طه جابر العلواني
“الهُوِىُّ”: سقوط من علو إلى سُفْل. وإذا فتحت الهاء فصارت “الهَوِيّ” يمكن أن تدل على الذهاب في ارتفاع. و”الهَوَى” مفهوم تناوله القرآن المجيد في مواضع عديدة، للدلالة على ميل النفس إلى الشهوات الهابطة؛ لأنّها تهوى به وتهبط به، فكأنّها أنزلته من علوّ لتهوى به وتهبط به إلى أسفل. وقوله سبحانه: ]فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ[ (القارعة:9) فهي مثل قولهم:”ثاكلة”، فكأنّه لم يسقط –وحده- بل سقطت أمُّه بسقوطه وهوت بثكلها له. و”الهاوية” اسم من أسماء النار كذلك. ]وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء[ (إبراهيم:43) أي خالية، فهي بمنزلة “الهواء في الخلاء” في نظر العامَّة الذين لا يلتفتون إلى مكونات الهواء. ويقال: “رأيتهم يتهاوون” أي: يتساقطون بعضهم فوق بعض أو في أثر بعض.
وقد اشتد تحذير القرآن المجيد من “الهوى”، فقال –سبحانه-: ]وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ[ (ص:26) وقال -جل شأنه-: ]وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ[ (الأعراف:176) وقال –تعالى-: ]وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا[ (الكهف:28) وحذر رسوله الكريم –صلى الله عليه وآله وسلّم- من اتباع أهواء أهل الكتاب: ]وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ[ (البقرة:145) وقوله تعالى: ]وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ[ (الرعد:37) وقوله تعالى: ]ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ[ (الجاثية:18)، والشياطين تستهوي: ]كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ[ (الأنعام:71)، وقوله تعالى: ]فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ[ (الشورى:15)، وقوله تعالى: ]فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ[ (القصص:50)، وقوله تعالى: ]وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى[ (النجم:53)، فاتباع “الهوى” سقوط وهبوط، قال تعالى: ]أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ[ (الجاثية:23).
وهذا النوع من السقوط والهوى يتنوع ويأخذ أشكالاً عديدة فأحيانًا يكون سقوطًا في الاعتقاد وهذا النّوع في حضيض الشرك، أيّ شرك وأحيانًا، يكون سقوطًا في الفكر وهبوطًا عن مستوى التفكير الصحيح، وأحيانا يكون في التصرف والسلوك والوقوع في المعصية؛ فكأن الله –تبارك وتعالى- قد ارتقى بآدم وبنيه بعد الهبوط الأول من الجنة بالتوبة والكلمات التي تلقّاها آدم فتاب الله بها عليه؛ وبذلك بلغ الإنسان مستوى القيام بمهمة الاستخلاف، وحفظ الأمانة وأدائها، والنجاح في اختبار الابتلاء بعد الوفاء بما عاهد الله عليه، فيأتي الهوى وهو مصيدة الشيطان لابن آدم؛ ليضل الإنسان عن سبيل الله وليهوي به عن مستوى الكرامة التي أرادها الله -تعالى- له؛ فإذا بادر الإنسان إلى الذكر والتذكر فسيعود إليه بصره وبصيرته. وحين يرد الله –تعالى- عليه بصره وبصيرته يتذكر كرامته على الله وعهده معه، ومهامه التي أنيطت به فيتغلب على الهوى وعلى الشيطان ويتجنب –آنذاك- بدوام الذكر، واستمرار التذكر أن يصاب بالغفلة أو العمى أو مجرد العشو الذي يمكن الهوى منه ويجعله قادرًا على الاستبداد به وتولي زمام قيادته ]وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ[ (الزخرف:36).
إنّ الهوى كما يصوره القرآن المجيد هو منبع سائر الشرور والانحرافات، فهو الذي يبعد الإنسان عن التزكية، وينحرف به عن الاستقامة، ويهوي به في مهاوي الهلكة. والهوى ميل للنفس ورغبة جامحة للاستجابة لما تريد؛ ولذلك فإن الله –تبارك وتعالى- قال: ]وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى[ (النازعات:40-41) فإذا نفس الإنسان تنازعه للانسياق وراء الهوى فإذا فعل وأسلم قياده إليه فإنه سوف يستبد به وإذا حدث ذلك واستبد الهوى بصاحبه؛ فإنه سوف يظل يحاول إحكام السيطرة على ذلك الإنسان حتى يصبح وكأنه إلهه فيقوده حيث يشاء. ولن يقوده إلاّ إلى مهاوي الهلكة، ودركات الفساد والانحراف. وكل ما نراه من انحرافات في مجتمعاتنا في الذين استكبروا وفي الذين استضعفوا إنما هي انحرافات نجمت عن تحكم الهوى وإسلام الناس زمام نفوسهم إليه واستبداده بهم؛ فعظائم الذنوب وأمّات الكبائر حين نبحث عن مصادرها، فإننا نجد منبعها ومصدرها هو اتّباع الناس أهواءهم، واستبداد أهوائهم بهم، وإخراجهم من دائرة عباد الرحمن إلى دائرة أولياء الشيطان.
والعاصم من ذلك اتباع منهج الله –سبحانه وتعالى- في مراقبة الإنسان نفسه ومحاسبته لها ونهي نفسه عن اتّباع الهوى وفرض الاستقامة عليها، وإذا نازعت الإنسان نفسه واشتكت إليه أنها محرومة من الرفاهية وممنوعة من كثير من الطيبات، فلينظر إلى من هو أقل منه؛ فإذا دفعه هواه للتبرم من الفقر، فلينظر إلى من هو أفقر منه، وليحمد الله دون أن يحول ذلك بينه وبين التطلع إلى ما هو أفضل؛ ولكن بالطرق المشروعة ليحدث التوازن وإذا تطلعت نفسه إلى الجاه والنفوذ والسلطان، فلينظر أيضا إلى ضعفاء الناس وعامتهم لئلا يندفع في تلك المشاعر فيتحول من مناصر للعدل، وداع إلى المساواة، ومتطلع إلى حقوقه في الحرية والعدل والمساواة وسائر الحقوق الأخرى إلى ساعٍ لأن يعلو في الأرض كما علا آخرون -وآنذاك- يتحول من زمرة رواد الإصلاح إلى زمرة الذين يريدون أن يكونوا جبابرة في الأرض، ولا يريدون أن يكونوا من المصلحين.
إنّ كثيرًا من الدعاة قد غفلوا عن محاسبة أنفسهم ومراقبتها؛ ولذلك سقط بعضهم عن مستوى ريادة الإصلاح وإرادته إلى مستوى الذين أرادوا العلو في الأرض فنالوه وأرادوا الاستكبار فيها فسقطوا فيه. إنّ هناك نماذج كثيرة رأيناها في عصرنا هذا لأناسٍ كان كل ما ينادون به الإصلاح، ومنح الناس حرياتهم، وتحقيق العدل فيهم وبينهم، وإعلاء روح المساواة في كل شيء؛ ولكنهم حينما غفلوا عن ذلك الهوى وجدوا أنفسهم يسلكون مسالك أهل الجاهلية في الاستكبار، وفي الاستعلاء، وفي استضعاف الآخرين وخرجوا عن دائرة ]الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ[ (الحج:41) ليسقطوا في دائرة المفسدين ولن تغني عنهم آنذاك صلاتهم وصيامهم، وتكرارهم القول بأنهم مسلمون أرادوا نصرة الإسلام؛ إذ لا تصدق أعمالهم أقوالهم ولا تؤيد تصرفاتهم وسلوكياتهم دعاواهم وشعاراتهم؛ لذلك فإن الإنسان إذا ما احتاج إلى مراقبة صحته وإخضاع جسمه إلى الفحوص الدائمة المستمرة فإنه أحوج ما يكون إلى مراقبة نفسه ومحاسبتها ولقد كان أئمتنا من أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلّم- وآل بيته أمثال الشيخين وعلي وغيرهم كثيرا ما يتضرعون إلى الله وهم يراقبون أنفسهم، ويحاسبونها أن يحميهم من شرور أنفسهم ولقد كان –صلوات الله وسلامه عليه- وهو سيد المرسلين، وخاتم النبيين الذي منّ الله عليه بالعصمة يردد في خطبه وكلماته “نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا” فما بالكم بنا ونحن لا نملك ما يحمينا من شرور النفس، وانسياقها وراء الهوى إلاّ الاستمرار بالمراقبة والمحاسبة. كثيرا ما كان يسمع أبو بكر وعمر وعلي وعائشة وغيرهم من قراء الصحابة وأئمة آل البيت يخاطبون الدنيا في قيامهم وصلواتهم قائلين: “يا حميراء يا صفيراء غري غيري غري غيري طلقتك ثلاثا” وكثيرا ما كان يروي مصاحبوهم عنهم ذلك البكاء، واللجوء إلى الله والاستعاذة به أن يحميهم من شرور أنفسهم وسيئات أعمالهم واتّباع أهوائهم لما غرسه القرآن الكريم بهم وفيهم من وعي على الهوى وخطورته وما يمكن أن يجر إليه. ولعل مواقيت الصلاة والتوزيع الإلهي لها على الأوقات لكي تجعل الإنسان يقظًا على الدوام مراقبًا لنفسه محاسبًا لها. شوهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أثناء خلافته وهو يحمل قربة ماء في سوق المدينة يسقي الناس فقيل له في ذلك: ما الذي حملك عليه فقال –رضي الله عنه-: “أعجبتني نفسي فأردت أن أذلها”.