Menu
منهجية التعامل مع التراث الإسلامي - مراجعة لكتاب من أدب الاختلاف إلى نبذ الاختلاف - أُمْنِيّة أهلِ السجود([1]) - The future of Islam in America and west - جانب من جلسات فريق باحثي الأزهر للعمل على وضع منهجية مراجعة التراث - حوار حول الربيع العربي - الإسلام والمسلمون من وجهة نظر غربية - برنامج اخترنا لمكتبتك - معالم في المنهج القرآني - ومضات فكرية

لحى رجال الشرطة وفقه الأولويات

أ.د طه جابر العلواني

بين وجوب وندب

يقول الله جلّ شأنه: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (فاطر:1). لقد ذهب بعض أهل التأويل إلى أنَّ اللحية من الزيادة في الخلق، قد جعلها الله –سبحانه وتعالى- حلية للرجل، وقد أَلِف العرب إطلاقها، وكانوا يرون أنَّ حلقها إشارة إلى التخنث والرغبة عن خشونة الرجال. وحينما عمّت أنوار الإسلام جعل رسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- إعفاءَها مع تشذيبها والعناية بها من خصال الفطرة؛ مثل قص الأظافر وإزالة شعر الإبطين والعانة وما إلى ذلك، ولم تصبح مثار جدل إلا حين دخلت الإسلام شعوبٌ ألفت العناية بإعفاء الشوارب والعناية بها وحلق اللحى أو إنهاكها بالقص. وثمّة آثار قد وردت بأنّ تميُّز المسلمين عن سواهم يقتضي المغايرة في الأشكال أحيانًا، فورد في بعضها خبر: “احفوا الشوارب وأطلقوا اللحى، خالفوا المجوس“، والمجوس هم مَنْ كانوا يعيشون في فارس، وقد ألفوا خلاف ما ورد في الخبر، وقوله عليه الصلاة والسلام: “خالفوا المجوس” جعلت أهل العلم يذهبون إلى أنَّها مطلوبة على مستوى القدر المشترك بين الوجوب والندب؛ فقال جمهرة أهل العلم بوجوبها أخذًا بظاهر “خالفوا”، وذهب الشافعيَّة ومَنْ إليهم بالقول بأنَّها مندوبة بناءً على أنَّ الأصل عدم التكليف، وأنَّ صيغ التكليف تُحْمَل على الحد الأدنى الذي يسقط التكليف به؛ ألا وهو الندب في هذه الحالة، وبما أنَّ “خالفوا المجوس” لم يقع على صيغة العلّة بشروطها، بل هو شبه علّة فقد اعتبر الشافعيّة ومَنْ إليهم القول بندب إعفائها كافيًا في القيام بما دلّ عليه الأثر وما دلّت عليه الآية –المذكورة آنفًا- القائلة بأنَّها زيادة في الخلق لأغراض تحسينيَّة، ليست ضروريَّة ولا حاجيَّة.

سنته –عليه السلام- حالَ الخلاف

لقد دأب رسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- منذ نزول الكتاب الكريم على تلاوته على الناس وتعليمهم آياته ومنهج اتباعها وكيفيَّته، كما دأب على تزكيتهم بها، وما يزالون يختلفون في فهم نصوصه. وحين أمرهم رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلَّم- في الواقعة المشهورة: “مَنْ كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يصلينّ العصر إلا في بني قريظة” أخذ بعضهم بظاهر اللفظ واعتبر صلاة العصر في بني قريظة واجبًا، فلم يصلِّ العصر إلا هناك. وكان الوقت قد جاوز العشاء، وفهم آخرون أنَّ رسول الله –صلّى الله عليه وآله وسلَّم- إنَّما أراد أن يستعجلهم؛ ليتمكن من مباغتة العدو، فصلّوا العصر في الطريق بسرعة لئلا يتأخّروا عن الوصول إلى بني قريظة، ووصلوا مع أو بعد إخوانهم بقليل جدًّا، وحين ذكروا ذلك لخاتم النبيّين -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- لم يُخَطئ أيًّا منهم، بل قال لكلٍّ من الفريقين: “أصبت السنَّة“؛ أي: الطريقة الحميدة التي أنا عليها؛ لأنَّ انشغالهم بالجدل فيمن أصاب وأخطأ سوف يعمِّق اختلافاتهم، وقد يُذهب ريحهم، ويدفعهم إلى التنازع فيفشلوا، فأراد -عليه الصلاة والسلام- أن يبيِّن قاعدة وسنَّة تتبع في ذلك الأمر وفي غيره إلى يوم الدين؛ وهي: أنَّ للمسلم أن يأخذ بظواهر ألفاظ الخطاب والنصوص دون نظر إلى المعاني والقصود، أو أن يلاحظ المقصد والمعنى ويأخذ به.

اللحية قديمًا

ولم تبرز مشكلة اللحية والشوارب على أنَّها مشكلة أو قضيَّة مطروحة للجدل إلا حال الحديث عن بعض الأقوال التي تشير إلى الربط بين طول اللحية وتجاوزها القبضة وبين الحماقة، حيث ردَّد بعض الناس أقوالًا: إنَّ طول لحية الرجل مظنَّة الحمق والجهالة؛ أي إذا جاوزت حدّ السنَّة وهو القبضة، كما إنَّ بعضًا ربما انتقد الرجل طويل اللحية إذا قارف مخالفة أو ارتكب ذنبًا؛ وذلك بأن يعاتبه على أنَّ طول لحيته لم يمنعه من مقارفة الخطأ أو السقوط بالذنب، إشارة إلى أنَّ إعفاء اللحية والعناية بها علامة وسمة تدل على تديُّن الإنسان والتزامه بالسنَّة، فتُستغرب من مثله المخالفة أو الجرأة على مخالفة السنَّة. وقد وقع في شعر بعض الناس ما يشير إلى الاستعانة بالإعفاء؛ كقول المتنبي:

أَغَايَة الدِّين أنْ تحفوا شَواربَكم يَا أمَّة ضحكتْ مِنْ جَهلهَا الأُمَم

وقول الآخر:

أَلا لَيتْ اللّحى كَانتْ حَشِيشًا فَنَعلِفَها خيولَ المسلِمِين

وما إلى ذلك، لكنَّ المسلمين لم يتغير موقفهم من كونها من خصال الفطرة، إعفاؤها دائر بين الندبيَّة وبين القدر المشترك بين الوجوب والندب، واحترام صاحب اللحية نابع من كونه  صاحب هيئة تنم عن تدين وتمسك بالسنَّة، ولكنها لم تكن مثار جدل إلا بمثل القدر المحدود الذي أشرنا إليه.

مشكلة أم ملهاة

إنَّ جيوشنا وأجهزة الشرطة لدينا في جميع أنحاء العالم الإسلاميّ تم تشكيلها وتدريبها على أيدي خبراء ومختصين من دول أخرى؛ في مقدمتها بريطانيا وروسيا وأمريكا وفرنسا، وكل هذه البلدان تنطلق من حضارة كانت تنظر إلى الشعر -بصفة عامَّة- لدى الرجل على أنَّه مما ينبغي أن يُزال، عدا ما جرى العرف على المحافظة عليه؛ كشعر الرأس والحاجبين. وكانت هناك عناية بالشوارب كعناية المجوس القدامى بها، وقد نقلوا كل ما يتعلق بمظاهر الفحولة والرجولة إلى الشوارب الطويلة المنسقة، ولقنوا جنودهم وضباطهم بأنَّ وجه العسكريّ ينبغي أن يكون نظيفًا من كل شيء؛ ومنه شعر اللحية، فنظروا إليه على أنَّه بمثابة الأوساخ التي تُلمّ بالوجه ويجب أن تُزال؛ لأنَّ الشيب يُسرع إليها، وقد يبدو الجنديّ أكبر من عمره إذا ظهر الشيب في لحيته. وكانوا لا يرون الخضاب وتغيير لون الشعر بالأصباغ، فيفضلون الحلق على ذلك كله، وصار من المألوف لدى تلك الجيوش التفتيش الصباحيّ على الجند للتأكد من أنَّ وجوههم وملابسهم نظيفة، ومن أوائل ما يفحصون الوجه؛ حيث يأتي الضابط بورقة فيحركها على وجه الجنديّ الحليق فإن أحدثت صوتًا فذلك يعني أنَّه لم يُحسن حلق لحيته، فيعرّضه ذلك للعقاب والمساءلة كما لو أنَّه لم ينظف ملابسه وسلاحه ويلمع حزامه وحذاءه. وقد نقل إلينا أولئك الضباط والمدرِّبون والجيوش التي تَدرَّب أبناؤنا فيها تلك التقاليد، وصار الضابط والجندي إذا برزت لحيته ولو قليلاً فإنَّها تتحول عنده إلى مصدر اكتئاب وإهمال، مع أنَّ أبناءنا وإخواننا في الباكستان والخليج وغيرها تدرَّبوا في مثل تلك المدارس، لكنّ بعضهم حافظ على لحيته؛ فأعفاها ولم يحلقها، ولم يؤثر ذلك أي تأثير على قيامه بواجباته، وما سمعنا من أحد ممن نعرف من ضباط وقادة أنَّهم وجدوا أنَّ من لا لحية له أكثر إتقانًا لمتطلبات مهنته ممن لديه لحية بأي شكل من الأشكال، وما كنا نتوقع أن تُثار مشكلة اللحية ويُشغل الناس بها في وقت أجمع الناس كلهم فيه على أنَّ البلاد تُعاني من انفلات أمني، وتتعرض لتهديدات اقتصاديَّة خطيرة، ويُهيمن عليها شبح مجاعة. ولديها ملايين المشردين من أطفال الشوارع، وملايين أخرى من سُكَّان المقابر، ونصف أهلها تحت خط الفقر، وهناك الملايين من العوانس والعزاب، والمطلقين والمطلَّقات، والبيوت الخربة، والعاطلين عن الوظائف والأعمال، ومئات الألوف الذين يعملون في مهن وأعمال لا تُثمن ولا تغني من جوع. وآلاف يقذفون بأنفسهم في عباب  البحور التي يغلب على الظن الموتُ فيها بحثًا عن لقمة عيش على ضفاف البلدان الغنيّة، فيبلغوا الدار الآخرة قبل أن يبلغوا تلك الشواطئ ! بلد نُهبت خيراته ولم يُسترد منها شيء حتى الآن، فيحدث خلاف فيه حول لحية ضابط الشرطة، ضابط الشرطة الذي سُخِّر -حين كان يعمل في العهد السابق- لأغراض القائمين على النظام، ودُفع بعض أفراده للسقوط في أبشع الجرائم؛ جرائم التعذيب حتى الموت، وانتهاك العرض، والوقوف في وجه إرادة الشعب، والوقوف في وجه ثورته، وحصد أرواح المئات من أبنائه. هذا الإنسان الذي كان ينبغي أن يُهْتَم أول ما يُهتم بإعادة تأهيله ليكون في خدمة الشعب، وحراسته من غول النظام وانحرافاته، فالأصل في هذه القوَّات أنّها قوات الأمَّة والشعب لا قوات الحاكم والنِّظام. فلا شك أنَّ الفريضة الغائبة كانت في تأهيل هؤلاء ليكونوا في خدمة الأمَّة والشعب وأغراضهما، وليكونوا حرَّاسًا أمناء للشعب من كل مَنْ يريدون انتهاك حرمته بما في ذلك النظام ورجاله.

يَعلَم الخبراء أن إعادة التأهيل هذه قد تحتاج إلى سنين للتحوّل إلى ثقافة، فلم نسمح لأنفسنا جميعًا أن نُستدرج للنقاش والجدل بعيدًا عن أولويّاتنا، والفرائض الغائبة، بل والضروريَّات المنسيَّة؟ وإلى متى نظل ألعوبة بأيدي أولئك الذين أتقنوا لعبة إشغال الأمم وخلط الأوراق لديها، وإصابتها بعمى الألوان كي لا تعرف أو تدرك أولويَّاتها؟ وأين أهل الرشد الذين يقولون كفانا انشغالًا بسفاسف الأمور عن معاليها، وكفانا اضطرابًا في تحديد الأولويَّات، وانشغالًا بأنف البلكيمي عن أنف مصر التي أُهينت في الآونة الأخيرة عدة مرات؛ في قُضاتها وسياسيّيها وعسكريّيها و… و… ؟!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *