«الوجود الإسلاميّ في فرنسا»

كيف نوازن بين الولائين الولاء الوطني والولاء الدينيّ^([1])

القرآن والتراث

اليهوديّة

د. طه جابر العلواني

العالميّة:

1. لعلّ من حسن الحظ أنّ الوجود الإسلاميّ في فرنسا يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالبلدان المغاربيَّة ذات الصلة الواهنة في الدولة العثمانيّة فلم تشهد انقسامًا أو صراعًا بين «الإسلام والعروبة» بل على العكس من ذلك شهدت وحدة واتحادًا بينهما، ولم تبتلى بالصراعات الطائفيّة والمذهبيّة بالشكل الذي حدث في المشرق.
2. البلدان المغاربيَّة لم تشهد انقسامات طائفيّة كالانقسامات الطائفيّة التي شهدها المشرق والتي أثرت سلبًا في تاريخ بلدانه ولا تزال تحدث ذلك، والدولة العثمانيّة في صراعها مع الصفويّين نموذج لذلك، وكذلك مَا تشهده الساحة في العراق وإيران ومنطقة الخليج والباكستان من مشكلات حادّة. أمّا المغاربة فكلّهم سنيّون يتبنّون مذهب مالك في الفقه. والإباضيّون منهم ألفوا التعايش بسلام دون أن يجدوا في أنفسهم حرجًا أو غضاضة!!

وظاهرة «الردّة أو التحول الدينيّ» الحاليّة لعلها ظاهرة آيلة إلى زوال إن شاء الله تعالى!!

3. لم تشهد بلدان المغرب –ما شهدته الأقطار المشرقيَّة منذ وقت مبكر تاريخيًّا من فصام بين القيادتين السياسيّة والعلمائية «أهل السيف وأهل القلم»، بل كان العلماء –أهل القلم- ورؤساء القبائل قادة حركات الإصلاح والتغيير يقدمون معًا للإصلاح وحركاته «الشرعيَّة والعصبيَّة» بتوازن دقيق يحفظ لكل دوره.
4. الانقسامات العرقيَّة لم تأخذ بينهم شكلها الحاد الذي برز في المشرق بين العرب والترك وبين العرب والكرد، وبين العرب والفرس. ولم تستطع الجهات الخارجيّة توظيف التنوّع إلى عرب وبربر، ولم تؤت جهودها على كثرتها وتنوّعها –ما آتته جهود تلك القوى في المشرق.

فهناك ثقافة مشتركة بين العرب والبربر في المغارب وأعراف أرسى دعائمها المذهب الأشعريّ في الأصول والمذهب المالكيّ في الفروع حالت وتحول دون ذلك.

ولما حاولت فرنسا توظيف «العرف» و«العادة» لدى البربر بديلا عن الفقه المالكيّ كان في مقدِّمة من قاوم ذلك علماء البربر وفقهاؤهم، وأبرزوا «العرف» باعتباره دليلا من أدلة أصول المذهب المالكيّ: فلا داعي للتحول عن المذهب لصالحه وهو مندرج في المذهب.

5. اتسمت البلدان المغاربيَّة بالقدرة الفائقة على احتواء «الطرق الصوفيَّة» وتوظيفها عند الحاجة في إطار حركات الإصلاح والتغيير وهذه ميزة أخرى للبلدان المغاربيَّة على المشارقيّة –التي تعاونت فيها بعض الطرق مع جهات قد كانت معادية لقضايا الأمّة واستغلت بشكل كبير في إضعاف حركات الإصلاح والتغيير.

ولذلك فإنّ فرنسا لا بدّ لها من الوعي بطبيعة «الوجود الإسلاميّ» فيها وعدم الوقوع في أخطاء التعميمات القائمة على قياسات أقل ما يقال فيها: إنّها غير دقيقة!! والحكومة الفرنسيّة في حاجة إلى التفاهم مع قيادات «الوجود الإسلاميّ» فيها على أمور عديدة، وبناء جسور من الثقة للقيام بأعمال مشتركة تجعل «الوجود الإسلاميّ» في فرنسا أكثر فائدة للمجتمع الفرنسي كلّه.

6. ومما ينبغي ملاحظته ومراجعته مع قيادات الوجود الإسلاميّ في فرنسا:
   • مراجعة برامج الحركات الدينيَّة الثقافيَّة، والدعوة إلى تعديلها بما يتناسب وأوضاع المسلمين في فرنسا بحيث تصبح مصادر ثقافة فرنسيّة إسلاميّة.
   • تجنُّب نقل ثقافة حركات المعارضة السياسيّة الإسلاميّة التاريخيّة إلى فرنسا وعدم إشغال الأقليّة المسلمة بها عن مواجهة التحديّات المباشرة للجالية. خاصّة في مجال «توطين الإسلام»، وبناء ثقافة الثقة والتسامح بين المسلمين وغيرهم.
   • تجنُّب كل مَا من شأنه الافتئآت على الأمّة أو المجتمعات الإسلاميّة، وادعاء تمثيلها واعتبار ذلك أمرًا غير مقبول، يعزل الداعون له الافتئآت على الدول المضيفة.
   • تبنيّ الأقليّة المسلمة أهدافًا سياسيّة واجتماعيّة وثقافيَّة منظمة تشترك فيها مع بقيّة فصائل المجتمع الفرنسيّ وتوضع بمقتضاها أجندة عمل دقيقة ذات خطط خمسيّة أو عشريّة تجرى مراجعتها من حين لآخر، يلاحظ فيها «فقه الأولويّات وفقه الموازنات وفقه الواقع وفقه المآلات» و«فقه المقاصد» و«فقه المصالح». وذلك جماع «فقه الأقليات».
   • فقه الواقع:

وفي إطار «فقه الواقع والموقع» لا بدّ لنا من معرفة موقعنا بدقة، ومعرفة الجار والمضيف بدقة كذلك. وهنا يأتي دور الأسئلة التي نطرحها في فقه «الأقليّات» لمعرفة الأكثريّة التي نعيش بينها.

• التركيز في عناصر الهويّة على وحدة في لغتين. الفرنسية لغة الحياة والتعامل، والهُوِيَّة المشتركة مع الآخر والعربيّة لغة الدين والتاريخ ووحدة الهدف والمصير. واعتبار العروبة اللغويّة حقلا ثقافيًّا، وإطارًا حضاريًّا يجتمع فيه سائر القادمين من ذلك «المحيط الاجتماعيّ الإسلاميّ» والحذر من الاستمرار في تبنّي منشور «ليوطي» الذي حكم المغرب من (25-1912) وجاء فيه «… يجب بادئ ذي بدء أن نتجنّب تعليم العربيَّة لأناس دأبوا على الاستغناء عنها. إنّ هذه اللغة تجر إلى الإسلام، لأنّها تتعلم في القرآن».

أوروبا والإسلام:

وصف «هنري ﭘيرين» أحد أهم المؤرخين الأوربييِّن في هذا القرن العشرين توسع وامتداد المسلمين في القرنين السابع والثامن بأنّه عدوان هدّد أوربا قبل أن تتشكل من جانبين في وقت واحد. وهذا القول خاطئ؛ لأنّ أوربا لم تكن موجودة في تلك الــــفترة بوصفها أوربا –ولم تتشكل هُويّتها بعد. وهذا المؤرخ قد أسقط التاريخ –قبل الأوربيّ- على أوروبا ليساعد في إساءة فهم أوربا لتاريخها الخاص المستند على هُوِيَّة أوربيّة منتهية التكوين وثابتة^([2]).

لقد كان الإسلام أساسيًّا بالنسبة لتشكيل هذه الهُوِيَّة، وما يزال كذلك بالنسبة للحفاظ عليها.

إنّ تشكيل أوربا بدأ بالحروب الصليبيّة –التي كان أسلافنا يسمّونها «حروب الفرنجة» فهذه الحروب –على امتدادها- قادت إلى تشكيل «الجماعة المسيحيّة الغربيّة» وأوربا باعتبارها وحدة ذات «هويَّة جماعيّة» قادرة على تنسيق الفعل الجماعيّ وهذه الوحدة قد جرى التعبير عنها باعتبارها قاعدة في العلاقة بالمسلمين باعتبارهم عدوًا. فهذه الرؤية قد أدت إلى بناء دعائم «اتحاد غربيّ يمكن اعتباره الأول. وخلق جيش صليبيّ ليكون معلمًا بارزًا في التوجيه نحو السلم والوحدة الأوربيّين» في مواجهة المسلمين والمسألة الشرقيّة خاصّة.

ليس ذلك فحسب، بل لقد صاغت تلك الحروب ضد ذلك العدو «الإسلام والمسلمين» العلاقات بين السلطتين الروحيّة والزمنيّة بين الملكيّة البابويّة الإمبراطوريّة والممالك الزمنيَّة.

كما أنّ «المسلمين» منذ ذلك التاريخ جرى اعتبارهم العدو الأول الذي يهدد وحدة أوربا ومسيحيّتها من بين جميع الأعداء الممكنين.. فالسلم الأوربيّ قد لا يكون ممكن التحقق إلا إذا ارتبط بتحويل سائر إمكانات العنف الداخليّ باتجاه ذلك العدو الخارجيّ «المسلمين». كانت –هناك- «حركة السلم الأوروبيّ»، وهي «الحركة الدينيّة المسيحيَّة» التي حاولت في القرن الحادي عشر أن تحقق «سلام الرب» في أوروبا و«هدنة الرب» بإنهاء الحرب والعنف الداخليّين اللذين كانا طابع العلاقات بين الفصائل المسيحيّة الأوربيّة.

وحين تصدر هذه الحركة باباوات الإصلاح الكنسيّ لم يكتفوا بالنصح وتوجيه النداءآت لتلك الفصائل، بل شكلوا جيشًا محاربًا ملحقًا بالكنيسة تستخدمه الكنيسة للسيطرة على العنف في أوربا، والحيلولة دون قيامه وبدأ يظهر في الأدب الأوربيّ في تلك المرحلة مَا يعرف «بالأخلاق العسكريّة المسيحيّة» وقد قويت بذلك شوكة «حركة السلم الأوربي المسيحيّ وأفكار الوحدة»، وكل أولئك الذين يرفضون الالتزام بالسلم الداخليّ يتهمون بأنهم أتباع الشيطان.

ثم جرى في «مجمع ناربون السلمي» عام (1054) تقنين مبادئ حركة السلم هذه واعتبارها جزءًا من مبادئ المسيحيّة. أمّا تلك القوات التي تشكلت لحفظ السلام فقد كان لا بدّ لها من عدو خارجيّ تعبر عن عنفها فيه. فكان المسلمون ذلك العدو.

فهذه قضيَّة تاريخيَّة تدخل في إطار الثوابت، والأمم الحيَّة لا تنسى تاريخها بسهولة.

المسألة الشرقيَّة:

بدأت تظهر باعتبارها التهديد الشرقيّ الإسلاميّ ضد أوربا. بدأ تلك المشاعر السلبيّة تنتشر في اليونان الذي حقق الأتراك ضدهم في تلك المرحلة انتصارات كبيرة، ومنها انتقلت ما صار يعرف بعد ذلك بأوروبا.

عرضت ذلك -كلّه- ثم أثار الوزير الفرنسيّ مندوب الحكومة تساؤلات كثيرة؛ منها:

إنّ كثيرًا من أئمة المساجد في فرنسا يقولون بأنّ فرنسا دار حرب، وذلك لا يسمح للمسلم أن يحب فرنسا أو يخلص لها، ويجعل المسلم عاجزًا عن الانتماء إلى فرنسا طالت إقامته فيها، تريدون منَّا أن نعتبرهم مواطنين فرنسيّين يتمتعون بسائر حقوق المواطنين الفرنسيّين؟!

لقد احتفظ أرشيفنا بفتاوى علماء من جميع البلدان المغاربيَّة يحرّمون التجنّس بالجنسيّة الفرنسيّة، فما الذي تغيَّر الآن لتطالبوا فرنسا بمنحهم جنسيَّة يحرم التجنّس بها في نظر علمائها؟

المسلمون في فرنسا يرفضون الثقافة الفرنسيّة وينظرون للمواطنين الفرنسيّين على أنّهم كفّار أو مشركون يجب حملهم على الإسلام أو أخذ منهم.

⁽[1]⁾ هذا ملخص لمحاضرة في مؤتمر نظمته الجالية المسلمة في صائفة سابقه حضره د. سعيد رمضان البوطيّ، والفقير إليه تعالى بدعوة من د. العربيّ الكشّاط، وشارك فيه مندوبون عن الحكومة الفرنسيّة وبعض قيادات المواطنين المسلمين الفرنسيّين، وذلك لمعالجة بعض المشكلات المثارة -آنذاك- بين الحكومة والمواطنين الفرنسيّين المسلمين.

[2] انظر الإسلام وخلق الهويَّة الأوربية توماس ماستناك ترجمة بشير السباعي/ دار النيل- الإسكندرية/ يناير 1995، ص7 (2) المصدر نفسه.