أ.د.طه جابر العلواني
(إليك إليك يا بغداد عني) شطر بيت قاله الرصافي وهو يتجرّع مرارة أوضاع كم نتمنى اليوم لو دامت واستمرت، أو جاء بديل لها يشبهها ولو من بعض الوجوه. قال الرصافي ذلك في العهد الملكي:
إليك إليك يا بغداد عني | فإنِّي لست منك ولست مني |
ولكنِّي وإن كبر التجني | يعز علي يا بغداد أنِّي |
أراك على شفا هول شديد | |
تتابعت الخطوب عليك تترى | وبُدِّل منك حلو العيش مرّا |
فهلا تنجبين فتى أغرَّا | أراك عقمت لا تلدين حرّا |
وكنت لمثله أزكى ولود |
يلومني كثير من أبنائي وإخواني من العراقيين -أقارب وأباعد- على أنَّني لا أتناول الشأن العراقيّ، ولا أقترب من قضايا العراق، في حين أتكلم في مختلف الشؤون الإسلاميَّة؛ فأكتب وأحاضر وأقوم بمقابلات صحفيَّة أو متلفزة، حتى إنَّ بعضهم ربما تجرأ على اتهامي بأنَّني قد فقدت مشاعري وعواطفي تجاه العراق بعد أن أصابني ما أصابني وأدى إلى مغادرتي له في 26/6/1969م، ولم تكتحل عيناي برؤية شيء منه إلا على الفضائيَّات وصور الأخبار والصحافة. خرجت منه شابًا لا أذكر أنَّ في شعر رأسي ولا وجهي أكثر من أربع شعرات بيض، وها أنا قد ودَّعت كل تلك المراحل، ودخلت مرحلة الكبر والشيخوخة واشتعل الرأس شيبًا، ولم تعد في الوجه شعرة سوداء. وساقتني الأقدار للعيش في الولايات المتحدة الأمريكيَّة منذ عام 1984م حتى اليوم، وأزور بلاد العرب والمسلمين -عدا العراق- زيارات علميَّة لحضور مؤتمر أو القيام بنشاط علميّ، أستاذًا زائرًا لجامعة أو مقدِّمًا لسلسلة من محاضرات أو مستشارًا أكاديميًّا أو ما شاكل ذلك، أمَّا العراق… فربما مررت بسمائه في الطائرات التي أسافر بها من مكان إلى آخر، وأمَّا أرضه وهواؤه ومياهه فلم أذق شيئًا منها منذ ذلك المساء الذي غادرته فيه حتى يومنا هذا.
«الروافض» و«النواصب»
إنّ صدّام حين استُدرِج لتلك الحرب المجنونة المفروضة استنكرتُها، وتمنيت لو أنَّه كان ممن يسمعون أو يعقلون، إذن لكنت لخاطبته ولحذرته بكل ما أستطيع؛ كي لا يقع في ذلك الفخ ويستدرج العراق إليه، ويفرضه على إيران، ثم يقوم بعمليَّة استدعاء لأسوأ ما في التراث التاريخيّ من فكر «النواصب» والمنحرفين والمستبدين الذين أدّت تصرفاتهم إلى ظهور «الروافض»، إذ إنَّ لكل فعل رد فعل مساوٍ له في القوة ومغاير له في الاتجاه، وإذا كانت القيادات الإعلاميَّة لصدام قد استحيت تراث النواصب كافَّة، ووظفته في تلك الحرب المفروضة فقد كنت أحذِّر إيران -وخاصَّة بعض علمائها الذين يملكون كثيرًا من الإخلاص لدينهم وعقيدتهم- من أن تقابل ذلك باستحياء التراث الرافضيّ، وتجديد ذلك الإرث الأسود الذي تمخض عن الصراعات التاريخيَّة بين الأسر الطامعة في الحكم -آنذاك- والتي اختزلت الإسلام في قبيلتها ومصالحها الأسريَّة، مثل الأمويّين والعباسيّين والطالبيّين وغيرهم، فقد كان ذلك نموذجًا لانقلاب قبائليّ على الإسلام عقيدة وأمَّة ودعوة ورسالة؛ أدّى إلى توقف المدّ الإسلاميّ وتراجعه عن الوصول بأنواره إلى الناس كافَّة كما أمر الله، وبقي محصورًا مقزَّمًا مختزلًا إلى تلك الأطروحات الفجَّة التي حصرت كل شيء بالقيادة السياسيَّة «الإمامة»، حتى أُدرجت المباحث المتعلقة بالقيادة السياسيَّة والإمامة في مباحث العقيدة؛ لئلا يتساهل الناس في الأطروحات السياسيَّة للأسر المتصارعة.
والقرآن المجيد يقدِّم قاعدته الذهبيَّة التي تمثل سنَّة من سنن التعامل مع التاريخ: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (البقرة:134)، لكنَّ أحدًا لم يستطع أن يوقف تلك الاتجاهات المحمومة التي ملأت ساحة المنطقة بتراث الصراع بين «النواصب» و«الروافض»، وتحويله إلى صراع بين «السنَّة» و«الشيعة»، فأضفى على «السنَّة» كلهم في إعلام معركة إيران لقب «النواصب»؛ أي الذين يناصبون آل البيت العداء، وأضفى لقب «الروافض»؛ أي الذين يرفضون إمامة الشيخين وعثمان، ويرفضون بعد ذلك جميع الصحابة إلا ثمانية وكل أمهات المؤمنين. ومعروف أنّ كلا اللقبين لا يصدقان على أولئك الذين أُطلقا عليهم في عصرنا هذا، لكنَّ ذلك ما حدث، واشتعلت روح العداء، ودخلت الطائفيَّة السياسيَّة المعاصرة على الخط وكرّست ذلك كله، وجعلت منه دينًا، وأوغرت الصدور، وملأتها بالسخائم، وأشعلت روح العداء والبغضاء، وعملت لها خلطة عجيبة من الشوفينيَّة العنصريَّة والميول المتطرفة والقوميَّة والانحرافات المذهبيَّة؛ لتجعل منها خميرة ووقودًا يغذي حالة الصراع ويقويها ويعمقها، ويجعل الفتنة بين الطرفين هي الأصل، وأخوَّة الإسلام ووحدة الأمَّة فرعًا منبوذًا أو مهجورًا أو منسيًّا، وتوقفت الحرب بالمفهوم العسكريّ، لكنَّ تفاعل الأفكار الطائفيَّة وآثارها بقيت تنمو وتتصاعد وتتغذى برؤية آثار الدمار الاقتصاديّ والعسكريّ والآثار السياسيَّة والجيوسياسيَّة، والآثار الاجتماعيَّة والثقافيَّة؛ لتزيد الهوة بين البلدين. وقد نسي الجميع أنَّ الصراع بين الدولة العثمانيَّة والدولة الصفويَّة في إيران قد استمر ثلاثة قرون ونصف، واستمد غذاءه المسموم من صراعات السلاجقة والبويهيّين في العصر العباسيّ، واتصل كل ذلك بــالفتنة الكبرى وعمليَّات الصراع، وكون الاتجاهات الطائفيَّة في هذه المنطقة -مثل خزَّانات الغاز والبترول شديد الاشتعال- لا ينبغي لأحد أن يقترب منها بنار ولو بعود ثقاب، فهي يمكن أن تشتعل بمجرد ضغط حرارة الجو إذا لم تُتَّخذ الاحتياطات اللازمة.
لقد كان العراق في فترة «الصراع الصفويّ العثمانيّ» هو الميدان الذي يتحارب الطرفان فيه، فمرة تنتصر الدولة العثمانيَّة وأخرى ينتصر الصفويُّون، وقد كان على ساسة العراق -أيًّا كانوا- أن يلمّوا بتاريخه، وكذلك كان على ساسة إيران أن يفعلوا الشيء نفسه إذا كان هناك صدق في النوايا لإقرار السلم في المنطقة، وتحقيق الازدهار، وتعويض سنوات التخلّف، والعمل على إنهاض الأمَّة بكل فصائلها وأقطارها في هذه المرحلة، والخروج بها من حالة التخلّف المهين؛ لا لإنسانها وحده، بل لأرضها وسمائها ومياهها.
الفُرقة والاستبداد
إنّ وجود إسرائيل في قلب هذه المنطقة -بكل ما تمثّله من خطر وتهديد لاستقرارها ولاقتصادها ولسياساتها ولعلاقتها في العالم- يكفي أن يكون دافعًا لكل هذه الفصائل لتُعيد طرح سؤال النهضة على نفسها: لماذا تأخّر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟ وتبدأ في تقديم إجابة للأجيال المعاصرة، والتي تخرّج كثير من نخبها في جامعات غربيَّة، وعرف فيها الكثير من وسائل تقدّم الأمم وتراجعها. كان ذلك كله كافيًا ليجعل من هذا التنوع القوميّ والمذهبيّ والعنصريّ والجغرافيّ عوامل إيجابيَّة لإيجاد أجواء تنافس شريف بين أبناء الأمَّة لإعادة بنائها، وتجديد ما رث من قواعدها، وتوحيد كلمتها، واستثمار خيراتها لصالح المجموع، وربط أقطارها بشبكات من المواصلات والاتصالات لا تسمح مرة أخرى بتقطيع أوصالها، وحرمانها من التواصل فيما بينها، والاستفادة المشتركة بخيراتها، والتحصّن ضد أعدائها وبناة الأزمات فيها، والدخول في السلم كافَّة. لكنَّ الذي حدث ويحدث كان على العكس من ذلك، فلم يدخل الناس في السلم كافَّة ويوجّهوا نزعاتهم الحربيَّة والصراعيَّة نحو منابع الصراع والنّزاع والتخلّف والتعصّب والإرهاب والفقر وما إلى ذلك من أمراض، لكنَّ الأمَّة بقيت مقطّعة الأوصال. لقد كان شاه إيران يحلم بأن يكون شرطيّ المنطقة، وخطط كثيرًا بجهل وغباء لإضعاف السعوديَّة والعراق معًا؛ لأنَّ هذين البلدين في نظر شاه إيران -على أيامه- كانتا تمثّلان عقبة أمام طموحاته في أن يكون شرطيّ الخليج المفوّض. أمَّا السعوديَّة فإلى أن استشهد فيصل كانت تستوعب تصرّفات شاه إيران ولا تعطيه فرصة لإثارة المشاكل والتوسع فيها، وحاولت القيادة التي جاءت بعد فيصل أن تستمر بذلك إلا في فترات محدودة استطاع شاه إيران أن يغري بها بعض مكونات الحكم بنوع من التنسيق معه والقبول به بصفته الجديدة، خاصَّة فيما بتعلق بالمسألة العراقيَّة. في حين أنَّ فيصل قد استطاع أن يقنع شاه إيران بتوقيع اتفاقيَّة الجزائر مع صدام بعد أن أشعره صدام وأقنعه بضعف العراق أمام الشاه، وأنَّه لا قبل له بمواجهة قوة إيران آنذاك، وقَبِل شاه إيران وساطة فيصل ووقع اتفاقيَّة الجزائر مع صدام، والتي كانت مجحفة في حق العراق في شط العرب وفي حدوده مع إيران، ولكن -كعادة أولئك الحكَّام المستبدّين- كان المهم عنده هو الكرسيّ وهو أهم من الأرض والعِرض، على أمل أن تأتي فرصة مناسبة ينقضون فيها ما أبرموه، ويلغون فيه ما وقّعوه، وظنّ صدام أنَّ الفرصة قد سنحت عندما انهار نظام الشاه على أيدي شعب إيران، وتسلّم الخميني، الذي طرده صدام من الأرض العراقيَّة، والتي كان لاجئًا فيها.
عراق بعد الحرب
وحينما توقفت الحرب، واستنفذ صدَّام كل الأموال العراقيَّة، والطاقات الشبابيَّة، والقدرات العسكريَّة، وخرج بعراق ضعيف مدين لمختلف الدول، وثرواته مرتهنة إلى عقود قادمة، ولم يبقَ منه إلا تلك الكراهية والطائفيَّة التي تم تجديدها في تلك الحرب، فذهب يبحث عن أمجاد في احتلال الكويت التي استُدرج إليها بشكل لم يكشف التاريخ بعد كل خباياه، وبعد ذلك أدرك قوَّاد لعبة الأمم أنَّ كلًّا من العراق وإيران قد صارا ثمارًا ناضجة للسقوط، وأنَّ الكويت قد عوقب بقدر جيد على رفضه تقديم جزء من أراضيه ومياهه الإقليميَّة للعسكريَّة الأمريكيَّة قبل احتلال صدام للكويت، وصار مستعدًا لقبول أي شيء من أجل حماية نظامه وثروته، آنذاك قام ما يُسمى بحرب الخليج الثانية، وقد صرح شوارزكوف وغيره بأنَّ إسقاط نظام صدَّام كان في مقدورهم لو أنَّ البيت الأبيض بقيادة بوش الأب أعطاهم ضوءًا أخضر لذلك، ولكنَّهم وجهوا نداءات لفصائل الشعب العراقيّ تدعوه إلى الثورة. ثارت كربلاء والنجف، وتوهّم الناس -آنذاك- بأنَّ أمريكا أرادت أن تعطيهم شرف إسقاط صدَّام في تلك المرحلة. وفي الوقت الذي كان فيه صدَّام راكعًا أمام قوة احتلال قادتها الولايات المتحدة -ومعها ثلاثون دولة- إذا بهم يسمحون له بتأجيج الطائفيَّة باستعمال أسلحته المتوسطة لإخماد ما عُرف بالــثورة الشعبانيَّة في كربلاء، وسائر المناطق الشيعيَّة في الجنوب، واعتبرت تلك العمليَّات -إعلاميًّا- عمليَّات سنَّة ضد شيعة؛ سنَّة بقيادة صدَّام الذي كان ينتمي إلى حزب يؤمن بالــماركسيَّة اللينينيَّة بتطبيق عربيّ، أضفيت عليه لا صفة الإسلاميَّة العامَّة فقط بل الصفة المذهبيَّة؛ ليُقال: إنَّه مسلم وسنيّ، وحُمِّل السنَّة في نظر الشيعة مسؤوليَّة قتل ضحايا الثورة الشعبانيَّة وهم منها أبرياء؛ لأنَّ الذي قام بذلك النظام وليس الشعب العراقي، وكانت السجون ملأى بالسنَّة وغيرهم، ومَنْ يعارض صدَّام فإنَّه لا يُنتظر له إلا الموت على يديه مهما كان اسمه أو صفته أو انتماؤه، وهكذا تمكّنت روح العداء، ثم أحبطت أمريكا بعد ذلك جميع المحاولات الانقلابيَّة التي حاولها شرفاء من أبناء الجيش العراقيّ والسياسيّين العراقيّين؛ لكي تنفرد هي وحدها بالحل الذي كانت تدبّر له منذ أيام شاه إيران؛ ألا وهو احتلال العراق، دون أن يكون له أي نصير لا من العرب ولا من المسلمين، والسيطرة على ثرواته.
إنّ من المعلوم أنَّ احتياطيّ البترول في العراق يقدر عمره بما يزيد عن خمسمائة عام من الآن، في حين أنَّ البترول في العالم قد ينتهي في ما عدا المستخلص من الأحجار الزيتيَّة خلال مائه وخمسين عامًا على الأكثر، فثروات العراق وما في باطن أرضه إضافة إلى بعض المناطق التي تحيط به لا يمكن للحضارة الغربيَّة أن تستغني عنه، ولا يرى قادة هذه الحضارة أن يتركوا هذه الثروات لأهلها مهما كلَّفهم ذلك.
عراق/إيران اليوم
واليوم قد تم استدراج قيادة الثورة -التي تفجّرت في إيران، واعتبرت نفسها ثورة إسلاميَّة منبثقة عن اتجاه إسلاميّ صحيح- أن تتعامل مع العراق بمثل ما تعامل به شاه إيران، فإيران اليوم تتعرض لذلك الكم الهائل من التهديدات الغربيَّة والإسرائيليَّة بعد أن كانت من أهم الجهات التي فرحت واستفادت بتفكك العراق جيشًا وحكومةً وشعبًا، وساعدت على ذلك، ولم تتردد ذات مرة في أن تعقد مفاوضات مع الجانب الأمريكيّ في بغداد على العراق أرضًا وشعبًا وكيانًا وحاضرًا ومستقبلًا. وللآن لا يملك أحد أن يؤكد أو ينفي -من خارج دوائر صنَّاع القرار في البلدين، ومجالس الأمن القوميّ، وأجهزتها- طبيعة تلك التفاهمات أو الاتفاقات حول العراق بالذات، وما يصح منها وما لا يصح. أمَّا الأدوات المستخدمة والتي ما تزال تُستخدم فهي تلك المخزونات الفكريَّة المريضة من الأفكار القاتلة والمميتة التي ظهرت في مراحل تاريخيَّة معيّنة، وما تزال في مستودعات الفتنة، يستطيع المستبدّون استخراجها وتوظيفها متى شاؤوا.
بريطانيا قديمًا.. أمريكا اليوم
إنَّ العراق بلد منكوب فعلًا، بل هو بلد سيئ الحظ، فجمال العراق وموارده وطاقاته أغرت كل هذه القوى به وجعلتها تتهيأ للانقضاض عليه في أي وقت، وما أكثر الأسباب والمعاذير التي تتخذها. لقد درست تاريخ العراق الحديث وشيئًا كثيرًا من تاريخه القديم، وكتبت في ذلك، وما أزال أقرأ وأتعلم؛ ومما ساءني أنَّ الناس لا يتعلمون من دروسهم. إنَّ البريطانيّين حين احتلوا العراق، كان من أهم معارضيهم الذين وقفوا في وجوههم القبائل العراقيَّة من شيعة الجنوب ومراجع دينيَّة وشيوخ عشائر، فاضطرت بريطانيا لتسليم السلطة بعد تغييرها الاحتلال إلى انتداب أناس من المتعاونيين معها الذين يحملون أسماء سنيَّة وينتسبون إلى الطائفة السنيَّة، وذلك أمر طبيعي. أمَّا أمريكا التي ليست لها الخبرة البريطانيَّة في التركيبة الاجتماعيَّة للعراق فقد رأت -بقيادة ولفويتس- أن تسلِّم زمام الأمور في البلاد لــشيعة العراق، وأن تهمّش بقدر المستطاع سنَّة العراق. فقد كان ذلك في نظرها بداية تطبيق لسياسات تفتيت المنطقة، وتحويلها من منطقة عربيَّة مسلمة إلى منطقة شرق أوسطيَّة، يمكن أن يُغرس فيها الجسم الصهيونيّ دون أن يرفضه الجسم أو يستغربه؛ لأنَّه في هذه الحالة سوف يكون شرق أوسط كبير يستوعب -في إطار هذا المفهوم المائع الهلاميّ- إسرائيل، ويضعها في مجال الحقوق والواجبات في أفضل مستوى ممكن، وبذلك تستقيم الأمور، وتصبح أمريكا أيضًا جزءًا من المنطقة في احتلالها للعراق الذي وعدت أن يكون بلدًا يصلح لأن يحوَّل إلى ولاية من الولايات المتحدة، ويصلح شعبه أن يكون طيّعًا للذين حرروه من الدكتاتوريَّة والاستبداد، ويتقبل ما يُمليه عليه السادة تقبّلًا تامًا، وهكذا آلت أوضاع العراق إلى كرة تتقاذفها أرجل قيادات الطائفيَّة السياسيَّة من الطائفتين الشيعيَّة والسنيَّة، ورأى الخبراء الأمريكان أنَّ ذلك سوف يعطي فرصة لتفريغ الأحزاب السياسيَّة الشيعيَّة من حماسها وتوثّبها إلى السلطة، وذلك بممارستها السلطة على أرض التجارب؛ الأرض العراقيَّة.
قبل أن تعمّ الكارثة
ولا أظنّ العراقيُّين قد أدركوا أنَّهم مجرد حقل تجارب للقوى المسيطرة على المنطقة وعالم اليوم، ففيهم تجرَّب الطائفيَّة السياسيَّة لتُعرف مستوياتها ومناسيبها، وفيها تجرَّب الاتجاهات المتناقضة والمتضاربة في المنطقة كلها؛ لتُغذي مراكز البحوث والدراسات والعقول الاستراتيجيَّة في الغرب، وتمنحها فرص التخطيط الدقيق لإحكام قبضتها على المنطقة وهيمنتها على مواردها. فما الذي يفعله الكاتب اليوم؟ أينحاز إلى طائفته؟ إنَّه بذلك صار جزءًا من المشكلة لا من الحل، أم هل ينادي الطائفتين أن يتعقّلا، وينادي القيادات الدينيَّة والمراجع ومن إليها ليدركوا ما حدث، ويتصوروا عمق الكارثة التي استدرج الناس إليها؟ إنَّ البلد في حال فتنة، فتنة عمياء، وها هي سوريَّا أيضًا قد دخلت في مدار الفتنة، ولبنان يعلم الله بما تدَّخره الأيام لها، والبحرين والخليج والسعوديَّة واليمن… كلها سائرة في ذات الاتجاه، والكاتب الملتزم الذي يفقه الكلمة ومسؤوليَّتها لا يضيِّع صوته تحت قعقعة السلاح، ولا يضيِّع صوته بين الأصوات الكثيرة المرتفعة في تكريس الماضي واستحياء التراث الناصبيّ والتراث الرافضيّ، وإيقاد أفران الموت به، والتي تُستدرج لها شعوب المنطقة؛ لتبقى أراضيها ومواردها إرثًا غير شرعيّ للعضو الأهم والجديد في الشرق الأوسط الكبير، ومَنْ وراء ذلك العضو من قادة المسيهوديَّة.
إنَّني أتمنى أن تكون هناك أيَّة نافذة لمثل قلمي؛ لإشاعة الوعي بتلك الحقائق المرعبة التي إذا لم يعها الجميع قبل فوات الآوان فإنَّ كل طائفة سوف تُضعف الأخرى وتُدمرها، ولكن لا لصالحها هي بل لصالح المستفيد الأكبر ومَنْ وراءه، وهو –كما قلت آنفًا-العضو الجديد في الشرق الأوسط الكبير.
إنَّنا ننادي الجميع أن يترفّعوا عن ذلك التراث المريض الذي ورثناه ناصبيًّا كان أو رافضيًّا، وأن يتخلّوا عنه ويتخلّصوا من آثاره، ويفتحوا عقولهم للقرآن وآياته، ويعتصموا بحبل الله جميعًا، وينبذوا التفرُّق، فإنَّ كتاب الله –جلَّ شأنه- منير للسبل مخرِج من الفتن هادٍ إلى سواء السبيل، لا يأتي الناس بمثل إلا جاءهم القرآن بالحق وأحسن تفسيرًا، فلو استمسكنا به ورجعنا إليه وتلوناه حق تلاوته، واعتصمنا به ولم نتخلَّ عن هداية آياته لما كنَّا كمثل: ﴿…آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ*وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الأعراف:175-176)، فمتى يستيقظ العلماء والفقهاء والكتَّاب والمراجع والنُّخب ويعوا حساسيَّة هذه المرحلة والمخاطر التي تتهدّد الأمَّة -وهم منها- بالدمار الشامل والخراب الكامل إذا لم يتداركهم الله برحمته وينقذهم القرآن بأنوار هدايته.