Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

ذنوب الأمم والشعوب

د.طه العلواني

لقد أثارت ثورة  تونس موجات من التحركات، فكانت مثل حجر ألقي في مياه راكدة صارت أمواجها تنداح في دوائر عديدة سواء بالنسبة للحاكمين و للشعوب.  ونحن نعرف أنّ الذين يتربصون بنا الدوائر سواء في الدولة المزروعة _إسرائيل_ أو بين مؤيِّديها ومسانديها، يريدون إحداث ما أطلقوا عليه «الفوضى الخلَّاقة» لأنَّهم ينتظرون من إثارة ذلك النوع من الفوضى أن يعرفوا سائر ما تنطوي عليه شعوبنا من طاقات وإمكانات ظاهرة وباطنة، وما تشتمل عليه مجتمعاتنا. وذلك ليكونوا قادرين باستمرار على إحكام قبضتهم حول رقابنا. فما كاد العرب يستردون أنفاسهم اللاهثة المبهورة من موضوع «تقسيم السودان» باستفتاء أعرج اقتصر على الجنوبيّين دون الشماليّين حتى تطورت أحداث تونس، ثم داهمتنا الوثائق الفلسطينيَّة لمحادثات رجال السُلطة مع إسرائيل، وقبلها احتلال العراق والعمل على تفكيكه إلى أقاليم عدة بعد أن استمرت الفوضى فيه -الخلَّاقة وغير الخلَّاقة- كل هذه السنين، وقد نُحَمّل الدكتاتوريّين المسؤليَّة كلّها أو بعضها ولكنَّ الشعوب عليها مسؤوليَّات لا تخفى، ولا بد لها أن تعي تلك المسؤليات ﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ (النساء:79).

ونحن فيما نقدمه في هذا المجال نرجو أن نكون كمن يُوقِدُ شمعة في ظلام الفتنة، سواء نجمت عن «الفوضى الخلّاقة» أو عن أيّ شئ آخر أو عن أسباب كثيرة اجتمعت لكي تضع العرب –خاصة- والمسلمين –عامة- في هذه الفتنة التي تذر الحليم حيرانًا. فقد يكون من حقنا أن نُحَمّل الدكتاتوريّين مسؤوليَّات كثيرة، وأن ننسب إليهم كثيرًا من الفتن الدائرة في بلداننا؛ ولكن لا بد أن تعرف الشعوب –أيضًا- ما جنته أيديها وما شاركت هي فيه لتَتُوب عنه. وفي أمثال الشعوب رصيد كبير من الخبرات عبَّرت به عن هذه الحالة، وفي المثل قالوا: «يا فرعون مين فرعنك؟ قال: لم أجد من يردني». إنّ عدم رد الشعوب ظلم الظالمين وانحرافات المنحرفين والوقوف مع المعْتَدَى عليه فى وجه المعْتَدِين ذنبٌ قال القرآن فيه: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (الأنفال:25).

إنّ كون الشعوب والأمم ترتكب ذنوبًا يمكن أن تنسب إليها بوصفها أممًا وشعوبًا أمر مسلّم -عندنا- جاء القرآن الكريم به في آيات كثيرة، وهو واقع ومشاهد لا يمكن إنكاره أو المكابرة به. وقد قص –سبحانه وتعالى- علينا في كتابه قصص أمم كثيرة، وشعوب لا تحصى عتت عن أمر ربها وعصت رسله فعاقبها الله عقابًا عسيرًا: ﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (العنكبوت:40) وقال -جلّ شأنه: ﴿فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ * وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ (الحاقة:5: 8)، وقال -جلّ شأنه- فيما يمكن أن يكون قانونًا عامًا: ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (السجدة:21). كما أنّ قصة القرية التي كانت حاضرة البحر من قرى بني إسرائيل تقدم لنا نموذجًا هامًّا في هذا المجال: ﴿واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ * وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مُّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ * وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (الأعراف:163: 170).

كما أنَّ الذنوب أو الأمور المنكرة -سواء أكانت باتجاه حقوق الله أو حقوق العباد- قد لا يكون مرتكبوها هم الأكثرون، وقد تبدو في بادئ الأمر قليلة ضئيلة؛ لكنّ السكوت عنها وعدم الإنكار على فاعليها يجعل الساكتين من الأمّة بمثابة المقرّين لتلك الاعتداءات والجرائم سواء أكانت في الداخل أم في الخارج. إنّ اجتراء فرد من أفراد أمّة مّا على ارتكاب اعتداءات وذنوب تجاه شعوبهم أو تجاه شعوب أخرى؛ ثمّ سكوت الآخرين على تلك الجرائم وتخلِّيهم عن نصرة المظلوم والإنكار على الظالمين المعتدين مرتكبي تلك الجرائم. وإذا أنكر شجاع منكرًا سارعوا إلى إسكاته ومعاقبته فتبدأ عمليَّة تغيير في مفاهيم الناس ورؤيتهم حتى يصبح المعروف في تلك الأمم منكرًا والمنكر معروفًا. وقد يقع الاعتداء على بلدان أخرى أو شعوب أخرى، ولا يجد المعتدون من يوقفهم ويمنعهم من العدوان. وقد يطغى حكّام مستبدون على شعوبهم فيستضعفونها ويسيرون فيها سيرة فرعون في بني إسرائيل.

ولما كانت الانحرافات والذنوب تبدأ بأفراد فإذا لم يأخذ أبناء المجتمع أو الشعب أو الأمّة على أيدي أولئك الأفراد ويمنعوهم من الاستمرار فيها ويأخذوا على أيديهم فإنّهم يستمرؤونها وتبدأ بالانتشار، ويقلدهم الضعفاء فتنقلب الموازين ويصبح المعروف منكرًا والمنكر معروفًا. وهنا لا بد من أن تقوم في المجتمع أو الأمّة ﴿أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ﴾ (هود:116)، ويتصدون للمفسدين ويمنعونهم من الاستمرار في الفساد والإفساد، وإلا استحق الشعب –كلّه- أو الأمّة كلها العقاب: فالفاسقون يستحقون العقاب لفسقهم ولذنوبهم وما عملت أيديهم، والساكتون عنهم سواء أكانوا راضين بما فعلوا مقرين لهم بما صنعوا، أو كانوا منكرين، لكن إنكارهم لم يبلغ مستوى الوقوف في وجوه الظالمين والطغاة والعصاة والمنحرفين، بحيث يردونهم عن الظلم ويمنعونهم من البغي ويحولون بينهم وبين تغيير مفاهيم الأمّة وقلب الموازين وتدمير القيم، فإنّهم مؤاخذون بذلك السكوت أو بذلك الضعف الذي سمح لأهل المنكر أن يستمروا في ذلك إلى أن قلبوا كل شيء وغيّروه. وفي الحديث: لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهاهم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم في مجالسهم، وواكلوهم، وشاربوهم، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى بن مريم ﴿ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون﴾ (المائدة : 78) وكان رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلّم- متكئًا فجلس فقال : لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أَطرًا [ وفي رواية ] ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك، أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم قال : ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى بْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ (المائدة:78–81) ثم قال: «كلا والله لتأمُرنَّ بالمعروف ولتنهُونّ عن المنكر ولتأخذُنّ على يد الظالم ولِتَأطِرُنّه على الحق أطرا، ولتقصُرنَّه على الحق قصرا زاد في رواية أو ليضربَنَّ الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليلعنَّنكم كما لعنهم([1])».

 وكما قص علينا القرآن الكريم نبأ تلك القرية، قص علينا نبأ فرد انحرف ويمكن لانحرافه أن يشكل ظاهرة إذا لم يجد من يوقفه ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ (الأعراف:175: 177) فهذا فرد أنعم الله عليه وآتاه آياته فلم يدرك قيمة ما أنعم الله به عليه فانسلخ من تلك الآيات، فتعقبه الشيطان وتبعه وصار معه كظلّه لا يفارقه حتى صار من الغاوين ولم يعد لديه قدرة للرجوع عما سقط فيه. وبيّن لنا في قصته –جل شأنه- أنّ سبب الانحراف هو ذلك الإخلاد إلى الأرض الذي أنسى هذا الإنسان الدار الآخرة ولقاء الله فيها. وفي سورة الأنفال يقول الله –جل شأنه: ﴿وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (الأنفال:25).

السكوت عن المنكر منكر

إنّ الفتنة أيًا كان نوعها حينما تشيع وتنتشر في مجتمع ولا توأد في مهدها قبل أن تتحول إلى ظاهرة تؤثّر في ضعاف الإيمان وضعاف النفوس وتستفحل وتطرد المعروف والخير والقيم من ساحة ذلك المجتمع لتحل محلها، فلا يقتصر ضررها على مرتكبيها الذين ظلموا أنفسهم وظلموا أمَّتهم، والشعب الذي ينتمون إليه، بل يعم شرها وضررها الظالمين وأولئك الذين سمحوا للظالمين أن يظلموا وأن يستمروا في الظلم حتى كأنّ الظلم يصير أصلًا ويصير العدل هو الغريب أو المستغرب. فذنوب الشعوب أو الأمم ليست ذنوبًا تتشاور الأمّة كلها وتتواطأ على ارتكابها لكنّها تظهر على أيدي فرد أو أفراد أو مجموعة أو نخبة ويضعف الباقون أو يترددون في مقاومتها، والإنكار على أصحابها والحيلولة دون انتشارها فتستفحل وتعلو حتى تصبح ممارسة عاديّة لتلك الشعوب أو الأمم.

حين يحدث ذلك وينعدم المنكرون للمنكر رغم أنّهم لم يشاركوا فيه، ولم يرتكبوا ما ارتكبه الآخرون، فيعمهم –آنذاك- الوصف بأنّهم مذنبون وإن اختلفت المستويات ومستحقون للعقاب ولا ينجو من العقاب في هذا الحالة إلا أولئك الذين كانوا ينهون عن السوء، فإذا توقفت الأمّة –كلّها- فلم يوجد فيها من ينهى عن السوء، بل انزوى هؤلاء وانكمشوا وتشبَّـثوا بعزلتهم وخافوا أن يقولوا للظالم: أنت ظالم وللمنحرف أنت منحرف ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (الروم:41) –آنذاك- نجد أنّ الله –سبحانه وتعالى- الذي خلق السموات والأرض والقوانين الحاكمة لهذا الكون، وهو الذي يمسك السموات والأرض أن تزولا، ويمسك السماء أن تقع على الأرض ويحفظ –جل شأنه- المسافات بين المخلوقات ويحفظ المقادير والنسب فإنّه قد يخلي –جل شأنه- بين تلك السنن والقوانين التي قامت على الحق وتعرفه وبين أولئك الذين مردوا على الظلم والكفر والجور والتمرد على الإله الخالق –جل شأنه- يخلي بين تلك القوانين وبينهم، فيحدث لهم اضطراب في حياتهم بما كسبت أيديهم. ذلك الاضطراب قائم على تصادم بين الباطل الذي سلكته تلك الأمم والشعوب وبين الحق الذي خلق الله به السموات والأرض وسخر الشمس والقمر، فتضطرب حياتهم وتختل شئونهم وتضطرب النسب والمسافات بين خلق وخلق، فتحدث كثير من الاضطرابات التي نستطيع عند التحقيق أن نقول: إنّها من كسب أولئك المنحرفين. نعم هم لم يقصدوا إفساد حياتهم، لكنّهم توهموا أنّهم بانغماسهم في تلك الذنوب والمعاصي يمتعون أنفسهم ويحققون لها رغباتها وينغمسون في شهواتهم ويرضون أنفسهم، وهم لا يرون في ذلك ما يصادم نظم الكون.

المعصية إخلال بأمانة الاستخلاف

 إنّ المعصية إخلال بالاتفاق المبرم بينه الإنسان وبين خالقه –جل شأنه- على أن يطيع الله –جل شأنه- ويتقبل ما يجري فيسخر الله له الكون ويعينه على كشف قوانينه والسنن الحاكمة له فيتعايشان باعتبارهما معًا قافلة من قوافل التسبيح لله –جل شأنه- فتسبيح يقوم به الإنسان المستخلف، وتسبيح يقوم به الكون بقيامه على تلك السنن والقوانين التي أودعها الله فيه، وحصول التصادم –آنذاك- يكون بين «قواعد الاستخلاف وسنن التسخير» لعدم بناء العلاقة السليمة بينهما، فذلك يؤدي إلى ذلك الخلل الواضح.

 فحين تظهر الفاحشة ويفشو المنكر ويسود الاستبداد وتنهار الشورى وتستحل الفروج  ويصبح الربا مغنمًا والمغنم دولًا، والزكاة مغرمًا والأمانة مغنمًا، ويشرد الآلاف أو الملايين فلا يجدون وليًا ولا نصيرًا ويستبد بالسلطان من يستبد من الأراذل، ويستبد السفهاء بالأموال، ويستبد المنافقون والمنحرفون والعصاة والمفسدون والذين يريدون علوًا في الأرض وفسادًا بمصائر الشعوب آنذاك: تختل الموازين وتضطرب المقاييس ولا يمكن لمن يملك شيئًا من الاحترام لنفسه أن يستمرئ تلك الحالة، هنا يبدأ الخلل والاضطراب في تصادم «قوانين الاستخلاف مع قوانين التسخير»؛ ولذلك فإنّ بعض الصالحين كان يقول: «إنّي لأعرف معصيتي بدابّتي، فإذا لم أرتكب معصية ولو كانت من قبيل التفريط بوردي في ذلك اليوم فإنّ دابَّتي تكون سلسة القياد لا تتعبني، وحين تَحرِنُ دابَّتي أعرف أنّني قد فرطت بواجب أو قارفت ذنبًا»، فالطبيعة إنّما سخرت لنا لأنّنا أبرمنا مع الله عهدًا أن نحمل الأمانة وأن نفي بالعهد ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (الأعراف:172: 173) وقال –جل شأنه: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (الأحزاب:72) «والأمانة» هنا هي أمانة الاستخلاف مع حريّة الاختيار، فإذا كانت السموات والأرض والجبال قد أبين أن يحملن أمانة الاستخلاف وحريّة الاختيار وآثرن التسخير على ذلك فليس من الممكن أن تكون قوانين الكون المبثوثة في السموات والأرض والجبال والبحار والوديان وما إليها طائعة لإنسان قد خان العهد وخان الأمانة فتصادمت في حياته «قوانين الاستخلاف مع قوانين التسخير»، فلا تصبح عنده قدرة على أن يقيم الحياة الطيبة؛ لأنّ الحياة الطيبة بكل ما فيها من معاني الطيبة مرتبطة بشبكة من السنن والقوانين المبثوثة في الأنفس والآفاق التي مؤداها أن يكون الإنسان طائعًا لله -تبارك وتعالى- متبعًا لأوامره مجتنبًا لنواهيه، فهبوطه إلى الأرض كان بعد أن تلقى كلمات تاب بها إلى الله -جل شأنه- وصحح علاقته بالله بعد أن أزله الشيطان وزوجه؛ ولذلك فإنَّ سلوكه وسيرته المستقيمة في هذا الوجود ينبغي أن تكون مرتبطة بذلك العهد مع الله وبالحِكَم التي اقتضت وجوده ونزوله على الأرض وهبوطه إليها ليؤدي مهام الاستخلاف بإعمارها وإقامة الحق والعدل فيها. وهنا تتحق لهذا الإنسان الحياة الطيّبة التي ذكرها تعالى في قوله: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (النحل:97) فالحياة الطيبة في الحياة الدنيا ترتبط بالعمل الصالح إضافة إلى ما على الإنسان أن يقوم به من جهد في استثمار ما أودع الله في هذا الكون واستعماره وإعماره، ومن أعرض عن ذكر الله فإنّه لا يتوقع منه أن يحسن الخلافة أو القيام بمهام الاستخلاف بالشكل الذي يرضي الله ورسوله ويدل له قوله –جل شأنه: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (طه:124: 127) فهنا يجمع الله بين الإسراف وبين الكفر، ومعروف أنّ الإسراف إنّما يكون في ما نسميه اليوم بتبديد الموارد والتبذير فيها وتدمير الطبيعة والقضاء على عناصرها والدخول في صراع معها بدلًا من الانتماء إليها، وقيادتها في قافلة التسبيح ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (الإسراء:44).

([1])  الراوي من الصحابة: عبدالله بن مسعود، والمحدث: ابن مفلح – والمصدر: الآداب الشرعية – الصفحة أو الرقم: (1/194) خلاصة حكم المحدث: إنَّ سلسلة إسناده ثقات، وأبو عبيدة لم يسمع من أبيه عندهم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *