د. طه جابر العلواني
الأمّة المسلمة –والشعب العربي بمثابة القلب منها- ظاهرة مقابلة للأمّة الصهيونيَّة –واليهوديّة وإسرائيل بمثابة القلب منها- والتقابل بين الأمَّتين تقابل الأضداد والنقائض التي لا يخفف منها الانتماء إلى الإله الواحد والأب الواحد إبراهيم، ولا التماثل المحدود في بدايات التكوين.
فأمّة يهود وجدت بالتوراة وبقيادة نبي رسول وقائد قومي هو موسى –عليه السلام- وجذورها العرقية تمتد إلى يعقوب وإسحاق ومن ورائهما أبوهما إبراهيم –عليهم السلام- والأمة المسلمة تكونت بالقرآن المجيد وبقيادة رسول نبي هو محمد بن عبد الله –صلى الله عليه وآله وسلم- وينتمي النبي الرسول وآل بيته وحملة رسالته الأولون إلى إسماعيل ومن وراءه أبوه إبراهيم. وهذا التماثل في النشأة والتكوين، والقرابة اللصيقة (أبناء عمومة) لم يخففا حدة التناقض بين الأمتين، ولم يتمكنا من إيجاد أرضية مشتركة بينهما؛ فظل قانون العلاقات السائد بين الأمتين متأرحجا لا يستقر على حال –خاصة بعد أن حسم الله -تعالى- قضية “ختم النبوة” لصالح الأمة المسلمة، وختم النبيين بمحمد –عليه الصلاة والسلام- وختم الكتب السماوية بالقرآن الكريم. هنا اشتعلت بالحقد والحسد والغيرة قلوب ورثة أولئك الذين ألقوا أخاهم في غيابة الجب ليخلو لهم –بزعمهم- وجه أبيهم ويكونوا من بعده بالتوبة قومًا صالحين!!
وحماية الله –تعالى- لأخيهم المظلوم يوسف واجتبائه وتعليم الله له تأويل الأحاديث، وإتمام نعمته عليه وعلى آل يعقوب تلك النعمة التي شملتهم، والآيات الكثيرة التي أظهرها الله لهم؛ كل ذلك لم يجعل منهم قومًا صالحين. لكنهم لم يحفظوا من تلك الآيات والدروس غير شيء واحد؛ ففي الوقت الذي حاول يوسف فيه أن يذكرهم بالله –جل شأنه، ويقول لهم: ﴿إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (يوسف:90) لم يرد إلى أذهانهم إلا المشاعر السلبية التي لخصوها بقولهم: ﴿تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ﴾ (يوسف:91) ، ونسوا أو تناسوا أنَّ ذلك الشعور السلبي القديم الذي يمثل في توهمهم أن أباهم قد آثر يوسف عليهم فقرروا التخلص منه عمدًا مع سبق الإصرار والترصد، ولم يكن خطأً مجردا. والآن ينظرون إلى ما أنعم الله عليه به، وشملتهم النعمة بسببه أنه إيثار من الله ليوسف عليهم، فكيف يستطيعون أن يقوموا بشيء ليخلو لهم وجه الرب –سبحانه-؟! إنّها شخصية مصابة بالفصام شخصية ولد آدم الذي قتل أخاه؛ لأنَّ الله –عز وجل- قد تقبل قربانه دون قربانه هو. والقرآن المجيد يختم قصة سيدنا يوسف في سورة “غافر”: ﴿وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ * الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ﴾ (غافر:34-35) فما الذي فعلوه وفعلته أجيالهم بعد ذلك ليستحقوا ابتلاءهم بفرعون وقومه، واستعبادهم لهم؛ إنّها نفسيّة الشك والارتياب والإسراف واليأس من رحمة الله، وقتل الأنبياء، واستحلال المحرمات والمجادلة في آيات الله انطلاقًا من الغرور والتجبر والكبر ولا سلطان أتاهم يدل لشيء مما سقطوا فيه فاستحقوا مقت الله –تعالى- وغضبه، فانتهوا إلى ما انتهوا إليه. قال تعالى لبعضهم: ﴿… كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ (البقرة:65)، و ﴿وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ …﴾ (الأعراف:168)، و ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ … ﴾ (البقرة:61)، ورفع شأن الذين اتبعوا عيسى وجعلهم فوق الذين كفروا ﴿… وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ (آل عمران:55).
وهناك تشابه لا يخفى بين بعض جوانب حياة يوسف وحياة موسى –عليهما السلام-.
نفسيَّة العبودَّية لغير الله
لقد تأصلت في بني إسرائيل “نفسية العبيد”([1])، ولم يستطيعوا التخلص منها أو إحداث تغيير فيها، مع ما منّ الله عليهم به من كثرة الأنبياء والرسل الذين تتابعوا لهدايتهم، وتفاصيل ذلك نجده في سورة البقرة والمائدة والأعراف وسور كثيرة أخرى تحتاج إلى قرائتها بعمق وتدبرها بعناية لنتمكن بذلك من بناء تصور كفيل بتقديم حل قرآني “للمأزق الحضاريّ العالميّ الراهن” يحمل “رؤية القرآن الكونيَّة” التي تستطيع الهيمنة على آثار “الرؤيتين السائدتين الوضعيَّة واللاهوتيَّة”. و”رؤية القرآن الكونيَّة” انطلاقًا من إطلاقية القرآن التي تستوعب وتتجاوز “المطلق الكونيّ والمطلق الإنسانيّ”، فالقرآن هو الكتاب الإلهيّ المستوعب بالوعي الذي يؤسس له في الإنسان ويوجده في قوى وعيه، بحيث يتمكن بذلك من تقييم قضايا الوجود الكونيّ، وما يترتب على حركته، وإدراك قوانينه وسننه، وذلك بعض ما يؤسس القرآن للوعي به.
كما أنّ “الرؤية القرآنيَّة الكونيَّة” تؤسس للوعي بالعلاقة التفاعليّة بين الجهات المؤثرة في وقوع “الفعل الإنساني” أولا، ثم تقيمه بعد وقوعه انطلاقًا من القيم العليا الحاكمة “التوحيد، والتزكية، والعمران”، وبذلك يأخذ الإنسان موقعه في الوجود. بحيث لا يكون هناك أي مجال لاستلاب الإنسان أو نفي الغيب، أو تدمير الطبيعة والدخول في صراع معها قد يحرمها من العمران.
والقرآن الكريم خاتم الكتب المنزلة والمصدق والمهيمن عليها. لقد اشتمل القرآن الكريم على تراث النبوات كلها وراجعها وأزال ما لحقها من تغيير أو تضييع، وأعادها بتصديقه إلى “حالة الصدق” بحيث نستطيع أن نجدها كما نزلت أصولها في هذا الكتاب الكريم، وقد هيمن القرآن عليها من يوم نزوله. وأنقذها مما عانته أو كانت ستعانيه، فقراءة القرآن وتدبُّره تعني قراءة كتب وصحف وتراث النبيّين التوحيدي – كله- وهو التراث الذي أعلن –سبحانه- توريثه لهذه الأمة بقوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾ (فاطر:32) –الذي استرجعه القرآن ونقده وصدّق عليه ولم يحدث معه قطيعة ليستأنف تأسيس الدين من جديد، بل وقف موقف المكمل والمتمم لينطلق بذلك نحو “توحيد البشريَّة” أو “التأليف بينها” لتقوم بمهام الاستخلاف بكفاءة.
حق التلاوة ونفي الاستلاب
لقد حمل الخطاب القرآنيّ خصائص “الخطاب الكونيّ” فجعلته تلك الخصائص التي أودعها الله –تعالى- فيه قادرا على استيعاب وتجاوز سائر “المناهج المعرفيَّة العالميَّة” ومختلف “الأنساق الحضاريَّة” لا يحول بينه وبين ذلك ارتباط قوميٌّ أو جغرافيٌّ أو تاريخيٌّ. وحين تأسست الأمة المسلمة به انعكست خصائص القرآن عليها لتنقيتها من سائر مقومات الانغلاق أو الانحصار في أيّ بعد من تلك الأبعاد، ولذلك جعل القرآن من الأمَّة التي أسسها “أمَّةً قطبًا”، وبتلك الصفة أو الخاصّيّة المحوريَّة استحقت وراثة النبي –صلى الله عليه وآله وسلّم- في مهمة “الشهادة على الناس من بعده”.
إنّ الله –تبارك وتعالى- قد أودع في “المطلقات الثلاثة” “القرآن والإنسان والكون” من إمكان التفاعل وطاقاته ما يمنع من وقوع “الاستلاب” لأيّ من الثلاثة فلا الغيب يستلب الكون والإنسان، ولا الإنسان بمستلب للغيب والكون ولا أيّ منهما بمستلب للآخر، ولكنَّها علاقة تفاعل وتداخل تتصل وتنفصل لتحقيق غاية الحق من الخلق. ويتضح ذلك بفهم منهج “الجمع بين القرائتين” الذي يوضح ذلك التفاعل، ويجليه بأحسن الصور عند النظر في دور كل منها أعني “الغيب والكون والإنسان” وعن ذلك التفاعل يتكون “الفعل الإنساني” فلا قدرية ولا جبرية ولا عبثية ولا عدمية ولا سدى. بل هو فعل يتسم بالقصد والنية والفاعلية التي تجعل التساؤل عن مدى شرعية ذلك الفعل من عدمها أمرًا مفهوما، وترتب المسئولية عليه أمر طبيعيا.
المنظومة الموسويّة
حين تقرأ قصص موسى وأنبياء بني إسرائيل التي ذكرها القرآن المجيد نجد أنفسنا أمام منظومة متكاملة، فيها عقيدة وشريعة وسلوك ونظم حياة لشعب ذي تجربة وخبرة تاريخية تتمثل في آثار استلاب الإنسان للإنسان واستعباده له، وتعبيده لبشر مثله بكل وسائل القهر والإكراه تلك الآثار جعلت هذا المستعبَد المستَلَب يفقد لزمن طويل أي إحساس بأي أمر لا مرئي ولا حسّيّ مهما كانت الدلائل التي تشير إليه أو تنبه لوجوده حتى ليكاد يبلغ العجز التام عن التسليم بفكره وجود “اللامرئيّ” أو “الغيب” وليتفاعل الغيب مع إنسان بهذه المواصفات كان لابد للغيب من التنزّل إلى مستوى ذلك الإنسان المستلَب المريض العاجز –الذي كأنه أصيب بمرض العجز عن التفاعل مع الغيب، فتنزل الغيب لمستواه لينشئ معه “علاقة تفاعل وجدل حسّيّ مباشر” لعله يتذكر أو يخشى، فالوحي إلى موسى صوت مسموع له بدأ الاستماع إليه والإنصات من وراء شجرة ملتهبة في مظهر بين النور والنار، ثم يزود بتسع آيات حسية بينات في مقدمتها عصاه ويده وغيرهما وكلها معجزات حسيّة. ثم يشرك قومه معه في رؤية تلك المعجزات الحسيّة المرئيّة والمشاهدة. فبعد الانتصار على السحرة في يوم الزينة بالشكل الذي عرضه القرآن المجيد في “سورة طه” وغيرها بدأت معجزة خروج الشعب كله من غير أن يدرك أحدًا منهم فرعون وجنوده. وحين يصلون البحر ويستبد الهلع في قلوب الشعوب ويصرخون موسى: ﴿إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾ (الشعراء:61) يؤمر موسى بضرب البحر بعصاه –وهم ينظرون لينفلق البحر بضربة العصا ويصبح فرقين كل فرق كالطود العظيم، وبتلك الضربة صار طريقهم سالكًا يبسًا لا يخافون فيه دركا، ولا يخشون حتى إذا بلغ آخر إسرائيلي الضفة الأخرى، وتوهم فرعون أن الطريق سيبقى سالكًا، وتوسطوا ذلك الطريق أطبقت المياه عليهم لتغرقهم جميعًا وبنو إسرائيل ينظرون، وظللهم الغمام يحميهم من وهج الشمس، وأنزل لهم من السماء أشهى الأطعمة، طيور السلوى المشوية مع الحلوى المن السماوي، وحين احتاجوا المياه ضرب موسى –عليه السلام- الحجر بعصاه –وهم ينظرون- لتنفجر اثنتا عشرة عينا بحيث يكون لكل قبيل منهم عين مائه المستقلة لا يشاركه فيها غيره فيختلفون.
والخطاب الإلهي لهم فيه معاني تكريم واضحة ظاهرة فهو خطاب خاص مباشر: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ (الصف:6) لا يشاركهم غيرهم فيه، والوطن الذي اختاره الله لهم الأرض المقدسة. والحاكميّة الإلهية أبدلت بحاكميّة فرعون واستعباده لهم مباشرة. يكون دور الأنبياء فيها مثل دور المبلّغين الذين قوام مهمتهم أن يُسمعوا الشعب أوامر الله ويتلقوا من الشعب طلباته ليرفعوها إليه. فليس لأحد حق الاجتهاد والتصرّف، بالرأي والاجتهاد.
الشريعة العتيقة
حين تنزلت التوراة بالشريعة ونزلت الألواح والصحف على موسى كانت “الشريعة” تمثل كل ما يناسب قومًا لهم ذلك التاريخ في استلاب الفراعنة لهم واستعبادهم إياهم، ثم تأتي البدائل التي قدمها الله –جل شأنه- لهم ملاحظة كل ما في نشأتهم وتكوينهم وسيرورتهم التاريخية. فكيف كانت ردود أفعالهم تجاه كل تلك النعم والبدائل؟ كانت سلبية بكل المقاييس، فكانت الشريعة العتيقة عهدًا إلهيّا لا يسعهم نقضه أو الخروج عن شيء منه، وقوانين صارمة لابد من تنفيذ كل جزئية منها بمنتهى الدقة وبحرفية تامة ووصايا ليس من حق أحد الاجتهاد في إدخال أي حذف أو إضافة عليها.
فالحاكم هو الله لا مبدل لحكمه، والعلاقة ليست علاقة استخلاف بل “حاكميَّة إلهيَّة مباشرة”، والأنبياء متتابعون إذا مات نبي أو قتل بعث الله –جل شأنه- من يخلفه. وفي الشريعة تشديد وثقل وحرمان من بعض الطيبات، وذلك منتهى العدل مع قوم منحوا كل ما تقدم ليطهروا من آثار الاستلاب والاستعباد الفرعوني وليرجعوا إلى حظيرة البشر الأسوياء. فكأن الله –سبحانه- وقد سخر لهم ذلك –كله- استثناهم استثناء مؤقتا من الأمانة والتخيير، وجعلهم في حالة هي أشبه ما تكون وأقرب ما تكون إلى “حالة التسخير” كل ذلك لتطهيرهم من آثار الاستلاب والاستعباد البشريّ، فهل تخلصوا من آثار الاستعباد لبشر مثلهم؟!
والجواب: لا؛ إن نفسية “عبيد العبيد” قد تضعف أمام أنوار التوحيد المشرق المحرِّر، وقد تختفي أحيانًا تحت هدى النبيين والمرسلين، لكنها سرعان ما تظهر بكامل قوتها وعنفوانها لدى أيَّة بادرة من غفلة!! إنّها تصبح وكأنها الأصل وتبدو حالة التوحيد والتحرر والحريّة هي الاستثناء. لقد جعلني التأمل في آثار هذا الظاهرة أفهم لماذا كان “التوحيد” جوهر رسالات الأنبياء والمرسلين كافة؟ ولماذا ربط القرآن المجيد بالتوحيد سائر أركان الدين ودعائمه؟ ولماذا كان المحور الأساس للقرآن المجيد ولجهوده –صلى الله عليه وآله وسلم- طيلة العهد المكي؟ ولماذا كانت الشهادتان عنوانا دقيقا لمنظومة الحنيفية وحملتها من إبراهيم –عليه السلام- إلى محمد –عليه الصلاة والسلام؟
لقد كانت “المنظومة الموسويَّة” منظومة حسية كاملة، هيمنت عليها “حاكميَّة إلهيَّة مباشرة” تعاملت مع الشعب الإسرائيلي تعامل “تسخير لا استخلاف” فإذا رفضوا السمع والطاعة رفع الجبل فوق رؤوسهم وقيل لهم: ﴿خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ﴾ (البقرة:63)، ﴿وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (الأعراف:171)، فصاروا كأنهم استثناء من الحالة الآدمية المستخلفة ومع كل النعم والامتيازات التي حصلوا عليها في إطار ذلك التنسيق، لكنهم أعلنوا في مرحلة لاحقة تمردهم على “الحاكميَّة الإلهيَّة” ورفضهم لها؛ لأنَّهم ظنوا أنهم إذا تمردوا على “الحاكميَّة الإلهيَّة المباشرة” ونالوا “حاكميَّة الاستخلاف” يستطيعون الاحتفاظ بتلك الامتيازات –كلها- مع التخلص من تشريعات التشديد والنكال والإصر والأغلال؛ فأبدلهم الله –تعالى- بحاكميَّة استخلاف أوتيها داود، ثم بملكيَّة منحها سليمان، وخلافة داود وملكيَّة سليمان وإن اختلفتا عن الحاكميَّة الإلهيَّة المباشرة؛ لكن الله –تبارك وتعالى- قد من على الخليفة داود والملك سليمان بخصائص كثيرة تجعل عملية الانتقال من الحاكمية الإلهية المباشرة إلى حاكمية الاستخلاف والملك متدرجة إلى حد ما فبقيت خلافة داود وملك سليمان دائرتين في إطار “النسق الحسي” ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ (البقرة:246)، ﴿وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ * وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ * وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ * وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ﴾ (الأنبياء:78-82).
إنَّ قصص بني إسرائيل قدمت لنا دروسًا في غاية الأهميّة والخطورة حول آثار استعباد الإنسان للإنسان واستبداده بشأنه وما يترتب عليه من تدمير واستلاب لشخصية المستعبد تفقده خصائصه الإنسانية وإطلاقيته فلا تجتمع نفسيَّة العبيد وحريَّة عباد الله وإطلاقيتهم في شخص واحد أبدا، فإمَّا الإنسان الحر المطلق الذي يحيا وكأنه الطير في السماء حر مريد مختار، وهو الإنسان الذي شكله النسق الإسلامي، وإمَّا التسخير في نسق جبري تستلب فيه الإرادة الإنسانية.
لقد أثبتت “الظاهرة الإسرائيلية” أن الإنسان المستلب من إنسان مثله يكون إلى المسخرات أقرب منه إلى الاستخلاف؛ لأنه يفقد إنسانيته بذلك الاستلاب، فكان لابد أن ننسخ تلك الظاهرة، وتبقى دروسها عبرة للبشريَّة إلى يوم الدين فبقاؤها كبقاء جسد فرعون: ﴿فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ﴾ (يونس:92). لقد نزل قوله تعالى: ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (البقرة:106) ليعلن طيّ تلك الصفحة ونسخ تلك التجربة: فالخطاب الحصريّ لبني إسرائيل يجري تجاوزه، ويستبدل بخطاب عالمي يخاطب العالمين كافة دون تمييز. ويصبح الناس فريقين لا ثالث لهما: “أمة إجابة وأمة دعوة” وللإنسان حرية تامة إن شاء آمن فصار من “أمة الإجابة” وإن شاء بقى على ما كان عليه فكان من “أمة الدعوة”.
لقد عز على بني إسرائيل نقل النبوة والرسالة الخاتمة عنهم، وجعلها في غيرهم، ولغرورهم وكبريائهم رفضوا أن يكون النبي الخاتم من سواهم، فحاولوا صلب عيسى –عليه السلام- بأيدي الرومان، وحرضوا عليه، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وأصروا على ضرورة أن يكون النبي الخاتم منهم. وإذا وجدوا في كتبهم بشائر بشرت بمجيئ النبي الخاتم من مكة وفي جزيرة العرب انتقلت أهم قبائلهم إلى شبه جزيرة العرب وخاصة الحجاز: مكة والمدينة، واتخذوا من الحجاز وطنا بديلا، وانتشروا في المدينة ومكة والطرق الموصلة بينهما، وقرروا التداخل مع العرب وتوثيق الصلات معهم. كان ذلك قبل سبعة قرون من بعثة رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- ﴿… وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ (البقرة:89)، ويهددون مشركي العرب بأن النبي الخاتم سيظهر، وأنهم سوف ينضمون إليه، ويسلمونه قيادتهم، ويسيطرون بقيادتهم على العرب وشبه جزيرتهم. وحين ظهر رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- كانوا يعرفونه من بشائر أنبيائهم، وما جاء عنه في التوراة والإنجيل كما يعرفون أبنائهم، وعز عليهم أن لا يكون لهم أي شرك في أصله ونسبه. وهم الذين حاولوا أن يستأثروا بالله من دون الناس كافة، وقالوا: ﴿… نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ … ﴾ (المائدة:18)، وحاولوا الاسئثار بالجنة وقالوا: ﴿وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى … ﴾ (البقرة:111) فاتجاهات الاستعلاء على البشرية –كلها- والاستئثار بكل خير دونها. بل إنهم حين أمروا بإبلاغ ما نزل في التوراة من النور رفضوا ذلك، وقالوا: ﴿… قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ (البقرة:76)، وكذلك رفضوا اطلاع الشعوب الأمية على التوراة وقالوا: ﴿… قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ … ﴾ (آل عمران:75).
([1]) هي نفسية لها مواصفات خاصة تتكون في ظروف استعباد الإنسان لأخيه الإنسان، تستلب نتيجة لذلك إنسانيته.