Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

الكنيسة والمسجد

د. طه جابر العلواني

ليس من شأن المؤمن أن يهدم أو يضر بأيّ مكان اتخذه أهله للعبادة بحسب اعتقادهم وبحسب دينهم، ومَن يخالفهم في الدين والاعتقاد، ليس له أن يهدر حرمة المكان باعتباره مكانًا أعدّه أصحابه ليعلنوا أنّهم مؤمنون بوجود ربّ وإله ودين.

 والمسلمون بالذات بحكم كونهم الأمّة الوسط والسائدة والخيّرة حُملوا مسئوليّة حماية مساجدهم ومعابد الآخرين كما لو كانت مساجد، وحين أذن الله تعالى للمسلمين بالقتال بعد أن كانوا ممنوعين منه في مكة بقوله تعالى: (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاة) (النساء:77)، جعل الله –تعالى- علّة الإذن بالقتال أن يدافع المسلمون عن أنفسهم وعن مساجدهم وكنائس النصارى وبيع اليهود وسائر أماكن العبادة لسائر الأمم وكافة الأديان؛ فقال جل شأنه: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيز) (الحج:39-40). فالمسلم إذن مسؤول عن حماية دور العبادة كلّها لسائر الأمم ولكافة الأديان؛ لأنّه صاحب رسالة عالميّة يفترض أن تستوعب سائر الأمم وكافة الأديان وتحمي الأديان كلها بما في ذلك الأديان الصريحة في الكفر والشرك مثل الزرادشتيّة والمجوسيّة.

 لقد حمى المسلمون عبر تاريخهم رموز الأديان، ولقد بلغ من حرص المسلمين على ذلك أنّ التاريخ قد سجّل بمختلف الأصول وقائع قاتل المسلمون ودافعوا فيها عن بيوت النار للمعظمين لها، وبلدان المسلمين شاهدة على ذلك. ففي شمال العراق مَا يزال الذين يعظّمون الشيطان ويسمونه «طاوس ملك» ولهم أماكن عبادتهم التي عاشت في ظل حماية المسلمين قرونًا عديدة وما تزال، وقام المسلمون بحماية معابد أولئك ورموزهم ولم يترددوا بتسوية ذلك في مساجدهم ودور عبادتهم ولم يسجّل التاريخ طيلة فترات العيش المشترك بين المسلمين وغيرهم تهاونًا من المسلمين بمخالفيهم في الدين أو استهانة بمقدساتهم ودور عبادتهم، إلا في أشد فترات التاريخ تراجعًا وظلامًا وجهلا؛ بل كان المسلمون يحرصون الحرص كلّه على أن توجد في بلدانهم سائر الرموز، ويرى بعضهم أن أي مدينة من المدن الإسلاميّة لا يكتمل فخارها إلا بذلك التنوّع الدينيّ والمذهبيّ وما إلى ذلك. لكن حين يسود الجهل وينحسر العلم وتسود العقليّات السكونيّة الماضويّة المتعصبة التي تحاول التعويض بالتشبث بالقشور عن القيام بالمهام وبالأصول فينصرف النّاس إلى أمور ساذجة ويضخمونها ويجعلون منها قضيّة تسوّغ لهم وجودهم ونفوذهم وربما بعض رسومهم ومناصبهم.

هؤلاء الماضويّون يحاولون العيش في تاريخ صنعوه وفقًا لهواهم، وتراث أرسوه وفقًا لمزاجهم، بحيث يستجيبون لنزغات الشيطان ونزعاتهم، فيصنعون من المعارك الوهميّة الدونكيشوتيّة معارك ضخمة مع طواحين الهواء والذباب الطائر وما إليه. فذلك قد يشيع نزعات مريضة مكبوتة أو ينعش خيالات سقيمة، فتتطلع إلى أن تكون لها أدوار تجعلها تعيش الماضي، فتجد من يعين هؤلاء، من يوزّع المنشورات في مصر وغيرها حول الأخت المسلمة فلانة التي تركت المسيحيّة، ودخلت الإسلام واسمها كذا وسنها كذا، وأخذتها الكنيسة وقتلتها أو فعلت بها مَا فعلت. فيأتي موزّع المناشير هذا وقد ملأ ذهنه بصور الخليفة المعتصم الَّذِي استغاثت به امرأة مسلمة من عموريّة أو حمص يعيشون على تخومها، فنهض الخليفة نهضة الأسد انتصارًا لتلك المرأة المظلومة وقاد الجيش الَّذِي نهض لفتح عموريّة، ثم يأتي خيال الأخ الَّذِي يوزّع المناشير الماضويّ في اتجاهه السكونيّ في نزعته فيلبس لامة حرب المعتصم ويذهب ليجند مَن يستطيع، وينادي بالويل والثبور وعظائم الأمور لإنقاذ تلك الأخت التي لا يعرف أحد مَن هِيَ. ولا يهمه آنذاك وحدة مصر والمصريّين، ولا مستقبل هذه البلاد ولا مَا سيحدث!

إنّ الله -تبارك وتعالى- قد منح للناس حريّة التدين وحرية العبادة، وجعل كلاًّ منهما حقًا ثابتًا للإنسان ليس لأحد أن يستلبه أو يصادره منه وأنه لا إكراه في الدين، وأنّ المسلمين في مصر لن يزيدهم كثيرًا إسلام سيدة أو سيد من أخواننا وأخواتنا الأقباط، ولن ينقص النصارى كثيرًا مغادرة واحد أو آخر إلى دين آخر أو إلى كنيسة أخرى، وأنّ الأمر أولا وأخيرًا داخلا في إطار الحريّة الشخصيّة، ولا إكراه في الدين (أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُون) (هود:28)، وقال لنبيه -صلى الله عليه وآله وسلّم: (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِين) (يونس:99) فقضيّة الإيمان والكفر والتدين والتعبد هِيَ من صميم الحقوق الشخصيّة. وبدلاً أن يدخل المسلمون والأقباط عند انتقال أي مواطن من دينه إلى دينٍ آخر في صراعات ومشاكل تهدّد الوحدة الوطنيّة، فإنّ من الممكن يكون هناك توافق بين الكنيسة والأزهر على حرية اختيار الدين، وأن يكون للمسلم أو المسلمة الحق في أن يغيّر دينه إذا وجد في نفسه مَا يحول بينه وبين الاستمرار في دينه، وذهب إلى أهل العلم وناقشهم وأخذ وأعطى معهم ولم يقتنع، فليذهب إلى الدين الَّذِي اختاره.

 لقد تحوّل الآلاف من أبناء المسلمين إلى الماركسيّة اللينينيّة، وهي ترى أنّ الدين أفيون الشعوب، أي دين، ولم تقم قيامة المسلمين ولا النصارى ولم يعلنوا الحرب على روسيا ولا على الأحزاب الشيوعيّة. كما تحوّل آلاف من أبناء المسلمين إلى العقيدة البعثيّة، وحكم البعثيّون عاصمتي الأمويّين والعباسيّين عقودًا طويلة، وقاد ميشيل عفلق آلاف الشباب المسلمين للدخول في العقيدة البعثيّة وأحدث تغيّرات جذريّة في معتقداتهم ولم يثر الماضويّون ولا غيرهم؛ بل لم يحتجّوا، وأيد بعضهم البقاء تحت سلطانات تتبنى تلك المعتقدات واعتبروا الخروج عليها ممنوعًا وخروجًا على أئمة حق، وليس بينهم وبين الحق نسب ولا صهر، ولم تحدث احتجاجات من المسلمين أو غيرهم، والحزب يؤمن بالماركسيّة اللينينية ويقول شاعر حزب البعث:

آمنت بالبعث ربًّا لا شريك له * * * وبالعروبة دينًا مَا له ثان

ولم يحمل هؤلاء الماضويّون سيوفهم الخشبيّة لمحاربة هؤلاء، ولم ينادوا بالويل والثبور وعظائم الأمور كما يفعلون في قضايا الأقباط والمسلمين.

أظنّ أنّ المصريّين اليوم وبعد ثورة 25 يناير 2011 في حاجة إلى الوعي بمقاصد وغايات «صلح الحديبية» الَّذِي أبرمه رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلّم- وفهم بنوده ودلالاته ومغازيه وأن يسترجعوا حكمه ودروسه، وأن يوقفوا هؤلاء الباحثين عن أمجاد ومعارك ومغازي وأن يعزلوهم عن مراكز التأثير في الرأي العام.

إنّنا نعلم أنّ الكنيسة مَا تزال تحتفظ ببعض بنود قانونيّة تتبناها سابقًا روما في الدولة الرومانيّة، كما تتبناها أثينا في مرحلة ما، بما في ذلك مراحل مَا قبل المسيحيّة، وفي هذه البنود أو المواد منع الردّة وتجريم المرتد وإيجاب قتله، وقد كان الوضع في معظم مناطق العالم يتبنى أفكار قتل المرتد، ورحم الله تعالى الناس بالإسلام الَّذِي جاء ليعلن مبدأ إسلاميًّا قرآنيًّا (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ) (البقرة:256)، فجعل القرآن الكريم قضيّة الردّة والعقوبة عليها _إن تجرد من أيّ فعل آخر كالخيانة العظمى أو التخريب أو إثارة الفتن أو الاعتداء على مقدسات الآخرين_ أمرًا بين الإنسان وربه، فلا عقوبة في الدنيا على مَن رأى في نفسه حاجة إلى الانتقال من دين كان عليه إلى دين آخر، وحسابه أولا وأخيرًا على الله –سبحانه وتعالى- لكن الردّة حين لا تقتصر على تغيير الإيمان بالقلب وتتجاوز ذلك إلى الاعتداء على حقوق الجماعة ووحدتها وخيانة تلك الجماعة وتدمير وحدتها، فللجماعة آنذاك أن تدافع عن نفسها ووحدتها، و لا بد لها من استعمال بعض المواقف القانونيّة والعقوبات تجاه ذلك الَّذِي غيّر دينه وخان الجماعة وأحدث تخريبًا في وحدتها ومقدّراتها واعتدى على حقوق الآخرين، فللجماعة أن تحمي نفسها بما تراه مناسبًا.

نحن لا نريد أن نتدخل أو نقدم مقترحات لكنيسة ولا لمسجد في هذه الأمور، لكنّنا نطالب الفريقين أن يتقيدوا بما أنزل الله تعالى؛ وقد قال جلّ شأنه: (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون) (المائدة:47)، وليحكم المسلمون بما أنزل الله تعالى: (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُم) (المائدة:48)، وإذا استطاع المسلمون والنصارى أن يرجعوا إلى حقائق القرآن المجيد وحقائق التوارة والإنجيل، لا إلى مَا أضيف من شروح وتفاسير، فسيمكنهم الالتفاف على كلمة سواء في هذا الموضوع، فمَن خرج عن النصرانيّة أو خرجت لأيّ سبب كان، فليأخذ حريته كاملة في ذلك، ولتحمِ الكنيسة له هذه الحريّة ولا تهدر دمه ولا تعتبر أنّ الدين كلّه قد صار موضع تهديد لمجرد تحوّل هذه البنت أو ذلك الشاب عن دينه. كما أنّ الإسلام ليس خطرًا على المسيحيّة ، فالقرآن الكريم مصدّقٌ لما بين يديه من الإنجيل، ومهيمن عليه، وهو يؤمن بالمسيح نبيًّا ورسولا وكلمة من الله وروحًا منه، ويؤمن بطهارة السيدة العذراء، وأنّ الله تعالى جعلها وابنها آية من الآيات، فانتقال المسيحيّ إلى الإسلام لن يؤدّي إلى أكثر من إدخال بعض التعديلات المهمة على بعض رؤيته الدينيّة، وانتقال المسلم إذا تغيّر موقفه لن يهدم الأمّة المسلمة، ولن يدمّر الإسلام كما ذكرنا، والخاسر هُوَ في الدنيا والآخرة، وليس لنا أن نجبره أو نكرهه على البقاء على مَا كان عليه.

والله تعالى أعلى وأعلم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *