Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

تحية وفاء للمستشار البشري

د. طه جابر العلواني

إنّ تكريم الأمم لرجالاتها من رجال الفكر والقلم دليل على وعيها بأهميّة الفكر ومكانة القلم، وإنّ هذه الأمّة فيها من مقومات الحياة والحس الحضاري ما يجعلها قادرة على تحديد أولوياتها ومستويات الاهتمام لديها، ومقومات الوعي عندها، وكلما  أحسنت الاختيار ووضعت له المعايير الدقيقة فإنّها تعزز مكانتها فيما ذكرنا.

والرجال الذين  يشغل أذهانهم الهم العام أنواع: منهم رجال الطوائف، وهذه النوعيّة من الرجال ينحصر همها في طائفتها، واهتماماتها ومحيطها، ويقاس نجاحها وفشلها بمقدار ما تقدم للطائفة من خدمات في مجالات اهتمامها.

وهناك رجال أحزاب تنحصر اهتماماتهم بهموم وبرامج الأحزاب التي ينتمون إليها، وهناك رجال قبائل وبيوتات ومهن وحرف ومؤسسات، ويعد أندر من الكبريت الأحمر أن تجد رجل أمّة يجعل من الأمّة كلها كيانها الاجتماعي ومحيطها الثقافي وتطلعاتها وأشواقها وتاريخها وآمالها وأمانيها ميدان اهتمامه، والمجال الحيوي لفكره ونظره وتحركه، وهؤلاء أغلى الرجال وأندر الرجال وأشرف الرجال غاية وأمثلَهم طريقة وهداية.

 والمستشار طارق البشري مذ عرفته حتى هذا اليوم ورؤيتي له لم تتغير فقد أوحى لي في لقائنا الأول بأنّه رجل  أمّة، وعلى امتداد معرفتي به التي امتدت إلى ربع قرن أو تزيد كانت قناعتي بهذه الرؤية تزداد يومًا بعد آخر، وكان المستشار البشري يبرهن عبر مواقفه وأفكاره ودراساته على صحة هذه الرؤية ودقتها، وما رأيته لمس موضوعًا حتى تلك الموضوعات المتخصصة الفنيّة في مجال الشريعة والقانون وما إليها إلا وبرز فيه حس الانتماء إلى أمّة قد تضم الطائفة والحزب والقبيلة والبيت والقمة والقاعدة والشعب والنظام وتشتمل على شرائح مختلفة، ذلك لأنّ رجل الأمّة من الصعب جدًا أن يرتدي أي لباس آخر غير لباس الانتماء إلى الأمّة لأنّه يضيق عليه ولا يتسع له ولا يستجيب لفكره ولا يتأثر بطموحاته.

عرفت المستشار البشري ولقيته للمرة الأولى في البحرين قبل خمس وعشرين عامًا وذلك في اجتماعات التأسيس وتهيئة برامج  جامعة الخليج، في تلك المرحلة كُلف الأخ الأستاذ الدكتور محمود سفر الأستاذ والمفكر السعودي بتأسيس الجامعة ووضع برامجها وبناء هياكلها؛ فاستعان بمجموعة كان في مقدمتهم المستشار البشري والدكتور سيد دسوقي حسن، ودعي المعهد العالمي للفكر الإسلامي للمشاركة في تلك الاجتماعات، وكنت –آنذاك- نائبًا لرئيسه، حيث كان الشهيد الدكتور الفاروقي–يرحمه الله- رئيسًا له، وكان الدكتور عبد الحميد أبو سليمان مديرًا عامًا له، وسافرنا نحن الثلاثة _وهي سفرة من السفرات النادرة القليلة التي جمعتنا نحن الثلاثة_ حيث قضينا في البحرين عدة أيام مع المستشار البشري والدكتور سيد دسوقي والدكتور محمود سفر ومن استعانوا بهم –آنذاك- لإعداد البرامج الإسلاميّة والفكريّة لهذه الجامعة، وعندما كنت أستمع إلى المستشار البشريّ وهو يعرض وجهات نظره فيما يُطرح برز في ذهني أمران: أولهما: أنَّ مصر ولّادة فعلًا وأنّها كنانة هذه الأمّة، وأنّها ما تزال قادرة على إنجاب رجال أمّة وأنّ المستشار دليل حيٌّ على صدق هذه المقولة، الأمر الثاني: أنّ المستشار البشريّ ليس رجل أمّة فحسب أو رجل أمّة عاديًا –إذا كان في رجال الأمّة من يمكن أن يوصف بذلك- بل إنّه ابن خلدون مصريّ معاصر وأنّ الرجل يستطيع أن يكون امتدادًا مناسبًا وناجحًا لابن خلدون وأنّه إذا كان هناك من يستطيع أن يؤسس “لخلدونيّة معاصرة” فإنّ المستشار البشري هو ذلك الرجل.

فالمستشار البشريُّ قاضٍ من أهم وأفضل القضاة الذين عرفتهم مصر في عصرنا هذا وقد عرف المستشار بأفضل وأهم صفات القاضي النزيه الذي يتمتع بمدارك القاضي الذي حاول عمر –رضي الله عنه- رسم ملامحه في رسالته الشهيرة إلى القاضي شريح.

فإذا ضممنا إلى عقليّة القاضي مدارك المؤرخ الذي يعرف حقيقة التاريخ ووسائل صناعته ومقوماته وعناصره وفلسفته وتطوره إضافة إلى حس القاضي العادل النزيه وانضباط عقليّته واعتدال نفسيّته فإنّ الفرد –آنذاك- يخرج تمامًا من دائرة كونه فردًا؛ ليكون مدرسة كاملة في إطار أمّة، وأصحاب المدارس التي يمكن أن توصف بأنّها مدارس أمّة نادرون جدًا بل هم لا يتجاوزون أفرادًا يمكن حصرهم وعدهم لدى كل أمّة من الأمم، والرجل المدرسة هو رجل الأمّة وطارق البشري رجل مدرسة ورجل أمّة بكل ما تتسع الأمّة له من مكونات.

وحين قرر المعهد فتح فروع ومكاتب له في مجموعة الحواضر العالميّة كان في مقدمتها مصر، وفي ذلك اللقاء الذي جمع مجلس أمناء المعهد في فلادلفيا في فبراير الذي سبق مايو حيث وقع استشهاد الدكتور الفاروقي وزوجته بما لا يزيد كثيرا عن شهرين، تقرر العمل على اختيار الإمام الراحل الشيخ محمد الغزالي ليكون رئيسا لأول مجلس علميّ فكرنا أن نجعل منه مجلسا علميّــــًا على مستوى عالميّ يكون بمثابة think tank للمعهد كلّه بل وللتيار الإسلاميّ المعاصر القائم على التجديد والإصلاح وهو التيار الذي كان المعهد ينتمي إليه. وحين جاء دور التنفيذ كان الفاروقي قد استشهد وصرت رئيسًا للمعهد خلفًا له وكلفت بالسفر إلى الجزائر لمفاتحة الإمام الراحل بالعودة إلى مصر لترؤس المجلس العلميّ للمعهد العالمي للفكر الإسلاميّ؛ وشرح الله صدر الإمام وقرر الاستجابة على أن يصفي ارتباطاته مع جامعة الأمير عبد القادر في قسنطينة في الجزائر، ويعود بعدها إلى مصر، وتم تذليل جميع العقبات بعد ذلك ليعود شيخنا إلى مصر، وفي أثناء ذلك بدأنا نتباحث في أهم الشخصيّات التي يحتاج المجلس العلمي إلى استقطابها فكان المستشار البشريّ في مقدمة من تم ترشيحهم واتفقت مع الشيخ –يرحمه الله- على مفاتحتهم، وكان تعليقه -تغمده الله برحمته-: “هذا رجل حكيم فاضل لا نستغني عن مثله”، ولم يخيّب المستشار أملًا ولا رجاءً فكان من بين الكوكبة التي كان يتصدرها الإمام الراحل شيخنا الغزالي لتقدم رؤيتها وأفكارها حول ما هو مطلوب من إصلاحات وبرامج لإعادة بناء فكر الأمّة وعقليتها ونفسيتها وتهيئتها لتحمل أمانة مشروع نهضوي حضاري تتوافر له فرص النجاح بإذن الله- في ظل ما كنا نعيشه ونحياه من ظروف مبشرة واعدة فكان المستشار والدكتور عمارة والدكتور عثمان نجاتي –يرحمه الله- والدكتورة زهيرة عابدين –يرحمها الله- والدكتور سيد دسوقي حسن والدكتور محمد سليم العوّا والدكتور علي جمعة إضافة إلى أساتذة آخرين منهم الدكتور جمال الدين عطيّة؛ فتوثقت الصلة بالمستشار البشريّ وبدأت مرحلة عطاء فكريّ جديدة.

وإيماني بأنّ عملاقًا فكريًا مثل المستشار لابد له من مدرسة تحمل فكره وعلمه وتنطلق به فقد أسند على ما أذكر إليه تأسيس فريق بحث يعمل معه على مراجعة الخارطة الفكريّة ودراستها وتقويمها وإعداد خارطة انطلاق وإقلاع بمشروع الأمّة الحضاريّ، واستمر الحال كذلك وأعطى الرجل الكثير للمعهد ولغيره ولم يتردد في الاستجابة لأيّ نداء فيه لهذه الأمّة مصلحة، فتراه في مؤتمرات ولقاءات “مركز دراسات الوحدة العربيّة” إضافة إلى التعاون مع مراكز بحثيّة كثيرة في مصر وخارجها، فأينما وجد للأمّة مشروع أو مصلحة ونودي للتعاون فيه سارع إلى المشاركة بفكر نيّر جوّال كليّ لا تحدّه حدود إقليميّة ولا قوميّة ولا مذهبيّة ولا طائفيّة دون أن تفارقه رؤية الفقيه النطاسيّ الذي يحمل فلسفة الفقه ويلم بأبعادها ولحكمة وفلسفة المؤرخ الذي يعرف كيف يستلهم الدروس ويستخلص العبر من وقائع التاريخ وقصصه وأحداثه، ذلك هو المستشار البشريّ كما عرفته.

وأود أن أقول إنّني إنسان لا أجيد الكتابة عن الأشخاص ولا أحسنها، وهناك أشخاص قلائل كتبت عنهم لأنّني انفعلت بهم وتأثرت بأفكارهم واحترمت شخصيّاتهم وشعرت أنَّ من الوفاء للأمّة الإشارة إليهم والتنبيه لأدوارهم وتنبيه الأمّة للاستفادة بأفكارهم وهم شيخي الجليل الشيخ الزهاوي إمام العراقيْن –يرحمه الله-، وشيخي الشيخ عبد الغني عبد الخالق شيخ الأصوليّين المعاصرين، والإمام الراحل الشيخ الغزالي، وكذلك الأستاذ القرضاوي حينما دعا أصدقاءه ومحبيه للقاءات الأصحاب والأحباب؛ كتبت عنه باعتباره نموذجًا للمفكر الفقيه، أما المستشار البشريّ فوجدتني راغبًا في الحديث عنه وإبراز فضله وما يتحلّى به ويتمتَّع به من مزايا يحتاج أبناء هذا الجيل والأجيال الطالعة إلى معرفتها وتمثّل ما فيها؛ لعل ذلك يعين هذه الأجيال على تصحيح مسارها والحصول على المثل والأسوة والقدوة الذي يصلح أن يكون نموذجًا يحتذى ويقتدى به، حفظ الله المستشار البشريّ وأمد في عمره ومنّ علينا وعليه بالصحة والعافية وأعاننا وإياه على تشكيل مدرسة فكريّة تخدم هذه الأمّة وتمدها بالطاقات الفكريّة الراشدة والمسدّدة والمؤيّدة إن شاء الله. والله ولي التوفيق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *