات المفسرين (القاهرة: مكتبة وهبة، 1976) 1/20، وابن خلكان وفيات الأعيان (بيروت: دار صادر، د.ت.) 1/486، وابن قاضي شهبة، طبقات الشافعية (بيروت: دار الكتب العلمية، 1987)4/90.

([16]) – الحديث سبق تخريجه كاملا ص 25.

([17]) – ومع ذلك فهذه التقسيمات ومنها تلك التي تجاوزناها ألا تعتبر أرأف بالإنسانية من التقسيمات التي تبتكرها القوى التي تسمى «بالعظمى» اليوم للأرض ومن عليها؟!

([18]) انظر البحث القيم للمستشار طارق البشريّ «مشكلتان» حول اضطربات رؤى فصائل الأمّة واختلافها، المعهد العالميّ للفكر الإسلاميّ، هيرندن، فيرجينيا، 1412هـ/ 1992م، وراجع بحثه المنشور في «مستقبل الحوار الإسلاميّ العلمانيّ».

([19]) انظر مقالة الدكتور خليل علي حيدر في صحيفة الوطن الكويتية نقلا عن (الأزمة الفكريّة والحضاريّة في الواقع العربيّ الراهن) للأستاذ مُحَمَّد أَبُو القاسم حاج حمد.

([20]) انظر نقد الفكر الدينيّ صادق العظم ص 26.

([21]) يراجع كتاب «منهجيّة القرآن المعرفيّة» أ. مُحَمَّد أَبُو القاسم حاج حمد، ويراجع كتابه الآخر «الأزمة الفكريّة والحضاريّة في الواقع العربيّ الراهن».

([22]) انظر مقدّمة د. منى أَبُو الفضل لكتاب «نظريّات التنمية السياسيّة المعاصرة: دراسة نقديّة في ضوء المنظور الحضاريّ الإسلاميّ» لنصر مُحَمَّد عارف، المعهد العالميّ للفكر الإسلاميّ، 1992م، ص 25- 54.

([23]) منهجيّة القرآن المعرفيّة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *