د. طه العلواني
إنّ حل مشكلات الواقع –حلًا إسلاميًّا جذريًّا- يستدعي خروج المسلمين من أزماتهم الفكريّة الموروثة والمعاصرة، وإعادة بناء وتشكيل العقل المسلم بحيث يعود عقلًا مبدعًا مجتهدًا برهانيًّا كما كان عندما صاغه صاحب الرسالة -صلى الله عليه وآله وسلّم- بالقرآن المجيد يصدر عنه وإليه يعود، وإلى رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلّم- يرد الأمر وإليه يرجعه.
وحين يتم استمداد مرجعيّة الوحيّ المقروء المتعبد بتلاوته، المتحدي بأقصر سورة من سوره([1]) ومرجعيّة النبوة الخاتمة في تبليغه وتعليمه وتطبيقه وتفسيره وبيان كيفيَّة تأويله وتفعيله في الواقع. بكل طرق البيان، يستطيع العقل المسلم أن يكتشف خصائص الإسلام العامّة ومقاصده العليا الحاكمة وفي قمَّتها ومقدمتها: «التوحيد والتزكية والعمران»؛ ثم تأتي بقيَّة المقاصد الشرعيّة والقيم الإسلاميّة مثل العدل والحريّة والأمانة والمساواة وتحرير الإنسانيّة وإخراجها من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد –وحده- ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، وكذلك اكتشاف خصائص الإسلام وصفات أمَّته، ومنها:
أولًا: عالميَّة الإسلام وكونيّته وعموم رسالته وشمولها في الإنسان والزمان والمكان. وما تتطلبه هذه العمليَّة من شروط في مقدمتها السعة والمرونة والانفتاح على سائر الأنساق الحضاريّة والثقافيّة في العالم والتداخل معها، والتصديق بالقرآن الكريم ومقاصده عليها واستيعابها وتجاوزها إلى الأفضل دائمًا بعد ترقيتها.
ثانيًا: حاكميَّة وهيمنة كتاب الله -تبارك وتعالى- على كل مَا عداه فهو الحكم والمرجع، والمصدر المنشئ للأحكام وحده، ولكل تصورات المسلم وأفكاره ومواقفه ومنطلقاته.
ثالثًا: شرعة تخفيف ورحمة ناسخة لكل مَا سبقها من شرائع الإصر والأغلال ومهيمنة عليها.
رابعًا: نبوة خاتمة تمثل رسالات الأنبياء كافّة، وتشتمل على الهدى -كلّه- فلم تعد البشريّة بحاجة بعدها إلى نبي مرسل أو وحي يوحى.
خامسًا: أمّة مخرجة للناس نموذجًا ومثالًا([2])، ومكونة بحيث تكون قادرة على استقطاب البشريّة وقيادتها نحو الهدى والحق.
وهكذا أخرج الله -تبارك وتعالى- هذه الأمَّة المسلمة للناس في مبتدأ أمرها بحيث لا تحتاج بعد مَا ذكر إلّا إلى علماء ربانيّين ومجتهدين قادرين، يجددون لها فهم ديننا وينزلون الواقع على قيم الوحي مقاصده العليا الحاكمة: «التوحيد والتزكية والعمران» مهما كانت متغيراته التاريخيّة والاجتماعيّة ويصوّبون فهمها له بما ينفونه عن حقيقة الدين من تحريف الغاليين، وانتحال المبطلين وتأويلات الجاهلين في كل عصر ومصر، ويعرفون كيف يربطون الناس بالكتاب الكريم والسنّة المطهرة في كل عصر ومصر، ويردونهم إلى كل منهما ردًا جميلًا كلما طال عليهم الأمد وقست منهم القلوب.
بين المطلق والنسبيّ والمصادر التشريعيّة
لقد ختمت النبوة. مَا في ذلك شك عند أي مؤمن بالنبوة عدا «القاديانيّة» وأولئك الذين لم يعترفوا بخاتم النبيّين، وظلّوا ينتظرون نبيًا خاتمًا يتمثل بالمسيح عند النصارى، والمسايا عند اليهود، وبقي الكتاب الكريم والقرآن العظيم مطلقًا مستمرًا في إطلاقه مع صيرورة الزمان ومتغيرات المكان، وتعاقب القرون والأجيال من بني الإنسان؛ ليعطي القرآن الكريم الإسلام آفاقه المتجددة بتغاير العصور مؤصِّلًا لعقيدة الإسلام الثابتة، مبينًا لقواعد شريعته؛ فهو الدين الإلهيّ الَّذِي أمر الله -تبارك وتعالى- البشريّة أن تدين به منذ الإيحاء إلى أول نبي حتى إرسال خاتم النبيين، ولكن بمفهوم شامل عالميّ عام، وبفهم متجدد دائم التجدد ومستمر لكتاب الله –جل شأنه- الخالد المطلق ولسيرة وسنّة رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلّم- التي تمثل بمجموعها منهجًا «للتلاوة حق التلاوة، والاتّباع والتعليم ومثالًا للفهم والتأسي والاقتداء والاهتداء لا التقليد الحرفيّ السطحيّ».
وإنّ الإسلام بقواعده الأخيرة التي اشتمل عليها القرآن الكريم هُوَ دين الله -تبارك وتعالى- الَّذِي لا يقبل الله من أحد من عباده غيره، وهذا يقتضي هيمنة القرآن العظيم هيمنة دائمة مستمرة على كل مَا عداه؛ إذ لا يمكن لفهم بشريّ لأهل أيّ عصر من العصور أن يحيط به ويهيمن عليه ويضع مدلولاته في قوالب نهائيّة لا تسمح بأيّ فهم آخر، وإلاّ لفقد القرآن المجيد الإطلاق وتحول إلى نص نسبيّ في زمانه ومكانه، أو تاريخيّة تمكن الهيمنة على معاينة بالتفسير والتأويل الإنسانيّ الخاضع لمتغيرات الزمان والمكان والإنسان والحوادث والأعراف والثقافات والتقاليد.
لهذا لم يقيد رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلّم- معاني الكتاب المطلق بتفسير نهائيّ من عنده([3])؛ بل مثل باتّباعه للقرآن الكريم وتعليمه للناس وبسنّته وسيرته مَا اشتمل عليه الكتاب وأحكامه بشكل يوضح منهجيّة التأسي والاتّباع اللذين أمر الله -تبارك وتعالى- الناس بهما، وهذا فيما يتعلق بآيات الأحكام التي لا تتجاوز على أعلى تقدير واحدًا من اثني عشر من آيات الكتاب الكريم، أمَّا الباقي فجله آيات مطلقة تستوعب الأزمنة –كلّها- وكذلك الأمكنة بحيث يستطيع أهل كل عصر أن يستفيدوا من معانيها بما ييسره الله -تبارك وتعالى- لهم، من مكنونها الَّذِي يتكشف فيما إذا تدبّروا هذا القرآن العظيم الميسر للذكر، والتأمل والتدبّر حق التدبّر الَّذِي يسره الله -تبارك وتعالى- لكل متدبّر ومتذكر؛ بل واجب عليهم التدبّر، فالسنّة النبويّة المطهرة تمثل في غير جوانب الأحكام والبيان الضروريّ والمباشر لآيات الكتاب – وبجانبها العمليّ خاصّة تطبيقًا يمثل أعلى مراتب الفهم والتطبيق الدقيق، وفي جانبها التقريريّ وفي جانبها القوليّ، تمثل أدق أنواع البيان لآيات الكتاب الكريم بعد بيان القرآن لنفسه لتقدم السنّة –بمجموعها- منهجيّة التأسي برسول الله –صلى الله عليه وآله وسلّم- وعلينا أن ندرك الفروق الكبيرة بين التأسي والاتّباع والاقتداء والتقليد. فالتأسي والاتّباع والاقتداء –كلّها- أمور تقوم على حجيّة الدليل، والعلم به وفهمه وإدراكه. أما التقليد فهو محاكاة ومتابعة وقبول ذلك دون نظر في دليل.
وكل تراثنا بعد ذلك يندرج أمام إطلاقيّة القرآن العظيم في دائرة النسبيّ الَّذِي تحيط به المؤثرات الزمانيّة والمكانية وثقافة المجتهد والمفكّر الخاصّة، وتؤثر عليه بيئته الاجتماعيّة والفكريّة وحين ندرك ذلك إدراكًا موضوعيًّا مع تفهمنا في الوقت ذاته لخصائص الرسالة الإسلاميّة الخالدة الخاتمة بعقليّة كليّة قادرة على فهم القيم الحاكمة والمقاصد الشرعيّة والغايات الدينيّة فإنّنا –آنذاك- نكون قادرين على اكتشاف الكثير والكثير من مواقع الضعف في تراثنا بجانب الكثير والكثير من نقاط القوة فيه.
([1]) راجع مؤلفنا: الجمع بين القراءتين قراءة الوحي وقراءة الكون (مكتبة الشروق الدوليّة –القاهرة).
([2]) وفي هذا تختلف الأمّة المسلمة عن بني إسرائيل الذين يشكلون «أمّة مدخلة» إذ قيل لهم «ادخلوا الأرض المقدسة» فحياتهم مرتبطة بهذه الرقعة المحدودة. أما الأمّة المسلمة فقد قيل في حقها «كنتم خير أمة أخرجت للناس».
([3]) لم يقم عليه الصلاة والسلام بتأليف تفسير بالمعنى الاصطلاحيّ للتفسير –كما ذهب إلى ذلك بعض العلماء- عدا آيات قليلة علمه تفسيرها جبريل –عليه السلام- وفيما عدا ذلك فإن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلّم- ترك للناس مع كتاب الله سنّته وهديه وسيرته. وللسنّة مفهومًا وللتفسير مفهومه، ولو أن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلّم- فسر آيات الكتاب الكريم كلّها، وبالمفهوم الاصطلاحيّ للتفسير لما جاز لأحد أن يفسر القرآن المجيد بما لم يفسره به رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلّم- ولوقع كل أولئك المفسرين ومنهم الصحابة والتابعون الذين أثرت عنهم مأثورات كثيرة في التفسير تحت طائلة الوعيد النبويّ. وما فائدة الأمر بالتدبر إذا كان مَنْ أنزل عليه القرآن العظيم قد فسره كلّه، وكيف سطر الفقهاء من «أهل الحديث وأهل الرأي» كل تلك الآراء والمذاهب الاجتهاديّة التي جعلت بعضهم يستنبط من الآية الواحدة عشرات المسائل؛ بل لقد كان بعض العلماء يستنبط من الآية الواحدة مئات المسائل. فهل ثبتت عندهم تلك المفهوم بأحاديث تفسير؛ أي: إنَّ رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلّم- قد ذكر كل تلك المسائل في تفسيره. ولقد ذكر الرازي في مقدمة تفسيره بأنّه لو شاء أن يضع في تفسر الفاتحة وحدها وقر بعير لفعل دون أن يفرغ من معانيها. فهل قصد هو وأمثاله أن يرووا تفسيرًا عن النبي –صلى الله عليه وآله وسلّم؟ وما حكم هؤلاء وتفاسيرهم التي بلغت الآلاف إذا كان هناك تفسير نبويّ تجوزه المفسرون بما في ذلك أولئك الذين جمعوا أقوال الصحابة والتابعين في التفسير؟ إنَّ الفرق كبير جدًا بين السنّة والتفسير، فإنّ سنّة رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلّم- مجموع أقواله وأفعاله وتقريراته وهي تطبيقات وبيان للقرآن المجيد، لكنها لا تسمى تفسيرًا بمعناه الاصطلاحيّ، والله أعلم.