أ.د.طه جابر العلواني
إنَّ كل الذين ولدوا في البيئات المسلمة -نساءً ورجالًا- نشؤوا مسلمين في إطار التبعيَّة للوالدين والمحيط البيئيّ والجغرافيّ الذين عاشوا فيهما. والإيمان الموروث إيمان خامل هادئ، لم يُبن على تساؤلات تحتاج من الإنسان أن يتعب الإنسان في البحث عن جواب لها حتى يصل إليها، ولم يُبن على نظر في أدلة أو حجج أو براهين؛ ولذلك فقد أخذ شكل مسلَّمات موروثة عن الآباء والأمهات، فلم يجد النشء أيَّ تحديات تفرض عليه إعادة النظر فيها أو مناقشتها، وإذا حدث وحاول أحد مناقشة ذلك مع والديه أو أحدهما، فإنَّهما يستغربان ذلك منه، ويستخدمان السلطة الآبائية لإسكاته؛ لا لإقناعه بها؛ بل لعجزهما عن تقديم جواب يرضيه ويطمئنه ويقطع تساؤلاته. وربما ينزعج الآباء والأمهات من تلك التساؤلات، ويتهمان ولدهما أو ابنتهما بإقامة نوع من العلاقة مع الشيطان الذي يوسوس للناشئة بتلك الوساوس؛ لأنَّ الآباء أخذوا ذلك عن تسليم واستسلام -لا عن معرفة- من آبائهم، وهكذا الحال.
ظهور الأزمة وأسبابها
في عصرنا هذا، تصنع الأفكار كما تصنع الملابس الجاهزة، وتتغير الأيدلوجيَّات والعقائد بسرعة شديدة كما تتغير الأجواء، فبرزت الأزمة بشكلها الكالح، وصارت التساؤلات من الكثرة بحيث إذا أجيب عن سؤال فلن يجاب عنها كلّها في إطار الوعي الإيمانيّ أو العقديّ الموروث. وقد برزت تحديات أخرى هي تحديات قواعد التفكير الإنسانيَّة المشتركة التي اكتسحت مسلماتها كثيرًا من الأعراف والأفكار الموروثة، خاصَّة تلك التي تتصف بالسكونيَّة والثبات، والتي لم تتح لأصحابها فرصة مناقشتها مع آخرين، واختبار صدقها ومتانتها، وما يثبت كونها أفكارًا صادقة؛ ولذلك وجد المسلمون أنفسهم في هذه الأزمة الخانقة التي تجعل الملايين من أبنائهم وبناتهم وشبابهم وأجيالهم الطالعة يعانون من مجموعة أزمات؛ منها أزمة فصام الأجيال، والفجوات الطبيعيَّة التي تحدث بين جيل وجيل، ومنها كذلك فجوات أخرى أشد قسوة؛ ألا وهي فجوات الاختلاف في طرائق التفكير ومناهجه، وكيفيَّات قبول المسلّمات والاقتناع بها. فـالعلم التجريبيّ الحديث ضَيَّق مجالات غير المحسوس، وسدَّ كثيرًا من الطرق التي تسمح بوصول عالم ما هو خارج الحسيَّات إلى عقول الناس، فضلًا عن قبولها والجزم بها أو الإيمان بها كما هي، وكذلك مناهج الحياة الأخرى التي فصَلت ما بين الغيب والشهادة وركّزت على جانب الشهادة، وشغلت الإنسان عقلًا وذهنًا ووجدانًا به، حتى لم يعد هناك مجال لاهتمام الأجيال الجديدة بعالم الغيب إلاّ على مستوى الاهتمام بالمجهول الذي قد يندفع الإنسان للتفكير فيه بما أنَّه طُلعة يتطلع إلى المعرفة ويضيق ذرعًا بالمجهول. والعقل التجريبيّ -الذي أضفى على نفسه صفة العلميَّة- يحاول أن يجد دائمًا ما يشغله عن التفكير في عالم الغيب. ولكن إذا ألحّ بتساؤلاته عليه فإنَّه يستطيع أن يقول: أي شيء لا يدخل المختبر ولا يمكن إخضاعه إلى قياسات ماديَّة محسوبة، فهو أمر لا ينبغي أن أشغل عقلي به؛ لأنَّ انشغالي به قد يقودني باتجاه الخرافة وباتجاه كذا وكذا.
ومن أخطر ما جاء به العقل العلميّ التجريبيّ أنَّه -إضافة إلى ما تقدم- حاول أن يصحح مسيرته بنفسه، فهو في مرحلة من مراحله المبكرة كان يصر على الحتميَّة، التي أفرزها العلم، وجعل تلك الحتميَّات بمثابة مسلَّمات دينيَّة أو بديلًا عنها. ولما اكتشف أنَّ بعض ما هو مندرج تحت تلك الحتميَّات خاضع للاحتمال، ولم يعد العلم قادرًا على اعتباره أمرًا حتميًّا تنازل عن الحتميَّة إلى الاحتماليَّة. فبعد أن أعلن نيتشة موت الإله والاقتصار على العلم وتكريسه إلهًا بديلًا -في إطار الحتميَّات العلميَّة- جاءت بعض الخروق لتثبت عدم صحة الحتميَّات، وأنَّ كل شيء فيه احتمال.
وسقوط الحتميَّات المخترعة إنسانيًّا وظهور الاحتماليَّة والنسبيَّة فتح الطريق أمام الإنسان ليعتمد على الدليل أيًّا كان، وبحسب القضيَّة المستدل عليها في إثبات ما يريد أو نفيه، وأغلق الباب أمام كثير من منافذ التقليد والانبهار؛ لتصبح مسؤوليَّة الإنسان في النظر والتفكُّر واتخاذ القرار السليم مسؤوليَّة تامَّة. وهذا بدوره فتح -أمام أهل الإيمان- أبوابًا كثيرة للدعوة إليه كانت الحتميَّات قد أغلقتها، فاليوم لم يعد المتشبثون بأذيال العلم يرفضون الإيمان بالحتميَّات العلمَّية المبتكرة بعد ظهور الاحتماليَّة والنسبيَّة، بل أصبح كل شيء جائزًا. ولكن لا بد من إقامة الدليل عليه قبولًا أو رفضًا.
ينبغي أن تستغل هذه الحالة العالميَّة لإعداد خطاب قرآنيّ يخاطب الناس بقضايا الإيمان، ويبدأ بدعوتهم إلى النظر -وخاصَّة النظر العقليّ- ثم المعرفة ثم بسط الأدلة على قضايا الإيمان، والوصول إليها، وتقريرها وفقًا لما دلّ الدليل عليه، فهي الفرصة السانحة لإعادة بناء الإيمان على البرهان، وإشراك قوى الوعي الإنسانيّ والطاقات البشريَّة كلّها بذلك، فيتخلص الناس من الإيمان تقليدًا وهو أمر قد رفضه سائر أهل العلم من متقدمين، أو ما عرف بإيمان العجائز الذي لا يمر بمراحل الشك المعرفيّ ليصل إلى اليقين القائم على البرهان، بل يقلِّد في الإيمان كما يقلد في غيره.
دور الخطاب الديني
إنَّ الناظر في مناهج قادة التغيير الفكريّ والعقديّ والتطورات التي أدخلوها على معارك الكلمة والمعتقد يستطيع أن يدرك أنَّ الخطاب الإيمانيّ عندنا خطاب لم يتعرض إلى التجديد والإصلاح ومواكبة المستجدات بحيث يستطيع أبناؤنا أن يواجهوا التحديات الإيمانيَّة المعاصرة والراهنة بكفاءة وجدارة. فتكثر الشبهات لديهم، وتكاد تنعدم قابليَّة التفسير لكثير من الظواهر والأحداث نتيجة العجز الذي لبّس القائمين عن صياغة خطاب الإيمان، فيتحول إلى حيرة واضطراب، مما جعل أبناءنا يشعرون بفراغ يسمح بقبول كل ما يحمل لهم تفسيرًا من أطروحات، يريح نفوسهم ويقنع عقولهم المضطربة الحائرة. كذلك بدؤوا يتقبّلون بعض أطروحات أصحاب الأديان الوضعيَّة والأديان الأخرى إذا عرفوا كيفيَّة تقديم تفسيرات للظواهر المحيّرة لعقول أبنائنا، وصرنا نحصي أعداد المسلمين المؤمنين فنرى كثرة في المؤمنين جغرافيًّا ووفقًا للأسماء، مما قد يخدعنا في بعض الأحيان ويصرفنا عن البحث الدقيق عما إذا كان هؤلاء قد فهموا الإيمان حقًّا، وآمنوا عن قناعة ويقين، ولديهم القدرة على الدفاع عن إيمانهم والمجادلة عنه، أو أنَّهم سيستسلمون عند أول شبهة تُثار وينصرفون عن الإيمان الموروث؛ لذلك فإنَّ هذه الشبهات التي نسمعها من كثير من الشباب، وظواهر الانحراف التي يعانون منها تستحثنا جميعًا إلى أن نعيد صياغة خطاب الإيمان، ونجدد معتقداتهم في قلوبهم، ونطهر العقيدة من كل ما علق بها، ونحصر أركان الإيمان بتلك التي حددها القرآن، ولا نسمح بأن تشوبها الشوائب وتضاف إليها الإضافات، فذلك أمر له خطورته على مستقبل شبابنا وأمتنا.
ليت كليَّات أصول الدين والدعوة ومقررات العقيدة في مدارسنا وعلماءنا يلتفتون إلى هذه الناحية، ويعملون ما ينبغي للمحافظة على عقائد الأبناء بصياغة خطاب إيمانيّ قرآنيّ، سائلين العليّ القدير أن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه.