د.طه جابر العلواني
العدل أو العدالة تعتبر من أهم المفاهيم الإسلاميَّة التي جاء القرآن المجيد بها، والعدل -في الوقت نفسه- أعلى القيم الإسلاميَّة العليا، وأبرز مقاصد الشريعة. فإذا كانت القيم القرآنيَّة الحاكمة العليا ثلاثة: هي «التوحيد والتزكية والعمران»، فإنَّ «العدل» يأتي في مقدمة المقاصد الشرعيَّة المتفرعة عنها، فلا يتحقق توحيد الموحِّد إذا لم يتَّصف بالعدل، ولا يتحلَّى بالتزكية إلا إذا اتصف بالعدل، ولا يمكن أن يُقام العمران في الأرض بدون العدل؛ ولذلك فقد اعتبر علماء الأمة ومفكروها العدلَ أساسًا للملك، ومقصدًا شرعيًّا يحتلُّ المرتبة الأولى، حيث لا ينافسه ولا يداينه فيها إلا الحريَّة. وفي نظري أنَّ بين العدل والحرية تلازمًا لا يسمح بانفصال أيٍّ منهما عن الآخر، فلا يتحقق العدل بدون حريَّة، ولا تكون الحريَّة حريَّة حقيقيَّة بدون أن يحميها العدل ويصونها.
ولقد أشاد القرآن بالعدل، وأمر به في آيات عديدة، فقال تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾ (النحل:90) والعدل -كما يقتضي الحريَّة ويتفاعل معها- فإنَّه يقتضي المساواة في المكافئة والجزاء؛ إنْ خيرًا فخيرًا وإنْ شرًّا فشرًّا. وحرص القرآن وحثَّ على جعل العدل قيمة مطلقة، لا تتأثَّر بالعواطف ولا بالمشاعر، فقال: ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ (المائدة:8)، وقد كان رسول الله مثالاً للعدل المطلق وتجسيدًا له في كل شأن، إلى أن تحول إلى سلوك ثابت له، عُرف به وتمثَّله أصحابه، فصاروا نماذج لتجسيد العدل بكل معانيه وفي سائر مجالاته. ولقد أثَّر ذلك في كل من عرف رسول الله وعرف أصحابه وآل بيته، وصار ذلك العدل من أهم أسباب الدعوة ولفت أنظار الناس إلى عظمة الإسلام وسُمُوِّه وتحضُّر المسلمين وتقدُّمهم، وبذلك استحقت الأمة المسلمة -التي ساد العدل فيها- أن توصف بـ«الخيريَّة والوسطيَّة»، وتستحق منصب «الشهادة على الناس»؛ لأنَّ العدل قد توافر فيهم وجعلهم أهلاً لذلك كلّه، فصارت تلك الصفات -أي «الخيريَّة والوسطيَّة والشهادة»- صفات لهم ولباسًا لهم، وصاروا مضرب المثل في العدل. على ذلك قام نظامهم السياسيُّ في الخلافة الراشدة، وعلى ذلك قام نظامهم القضائيُّ، حتى أصبح العدل روحًا يسري في المجتمع، يُسدد خطاه ويقوِّم مسيرته ويطهِّر بيئته، ويُعطيه كل وسائل التضامن والتآخي والتكافل والقوة والـمَنعة.
بالعدل حفظ الله للناس ضروريَّاتهم، وأعلاها الضروريَّات الخمس: النفس والمال والعقل والعِرض والدين، كما حفظ لهم حاجيَّاتهم وما لا قِوام للحياة بدونه إلا بمشقة وتعسُّف، بل حفظ بذلك كماليَّاتهم، فصار العدل جزءًا من شخصيَّة الإنسان المسلم، يعيش في عقله ويُسَيِّره في حياته، ويتمثَّل في بناء فنونه وآدابه ومؤسساته، ويحكم سائر علاقاته ومعاملاته.
واليوم، وقد ضعفت علاقة المسلمين بالإسلام، ولم يعد هو المهيمن على حركتهم في الحياة، والموجِّه لجهودهم، تراجعت عندهم القيم، وضعف تأثيرها، وقلَّ المتمسكون بها، فتفوَّقت عليهم أمم أخرى قد لا تكون أممًا مؤمنة موحِّدة، ولكنَّها عرفت طريقها إلى العدل بعقولها وخبرتها، فتشبَّثت به وتمسكت به، وأوجدت الضمانات الكفيلة بصيانته وإعلاء شأنه وتدعيمه، فسعدت وسادت وأسعدت شعوبها، واستطاعت أن تَبْنِيَ حضارة ومدنيَّة وتقدُّمًا، وانتصرت على دول تنتمي إلى الإسلام وتنتسب إليه، ولكنها لا تقيم العدل بينها، فصار أبناؤها يلجأون إلى تلك الأمم وتلك الدول ليعيشوا بين ظهرانيها، ويتمتعوا بعدل أهلها ونظمها؛ لأنَّ الإنسان لا يستطيع أن يحيا -بوصفه إنسانًا ذا كرامة- بدون العدل، فكأنَّ الإيمان والإسلام يفقدان مقومات الحياة والبقاء والدوام والاستمرار إذا فُقد العدل، ولن تستطيع أمتنا أن تستعيد كرامتها، وتُعيد بناء وحدتها، وتصوغ مشروعها الحضاريَّ، وتتبوأ المكانة اللائقة بها إذا لم تُعِدْ العدلَ إلى موقعه السامي في ديارها؛ ليكون قيمة عليا يتحلى بها الحاكمون والمحكومون، ويحوطونها بسائر الضمانات الكفيلة بترسيخها وتدعيمها.
فالعدل أساس الملك وقوام الحضارة، ودعامة العمران وقاعدة كرامة الإنسان… والله أعلم.