Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

التحقيق وتعرية المتهم

أ.د/ طه جابر العلواني

إنّ تعرية الإنسان عمل أول مَنْ مارسه في الوجود هو الشيطان: ﴿… يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ (الأعراف:27)، ورؤية الإنسان لسوءته، وإن كان أمرًا طبيعيًّا، لكنَّه حين يكون بين آخرين يجعل الإنسان وكأنَّه قد أُخرج من إنسانيَّته؛ ولذلك كانت نعمة الله ورحمته كبيرة حينما قال: ﴿يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (الأعراف:26ومنذ ذلك الحين اقترن التعرّي بالشيطان، واقترن الستر بفضل الله ورحمته ونعمته.

خبر صغير

ثمة خبر صغير أدرجته الجزيرة يوم (3 أبريل 2012) بين مجموعة من الأخبار الهامَّة، بحيث يصعب الالتفات إليه، جاء فيه أنَّ سلطات التحقيق في الولايات المتحدة قد أُذِن لها -والآذِنُ في هذه الحالة هو وزارة العدل- أن تُعري المتهم من جميع ملابسه، وتمارس التحقيق معه عاريًا. إنَّ الإنسان حين يُستدعى إلى التحقيق تستبد به مشاعر القلق والخوف مما سيواجَه به، ومهما يكن بريئًا فإنَّه لن يستطع أن ينتزع كل عوامل القلق والخوف من نفسه، وستبقى لديه تساؤلات: لماذا استُدعِيت؟ ما الذي يريدونه مني؟ ما الذي يريدون أن يفعلوه بي؟ خاصَّة إذا شعر أنَّه في بيئة معادية له، أو في أمَّة لا ينتمي إليها انتماء تامًا، أو لا ينتمي لقيمها وما تؤمن به غالبيّتها، فإذا أضيف إلى ذلك تعريته وإيقافه بين يدي المحقق عاريًا، محتقرًا لنفسه، قد ذهبت المخاوف بجانب من إنسانيَّته، فسوف يذهب العري بكل ما بقي له من مشاعر العزّة والكرامة والانتماء إلى بني الإنسان، وسيشعر بالضعف والمهانة والذلة، إضافة إلى عوامل الخوف والقلق، وفي معارك التعذيب وتغيير المعتقدات كان العريّ وتعرية المتهمين من أوائل وسائل التعذيب التي يلجأ أعداء الإنسان إليها لإذلال المتهمين وتدمير إنسانيَّتهم، وجعلهم يشعرون بأنَّهم أقل إنسانيَّة من أولئك الذين يحققون معهم، وقد يهيئهم ذلك للاعتراف على النفس والشهادة عليها، وسائر الأديان والقوانين ترفض الشهادة للأقارب وعليهم، فضلًا عن الشهادة على النفس، إلا إذا صدر عن اختيار محض، ودون أيَّة ضغوط، وآنذاك يُسمى بالإقرار أو الاعتراف.

ليس الأول

إذا صح الخبر فلا بد لنا من العودة بالذاكرة إلى ما قبل سنتين أو ثلاث، حينما أخضع المسلمون -خاصَّة ومن تدل سحناتهم على أنَّهم مشارقة قادمون من الشرق الأوسط أو الشرق الأدنى أو الأقصى أو جنوب شرق آسيا، وهم في الأغلب مسلمون- إلى الفحص بأجهزة إليكترونيَّة تستخدم الأشعة للكشف والفحص والتأكد من أنَّهم لا يحملون أسلحة قد يستخدمونها في البلد الذي يزورونه -أمريكا- وقامت قيامة المسلمين وأقاموا دعاوى كثيرة ثم هدأت الضجة، وإن كانت ما تزال تلك الأجهزة تعمل وتكشف عن عورات النساء والرجال للجالسين وراء الأجهزة، ينظرون إلى ضحاياهم عراة، وبهذا -إن صح الخبر- تكون تعرية المتهمين وهم في الغالب سيكونون من المسلمين والعرب والمشارقة الحلقة الثانية من سلسلة الإهانات لأبناء هذه الأمَّة وبناتها، وهتك أعراض الزائرين لتلك البلدان أو المقيمين فيها، ولم تتحرك الأجهزة السياسيَّة والدبلوماسيَّة لعمل شيء في هذا الصدد أو للإعلان عن الاحتجاج، ومرت الأمور، وقد يمر التعري، وقد يمر هذا الأمر -أمر تعرية المتهمين- وبعد سنة أو أكثر أو أقل نفاجأ بشيء جديد!

تعرية/انتقاص

أذكر أنَّ صديقًا طبيبًا كان قصير القامة، وفيه بعض العيوب الخِلقية، واستشار أستاذه وهو يهم بفتح عيادة له، ماذا سيفعل مع نظرات المرضى إليه وفيها كثير من رسائل قلَّة الاهتمام به، فنصحه أستاذه قائلًا: أول شيء تفعله أن تطلب من المريض أن يتعرى بشكل كامل بين يديك، فمهما كنت قصيرًا أو دميم الخِلقة فسوف يشعر -وهو عار- أنَّه أقل منك.

هل ثمة أمل أن تثير مثل هذه الإجراءات المهينة في المسلمين الذين يتعرضون لها النخوة والحميَّة والتساؤل: لما يحتقرنا هؤلاء؟ ولما يصرّون على تحقيرنا بمناسبة وغير مناسبة؟ أمَّا أنا فأعرف من القرآن الجواب، إنَّ مَثَلَنا مَثَل ذلك الذي أمر الله رسوله بتلاوة نبئه علينا: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (الأعراف:175)، فلو حمل المسلمون الهدى والنور إلى هؤلاء الناس، وأوصلوا القرآن إليهم، وأظهروا فيهم الهدى والحق لما أصر هؤلاء على تحقيرهم وازدرائهم، ولكن يبدو أنَّ هناك شعورًا خفيًّا -مضافًا إلى العوامل الأخرى الكثيرة- يجعل هؤلاء ينظرون إلينا على أنَّنا كتمنا عنهم رسالات ربهم، وحصرنا الرسالة العالميَّة الخاتمة في محيطنا الجغرافيّ الضيق، وحرمناهم من الهدى والنور والبصائر القرآنيَّة، فكأنَّهم ينتقمون منا وهم لا يشعرون.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *