د. طه جابر العلواني
إنّ القرآن المجيد كتاب الله مخرج من الفتن، مزيل للشبهات، منير، مشرق، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لا تزيغ به الأهواء، فيه خبر من قبلنا ونبأ من بعدنا وحكم ما بيننا، هُوَ الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله،ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله. ولو رددنا إليه أي أمر من أمورنا أو أيّ شأن من شئوننا لهدانا للتي هِيَ أقوم ولقاد خطانا إلى التي هِيَ أهدى وأسلم.
لا شك أنّ بعضنا يرجع إلى القرآن المجيد، ثمّ قد لا يجد فيه ضالَّته، وقد يتوهم بأنّ القرآن المجيد ليس فيه مَا يبحث عنه ولم يتطرق أو يتعرض إلى مَا هُوَ معنيٌّ به، وليس ذلك صحيحا؛ لأنّ القرآن المجيد لا يقصر عن الإجابة عن سؤال سائل عرف كيف يقرؤه ويثوّره ويحسن التحاور معه،لكن من يقرؤه وهو محمل بمختلف الأفكار وشتى الآراء ومتباين المواقف فإنّ القرآن ينكمش عنه ولا يفتح آفاقه الرحية عليه، فيتوهّم أنّه لم يجد ضالته في القرآن وهو مخطئ في ذلك، وأحداث اليوم تتابعت من “فضائح ويكليكس”، وثورة تونس وهروب ابن علي، وثورة مصر وتنحي مبارك، وما تلى ذلك أو يتلوه، زعم الكثيرون أنّ القرآن المجيد ليس فيه مَا يمكن أن يتناول هذه الأمور، وربَّما هرع البعض إلى أخبار الملاحم وآثار الفتن باحثًا عن تفسير لما يحدث، وتعريف بما يجري؛ ولذلك فقد رأيت أن أقدّم لنفسي وللقراء هذه التجربة في حواري مع القرآن، ومساءلته والبحث فيه!!
أما أنا فقد أتيت القرآن محاورًا سائلًا مطّرحا بين يديه مفتقرًا إلى نور هدايته؛ فقلت له: يا قرآن أجبنيعن هذه الأحداث المتتالية، مَا موقفك منها؟ وما الَّذِي تختاره لي وقد رددت أمري إلى الله (تعالى) منزلك والمتكلم بك وردني الله (تعالى) إليك ودعاني إلى التحاكم إلي آياتك في هذا الأمر، فهل من جواب شافٍ لديك يفسّر لي هذه الأحداث، ويبين لي الموقف المطلوب مني لئلا أسقط في الفتنة أو أرتكب ما لم يأذن به الله (تعالى)!!
وأود أن أضع بين يديك سياق ما أسائلك عنه وأحاورك فيه: مَا الَّذِي تراه يا قرآن في ثورة المظلومين على الظالمين من حكامهم إذا تسلَّطوا عليهم فضربوا أبشارهم، واستباحوا أموالهم، وقيدوا حريّاتهم، وأفسدوا حياتهم، واستبدوا بشؤنهم، يحاسبون مَن يخالفهم ويفتكون بمن يعارضهم وينتهكون حريّة من يعاديهم، لا يرقبون في مؤمن إلاّ ولا ذمَّة، وهم في الوقت نفسه لم يطبقوا شريعة الله (تعالى) ولم يستنّوا بسنّة نبيه -صلى الله عليه وآله وسلّم- ولكنهم كما يرى البعض أوجدوا في بلدانهم حالة من السكون أو التوقف مَا يسميه البعض “بالاستقرار”، وربما حققوا بعض المكاسب في مجال بعض قشور مظاهر الحياة، وبعض مَا يطلق عليه “مشروعات التنمية” وما إليها، وهم يرون أنّ استبدادهم بشئون الشعوب حق لهم يختصون به دون سواهم، فلا ينازعهم أحد في الأمر فهل تجوز الثورة عليهم والعمل على تغييرهم بقوة؟ و قد يستتبع ذلك إراقة دماء وتهديد استقرار وما إلى ذلك؟ ثم مَا واجبي الشخصي، بصفتي مسلمًا جئتك طالبًا فتواك في هذا الأمر لجلل دون فتوى غيرك؟ فإذًا هناك ك سؤالان: أتوجّه بهما إليك:
السؤال الأول: يتعلق بحكم الثورة بصفة عامة على هؤلاء وأمثالهم.
السؤال الثاني: يتعلق بالموقف الشخصي لاستجلاء موقف القرآن إذا ما أفتى القرآن بوجوب أو جواز الثورة عليهم؛ فهل هذا الوجوب كفائي إذا قام به البعض سقط عن الباقين، أم أنّه عينيّ لا بد من القيام به؟
فقال القرآن مجيبًا:
ابتداءً هناك مسلمتان لا بد من الوقوف عندهما؛ هما:
أولا: يجب أن تعلم ويعلم كل إنسان أنّ الملك لله ابتداءً وصيرورة وانتهاءً وعاقبة، وأنّ الله جلّ شأنه هُوَ مالك الملك يؤتي الملك مَن يشاء وينزع الملك ممن يشاء (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران: 26)، فإذا علمت هذا فذلك يعني أن ليس لأحد أن يبادر ربه، ويحاول أن يستحوذ على الملك فيأخذه لنفسه وينزعه من غيره أو يتصرّف في هذا المجال وكأنّه مجال حر لا تدخل لله -تعالى- فيه، لأنّ الملك ملكه أولاً وأخيرًا والبشر مستخلفون فيه!! ليس لهم الخروج عن شرائعه وما رسم لهم في ذلك كلّه، هذه هي المسلّمة الأولى.
ثانيا: هناك مسلّمة ثانية وهي أنّ الله (تعالى) مَا خلق السموات والأرض إلا بالحق، وأنّ كل مَا جاوز الحق فمآله إلى السقوط وإلى الاندثار، وأنّ العاقبة للمتقين وأنّ الأرض لله يوريثها من يشاء من عباده، وأنّ حكمته قد اقتضت أنّ الأرض يرثها عباده الصالحون في نهاية المطاف.
انطلاقًا من هاتين المسلمتين على الإنسان المسلم أن يبدأ بتأسيس «نظريّته في عمليّة الإصلاح والتغيير السياسيّ عند الانحراف». فيعلم أنّ لله –تعالى- في هذا الكون سننًا وقوانين لا تتبدل ولا تتغير، وهذه السنن والقوانين بناها الخالق العظيم بعلمه: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير) (الملك:14) وتلك السنن اقتضت مشروعين يتصارعان منذ خلق الله –تعالى- آدم ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته، ولكن إبليس استكبر وعصى ورفض السجود لآدم وقال: (أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا) (الإسراء: 61) ثم سأل الله –جل شأنه- (قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِين) (الحجر: 36-40)، ثم أدخل آدم الجنة، وبمقتضى الوعد الإلهيّ لإبليس بالإنظار أعطاه فرصة دخوله ورائهما فوسوس لهما بعد أن عرف أنّ الله (تعالى) قد أباح لهما الأكل من الجنة كلّها إلا هذه الشجرة، فظل يوسوس حتى استغل فرصة نسيان آدم عهد الله له (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا) (طه: 115)؛ (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَان) (البقرة:36)؛ أي: أزلّ آدم وزوجه مستغلاً رغبتهما في الخلد وملك لا يبلى، وبعد ذلك رحم الله –تعالى- آدم وذريته، فعلّم آدم كلمات (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة: 37)، هِيَ كلمات تاب بها إلى الله –تعالى- وأناب وتذكّر عهده مع الله –جلّ شأنه- ثم اقتضت حكمة الله –تعالى- أن ينزل الجميع إلى الأرض؛ آدم وزوجه وعدوهما إبليس (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُون) (البقرة: 38). وزيادة في لطفه (جلّ شأنّه) اقتضت مشيئته أن يعزز آدم بالوحي وبالنبوات المتتابعة ليعينه أكثر على معرفة أحابيل الشيطان وطرائقه في الوسوسة ويجنبه أن يستغل منه غفلة مرة أخرى -كما فعل مع أبويهم من قبل-، فصار إبليس وحيدًا مذؤومًا مدحورًا يحمل حسده وحقده لآدم وبنيه ولا يملك إلا ذلك، وإن كان يحاول دائما أن يخيّل لبني آدم أنّه يملك شيئًا من سلطان، وهو لا يملك شيئا من ذلك وسيعلنه على الملأ في يوم لا ينفع الندم فيه (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (إبراهيم: 22)، وقال الله –تعالى- لآدم وبنيه: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) (فاطر: 6)، وقال تعالى: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) (يس: 60-64).
ومنذ ذلك الوقت والأرض وما عليها ومَن عليها تسود فيها فكرتان ومشروعان، مشروع أسسه الرحمن (جلّ شأنّه) يقوده أنبياؤه ورسله والصالحون من عباده لترسيخ توحيد الله (تعالى) توحيد ربوبيّة وإلهية وأسماء وصفات وتزكية تامة شاملة للبشر وما يحيط بهم، وعمران للأرض وأنَّه لا خير في فعل إنساني إلا إذا دار حول هذه المقاصد والقيم العليا التي لا بد أن ينشغل الإنسان بها، فهي الحق وما بعد الحق إلا الضلال.
والمشروع الشيطانيّ يقوده إبليس والشياطين؛ شياطين الأنس وشياطين الجن، وهو مشروع يعمل على استبدال التوحيد بالشرك وتعدد الآلهة والأرباب المتفرقين وتدسية الإنسان وتدنيسه ودفعه نحو الفساد والإفساد، ودفعه إلى الاغترار بهذه الأرض وبالحياة الدنيا وإقناعه بأن مَا يفوته من الحياة الدنيا من ملذات فإنه يفوته إلى الأبد وأنّه لا حياة أخرى إنّما (إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِين) (المؤمنون: 37) ويصوّر له مشروع الشيطان أنّه غير مطالب في هذه الحياة الدنيا لتزكية أو عمران أو توحيد؛ بل هُوَ مطالب أن يعبّ من الشهوات وأن يزجي أيامه وشهواته بلهو وباطل العمل وما إلى ذلك (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَاد) (البقرة: 205-207).
يقابل هذا الفريق فريق آخر استطاع أن يتغلب على وساوس الشيطان، ولم ينخدع بشيء منها بقطع النظر عمّا إن كانت صدرت عن شياطين إنس أو شياطين جن، وهم الذين يشرون أنفسهم ابتغاء مرضاة الله (تعالى) فباعوا أنفسهم له وجندوها لمشروع الرحمن، فكانوا حزب الله وأولياء الرحمن (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) (الفرقان: 63) لا يريدون علوًّا في الأرض ولا فسادًا، يحاربون الفساد ويرفضونه ويحاربون الشيطان، ويحولون دون انتصار مشروعه بكل مَا آتاهم الله من هداية ووسائل.
وقد اقتضت حكمة الله أن يضع سننًا وقواعد، فهناك «سنّة التدافع» التي تقوم على دفع الله الناس بعضهم ببعض، فيدفع مشروع الشيطان بمشروع الرحمن، ويهزم أعوان الشيطان بجهود وجهاد أولياء الرحمن. وستبقى الحال على مَا فصّل –عزّ وجل- وأقام ملكه عليه حتى تفنى الحياة الدنيا على انتصار شامل للمتقين وعاقبة للمؤمنين وتوريث الأرض للصالحين.
وأولياء الرحمن هؤلاء من شأنهم أن يتجردوا من حظوظ نفوسهم لكي تكون نفوسهم ورغباتهم وهواهم وتطلعاتهم وأشواقهم كلها متجهة نحو الباري (سبحانه وتعالى) وانتصار مشروعه –جلّ شأنه- وهزيمة إبليس ودحره.
والحكام المستبدون والأغنياء الباخلون والقارونيُّون الذين اتخذوا من قارون مثلاً حين فسد في الأرض، وظنّ أن كل مَا أعطاه الله –تعالى- من مال ليفنيه اعتبره مكسبًا جاءه من كده وجهده وعبقريّته (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) (القصص: 78)، فيصيب هؤلاء الفراعين والقارونيّين وأمثالهم من الغرور والكبرياء والاعتداد بالنفس مَا ينسهيم الله –جلّ شأنه- ويجعلهم مع الشيطان دائما لأنَّه (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) (الزخرف: 36).
وإذا قارن الشيطان إنسانًا وصادقه واستولى على عقله ولبه وقلبه فقد هلك. وهؤلاء الذين يبتلى الله بهم عباده من الذين إذا تولوا سعوا في الأرض ليفسدوا فيها وابتغوا العلو فيها وطغوا وبغوا واستبدوا وتعالوا على عباد الله، وألَّهوا أنفسهم وشياطينهم، ونسوا الله فاستدرجهم وأنساهم أنفسهم، هؤلاء لا يعني أنّهم قد خرجوا عن محيط السنن الإلهيّة ودوائرها المحيطة بكل شيء، ولكن تكون هناك سنن مسخّرة أدت إلى غفلة الناس وتجاوزهم أسباب التقوى، فحين يفعلون ذلك قد يتسلط الأشرار على الأخيار، والمشركون والكفار على المؤمنين الموحدين، وأهل التدسية على أهل التزكية ودعاة التخريب والاستكبار في الأرض وتجاهل حقوق الله فيها على أولئك الصالحين، فتحدث الفتنة؛ أي: الاختبار والابتلاء بهولاء يفتن الناس وفق سنة أخرى هِيَ «سنة الفتنة»؛ يقول الله تعالى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّة) (الأنفال: 25)؛ بل تعم كما في حديث أم المؤمنين زينب بنت جحش -رضي الله تعالى عنها- قالت: (أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: ( نعم إذا كثر الخبث))([1]).
وفي حديث عائشة أن خسفًا ومسخًا وقذفًا([2]) سيحدث في هذه الأمّة دون تحديد أن يكون هذا في هذه أو غيرها أو في الأرض بعامة، وكأن أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها- قد فهمت أن هذه الأمور ستكون في الأمّة المسلمة ولذلك تساءلت: «أنهلك وفينا الصالحون» قال -صلى الله عليه وآله وسلّم- نعم إن كثر فيكم الخبث، وهذه الأحاديث ينبغي أن تربط بآيات الكتاب الكريم وما يتعلق بالعذاب الأدنى دون العذاب الأكبر الَّذِي هدفه التذكير بالله وتحذير الناس من الاسترسال في المخالفات وردهم إلى الله ردا جميلا.
وتأتي مع «سنة الفتنة سنة التدافع»، فالقضاء على فتنة هؤلاء يقتضي أنَّه لا بدّ لأهل الحق من أن ينهضوا بواجباتهم ويقوموا بما عليهم (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج: 40)، فإن لم يقم أهل الحق بما عليهم فقد يظهر الباطل ويسود، فإذا عجز المؤمنون بعد الصدق وبذل كل الجهود فإنّ لله -تعالى- جنودًا غيرهم، (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُو) (المدثر:31). وقد يخضع أهل الباطل فسيخضعون لسنة الاستئصال والتدمير وتسليط شتى الابتلاءات عليهم، فالمقصرون ستمضي سنة الاستبدال فيهم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (المائدة: 54)، (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) (محمد: 38).
فمن اعتبر مقاومة من يسعون في الأرض فسادًا ويريدون علوًّا في الأرض، والذين يستذلون عباد الله ويصادرون حريّتهم ويمحقون إنسانيّتهم أنّ مدافعة هؤلاء فتنةً فإنَّه يكون قد ابتعد عن الوعي بهذه الآيات وحُسن فهمها.
لكنّ سنة التدافع هذه تقوم على وجود أقوام من المتقين يتحركون لا لمصلحتهم هم بل لإرضاء الله (تعالى) لإحقاق الحق الَّذِي خلق الله –تعالى- به السموات والأرض، فهم يسيرون على خطى الأنبياء لا يريدون أن يخلفوا الظالمين ولا أن يسكنوا مساكنهم ولا أن يرثوا مَا تركوا من جنات وعيون؛ بل يريدون أن تعلو كلمة الله على كل كلمة، وأن ينصر الله ويهزم الشيطان لتكون كلمة الله هِيَ العليا وكلمة الشيطان وأعوانه هِيَ السفلى، ولا يهمهم أن يكون التمكين بعد ذلك لهم أو لغيرهم؛ لأنّ التمكين والحالة هكذا إنّما هُوَ تمكين لكلمة الله ولتوحيد الله (جلّ شأنّه) وما أمر به الإنسان من التزكية، وما استخلفه من أجله ألا وهو إعمار الأرض بالحق والعدل والهدى وإعلاء كلمة الدين، دين الحق فلا تكون عمليّة الإصلاح عمليّة تغيير أشخاص بأشخاص، ولا طائفة بطائفة، بل تغيير على مستوى القيم والمفاهيم والأفكار والغايات والأهداف والمقاصد، ويكون المحور هُوَ إظهار دين الله الحق القائم على الهدى والتوحيد والتزكية والعمران والعدل والحريّة والمساواة بين البشر وإقامة شرع الله (تعالى) ورسالته، وهيمنة القرآن المجيد على شؤون الحياة وشجونها. ثمّ بعد ذلك يكون الحكم للأكفأ والأقدر على القيام بهذه الأمور وحُسن التمكين لها، فكأن المؤمن والحالة هذه يعد نفسه ويؤهلها تأهيلاً ربّانيًّا بحيث يكون من المتقين ومن أولئك الذين (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُور) (الحج: 41).
فحين تلتبس الأصوات وتختلط النداءات وتتداخل الشعارات ويلبس الناس إيمانهم بظلم ويؤمن بعضهم إيمانا يشوبه الشرك فها هنا يختلف الأمر ويتوقف المؤمن عن الاندفاع حتى يتبيّن سلامة الطريق واستقامة الهدف وصحة الغاية واستقامة المقصد وإلا لضاع صوته بين الأصوات وامتزج لديه الحق والباطل. فالاستبداد وإن كان مورفوضا فإن إذاء الحاكم لبعض المؤمنين لا يصلح وحده أن يكون مسوغل للثورة عليه فقد قال قوم موسى: ﴿ قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا…﴾ (الأعراف:129)، فرد عليهم ﴿.. عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ (الأعراف:129).
كما أنّ الرغبة في الحلول محل الحاكم رغبة تخل بالتقوى وبأهداف المتقين، والله (تبارك وتعالى) قد أناط قضية الملك بذاته العليّة فهو (جلّ شأنه) مالك الملك ومستخلف الناس فيه وله (تبارك وتعالى) باعتباره مالك الملك أن يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء ليمضي سننه وأقداره ﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (آل عمران:26) وهو (جلّ شأنه) يختار من يمكّن له ويهيء الأسباب لذلك، فالإنسان عليه أن يؤهل نفسه لذلك التمكين لا رغبة في الوصول إليه بل رغبة في إرضاء الله (تعالى).
فإذا فعل واتصف بالتقوى والصلاح وعلم الله فيه خيرا هيأ له أسباب التمكين ليبلوه أيكفر أم يشكر، فإن كان من هؤلاء الذي قال فيهم ﴿ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ (الحج:41)، فقد أفلح وفاز بخيري الدنيا والآخرة وصار وسيلة يضرب الله به الباطل فيزهقه ويعلي به الحق وينصره، يقول سيدنا يوسف ﴿ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ …﴾ (يوسف:101) وقال أيضا ﴿… إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (يوسف:90)، إذن هناك أمران بعد كل المؤهلات التي تجعل الإنسان متصفًا بالتقوى هما: تمام التقوى، والصبر على ممارستها واستيفاء شروطها ، قال (جلّ شأنه): ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ (السجدة:24).
و سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وهو قدوتنا وقدوة العالم كله، انسلخ العهد المكيّ كلّه في ثلاثة عشرة سنة وكان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنمًا تُعبد ويدخل رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- وأصحابه ويصلّون عند الكعبة والأصنام تحيط بها من كل جانب والأذى يصب عليهم صبا من ضرب وتعذيب وما إليه، وكذلك حوصروا محاصرة في شعِب أبي طالب قاربت ثلاث سنوات وهاجروا مضطرين إلى الحبشة، ومات من مات تحت التعذيب ومنهم آل ياسر، ومع ذلك فإن الله قال لنبيه –صلى الله عليه وآله وسلم-﴿ ..كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ ..﴾ (النساء:77) وقاد القرآن الكريم بعد ذلك خطوات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلّها، فالهجرة كانت بإذن إلهيّ، والقتال جاء بعد الأمر الإلهي ولذلك قال الله (عز وجلّ): ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ (الحج:39) وبعد ذلك جاء الأمر بالقتال، ولا يذهبن وهم أحد إلى أنّ الله (سبحانه) لم يأذن لنبيه -صلى الله عليه وآله وسلم- بالقتال لضعف المؤمنين وقلتهم، فقد كان النظام القبلي يسمح بأن يرد المسلمون في مكة أذى المشركين عنهم واعتداءتهم، ولكن أمر الله أن يكون أمر المؤمن كلّه له (جلّ شأنه) فلا يأخذ ولا يدع، ولا يعطي ولا يمنع، ولا يشارك ولا يمتنع، إلا بسلطان من الله وبرهان.
أعلم أنّ هذا الذي أقوله على جلائه وما يظلله من نور القرآن وهديه قد يجعل البعض يتساءلون بتساؤلات لا ترد ولا تثار ممكن يحسن القراءة والتدبّر ويستجلي الأمور ويحسن إدراكها ولكنها تثار من قِبل الذين يستعجلون والذين لا يريدون أن يتعبوا عقولهم في تدّبر وتفكّر وتعقّل، وقد يقول بعضهم: مَا موقف الرجل الحقيقيّ أهو مؤيد لهذا الَّذي يحدث أو متردد أو شاجب؟ لأنّ الاختزال والتسرع سمة هذا العصر، لكن حقيقة واحدة لعلّها لا تغيب عن أيّ قاريء وهي أنّ المؤمن عليه في كل موقف من المواقف أن يرد لله في كتابه ولرسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- في سنته التي لا تفارق الكتاب ولا تنفصل عن مداره بل تدور معه حيث دار.
إنّ هناك كثيرًا من الإرهاصات قد سبقت الأحداث فيما مضى من سنين وكثيرًا من المقدمات قد أثيرت فيما مضى، وهناك دراسات وتصريحات ووقائع تكاد تكون بمثابة الأحرف المتقاطعة التي تحتاج إلى جمع وتحليل وتفكير لتصبح كلمات وأمورًا مفهومة تساعد على فهم الواقع وتساعد المتدبّر على تنزيل أحكام القرآن عليه والميز بين المختلطات فيه وما أكثرها.
نقطة أخرى كانت واضحة جدًّا وهي تحديد «الفتنة» بأنَّها تحدث لدى الانحراف عن كتاب الله (تعالى) وتجنب الالتزام التام به، واستبداد الإنسان بشأنه. فقد يكون الإنسان على جانب من الإيمان كبير، ولكنه قد يلبس إيمانه بظلم أو يؤمن بالله ويشرك في الوقت نفسه، وتلك أمور كان الجهابذة من أهل الإيمان يبذلون جهودًا مضنية لميز هذه الأمور وعدم السقوط فيها، لذلك فإنَّ القرآن الكريم وحده المخرج من الفتن الهادي للتي هِيَ أقوم وهو حبل الله المتين الَّذِي ندعو أمّتنا إلى التشبث به والتمسك بأهدابه، وعدم الانسياق وراء اتخاذه كشواهد ومعضدات لآراء ومواقف نبنيها بتصوراتنا القاصرة ورؤانا الكليلة.
ولعلّ لي ونحن في هذا الأمر أن أحذر تحذير شديدًا من هؤلاء الذين لا يجدون مناسبات كهذه إلا ويلقون في روع الأمّة من المخاوف وعوامل القلق وما لا قِبل لها باحتماله من إرباك وقلق، فذلك يصرخ بهيستريا شديدة بأنّ اليهود قادمون، وثان يصرخ بأنّ مخططات الكفر وراء كل شيء وأنّ كل مَا يحدث في بلداننا وتقوم به شعوبنا إنّما هُوَ من وحي تلك المخططات ونتائج تلك المؤمرات، هؤلاء لا يقلّون خطرًا عن أعدى أعداء الأمّة في هذه الظروف وأصواتهم بقطع النظر عن نواياهم هِيَ مدمرة قد تقضي على مَا بقيى من طاقات الأمّة وتعمل على تكريس هزائمها النفسيّة وإشعارها بأنَّ الأمريكان واليهود وأعداء الإسلام هم الذين يسيّرون الكون وليس الله -تبارك وتعالى- وهم الَّذِين يملكون التحكم فيه وليس الله، والله لا يتدخل في شيء، وهذا دليل على ضعف في الوعي وهزال في الإيمان وعدم إدراك لسنن القرآن الاجتماعيّة والكونيّة ولسنن الله في كونه وهم يرون أنّ القدرة كل القدرة هِيَ في الكافر المستعمر، وأمّا الله (تبارك وتعالى) ففي أنظار هؤلاء قد سلّم الكون لأمريكا ولإسرائيل وتنازل عنه لهم وعن حاكميّته وسلطانه لمكرهم. فليتق الله هؤلاء وليربعوا على أنفسهم ويتوقفوا عن هذا الهراء الذي يملؤون الأسماع به ليل ونهار.
لقد رحبت بالثورات الشعبيّة ورحبت بما حدث؛ لأنّ الإسلام أمرني أن أرفض الاستبداد بكل أشكاله ولأنّ القرآن علمني أنّ في الاستبداد محقًا لإنسانيّة الإنسان، لكن حين يراد مني تحديد الموقف بدقة من هذه الأمور بخصوصيتها فإنَّه لا مناص من استفتاء القرآن الكريم والخضوع لحكمه ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ﴾ (آل عمران:23) فإذا تبينت المعالم وترجّح لدى قادة الأمّة وقادة الرأي فيها وأهل العلم والحكمة من أبنائها أنّه لا بدّ من الثورة ضد هذا المستبد أو ذاك فآنذاك تتخذ الثورة صفة الجهاد وتجري أحكام القرآن في الجهاد، أو التخلي عنه على الأفراد وفقًا لما وصلت الأمّة إليه من موقف تجاه ذلك المستبد، ترى هل وفقت في بيان موقف القرآن الكريم من هذه القضايا، والله تعالى أعلم.
أما ما يتعلق بالموقف الشخصي لكل إنسان مسلم من هذه الأحداث فإنه يتوقف على تحديد الموقف من الحدث بجملته، وقد تبين ذلك بجلال وتبين أن هذا الموقف يحتاج إلى دراسات مستفيضة متعمقة في القرآن المجيد والسيرة والسنة الثابتة الصحيحة والواقع، فإذا تبينت المعالم وترجح لدى قادة الأمة وقادة الرأي فيها وأهل العلم والحكمة من أبنائها أنه لا بّد من الثورة ضد هذا المستبد أو ذاك، فآنذاك تتخذ الثورة صفة الجهاد وتجري أحكام القرآن في الجهاد أو التخلي عنه على الأفراد وفقا لما وصلت الأمة إليه من موقف تجاه ذلك المستبد. والله أعلم.
فإذا اختلطت الأمور لا تخلو إما أن تكون نسبة الاختلاف فيها عالية جدًا، فتكون آنذاك من الفتن التي لا بد من إخمادها وفقه مسئولية المشاركة ولو بالكلمة فيها، أو تكون ميدانا يمكن أن يتم فيه تصحيح وتوجيه فيكون القادرون على ذلك التصحيح والتوجيه مطالبين بالقيام به وتعديل الوجهة والاتجاه وإبعادها عن مجال الفتنة وقيادتها باتجاه الإصلاح، ولعلّ الأقرب إلى براءة الذمة والقيام بالواجب أن نقول بضرورة دراسة كل حالة بحسبها. والله ولي التوفيق
أرجو الله تعالى وأتمنى من الجميع أن يتدبّروا القرآن وأن يتأملوا في الوقائع والأحداث وما له علاقة بها من بداية وصيرورة ومآلات.
سائلًا العلي القدير لنا ولسائر الأمة أمر رشد يعز به أهل طاعته ويذل به أهل معصيته ويعلي فيه كلمته أنّه سميع مجيب.
([1])– حَدَّثَنَا يحيى بن بكير حَدَّثَنَا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير أن زينب بنت أبي سلمة حدثته عن أم حبيبة بنت أبي سفيان عن زينب بنت جحش رضي الله عنهن؛ أن النبي صلى الله عليه و سلم دخل عليها فزعا يقول (لا إله إلا الله ويل للعرب من شر اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه ). وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها قالت زينب بنت جحش فقلت يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال ( نعم إذا كثر الخبث ). صحيح البخاري وكذلك رقم [3403، 6650، 6716].
([2]) حَدَّثَنَا أَبُو كريب حَدَّثَنَا صفي بن ربعي عن عبد الله بن عمر عن عبيد الله بن عمر عن القاسم بن مُحَمَّد عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يكون في آخر هذه الأمّة خسف ومسخ وقذف قالت قلت يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال نعم إذا ظهر الخبث.
قال أَبُو عيسى هذا حديث غريب من حديث عائشة لا نعرفه إلا من هذا الوجه و عبد الله بن عمر تكلم فيه يحيى بن سعيد من قبل حفظه. سنن الترمذي. قال الشيخ الألباني: صحيح